الجمعة، 19 أبريل 2013

في مصر كله بالقانون


القانون في مصر شأنه عجيب ووضعه غريب .. إنه منظومة متكاملة صيغت بحبكة وجودة منقطعة النظير، لكنها وضعت على الأرفف لاستخدامها وقت الحاجة، عكس كل قوانين الدنيا التي تُفعل وتنخرط في حياة الناس من أجل تنظيم حياتهم وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية المنشودة.

ففي مصر حكمنا فراعين منذ قيام ثورة 1952 ولم يتزحزحوا عن كرسي الحكم إلا بالموت، رغم أن الدستور المصري نص على فترات حكم معينة، لكن لا ضير ما دام ترزية القوانين موجودون، حيث فصلوا قوانين تخدم فرعنة الفرعون وثباته على كرسي السلطة، وفي استفتاء شعبي وهمي مررت الطغمة الحاكمة القوانين الجديدة .. وكله بالقانون!!

وحسني مبارك حكمنا طيلة عهده بالقانون! ولم يعين نائب له متحديا القانون، ولم يجد من يجرؤ على الطعن بدستورية هذا التصرف، بل كان يمهد لولاية ابنه كما فعل حافظ الأسد بسورية، فاخترع له القانونيون «لجنة السياسات بالحزب الحاكم» وتولى ولي العهد رئاستها تمهيدا لساعة التنصيب .. وكله بالقانون!!  

ولقد صار راسخا في وجدان المصريين أن المباني الضخمة الأشبه بالقلاع والتي خُصصت للمحاكم، ما هي إلا مباني ديكورية لزوم السلطة القضائية، لكن الداخل مفقود والخارج مولود، فالبت في قضية ولو بسيطة يستغرق أعوام مديدة، والقضاة تسير في العملية القضائية سير السلحفاة، خاصة وأنهم لن يضيرهم شيء فالرواتب مجزية والامتيازات راقية والإعلام يشيد صباح مساء بالمؤسسة القضائية المصرية العتيدة، أما الخاسر الوحيد هو المواطن الغلبان.. وكله بالقانون!!

وفي مخفر الشرطة الغلبة فيه لمن يدفع أكثر، حيث تحبك له الأدلة ويخرج من المشكلة خروج الشعرة من العجين .. وكله بالقانون.

حتى السجن يتميز فيه المساجين حسب سخائهم، بل سجن المزرعة الفاخر بليمان طرة خير شاهد، حيث يسجن فيها الصفوة من رجال المال والأعمال والساسة الكبار .. وكله بالقانون.

وأذكر أنني إبان تعيني في وظيفتي الحكومية ألقوا بي في مجاهل الأرياف وزميلي ابن الباشا عينوه في وسط العاصمة، ولما سألت عن هذا، قالوا لي إن وكيل الوزارة له 10% استثناءات، أي بصراحة مجاملات، وهكذا تنص اللوائح .. وكله بالقانون!!

ومن طريف العملية الانتخابية الرئاسية الأخيرة بين د. محمد مرسي -حفظه الله-، والفريق أحمد شفيق، برر أحد المحللين صعود شفيق إلى هذه النسبة التصويتية العالية بالدلتا بأن محافظات الدلتا ليس لها ظهير صحراوي، وبالتالي قام المزارعون فيها بالبناء فوق الأراضي الزراعية، مستغلين ظروف الانفلات الأمني بعد الثورة، ووجدها أحمد شفيق فرصة، وأصدر وعوده منذ بداية حملته بأنه سيتم التصالح معهم، وعدم مؤاخذتهم بما فعلوا، برغم أن ذلك مخالف لقانون، ويدمر ثروة مصر من الأراضي الزراعية، لكنه أمر مباشر من رئيس الجمهورية .. وكله بالقانون!!

وبالقانون أخرجت سوزان مبارك من أتون المسائلة الثورية، وأخرج مبارك نفسه من السجن بقصة لا يصدقها ساذج، وبالقانون حصل مساعدي وزير الداخلية على البراءة، وبالقانون خرج مسئولي المنظمات الغربية من مصر، وبالقانون وقف علاء وجمال مبارك في قفص الاتهام كالأسود ليمنعوا الكاميرات من تصوير أبيهم .. وكله بالقانون

القوانين عندنا يا سادة لا يتم استدعائها إلا من أجل تمرير مصالح مشبوهة .. الآن في مصر صار عندنا مؤسسة قضائية ومحكمة دستورية تحل مجلس الشعب، بعدما أخذ تأسيسه جهد مضني، وتكلفة حوالي مليارين من الجنيهات، ووقتها كان قضاة المحكمة الدستورية في غفوة، ومرت الانتخابات بسلام ونزاهة لم تعرفها مصر من قبل، ثم استيقظ القضاة وحكموا بعدم دستوريته، ومن ثم حله، ومعاودة اللعبة مرة أخرى .. هكذا بكل ببساطة، دون النظر لمشاكل مصر السرطانية التي دخلت في مراحل متأخرة.

وأبواق الأعلام المشبوهة لا تكف عن المناداة باحترام أحكام القضاء، ورفض نظرية المؤامرة، وعدم التشكيك في قضاء مصر النزيه .. والمحصلة أننا نسير سياسيا في حلقة مفرغة، لا خروج لنا منها.

إن كنا سنستجيب لهذه التسالي السياسية، فمتى سننظر في أحوال المعدمين والمرضى والمهمشين، وأصحاب الإعاقاءت، وغيرها من المحن والإحن .. متى سنعمل؟ ومتى ستنهضي يا مصر؟ ومتى يعلوا صوت الإنجازات على صوت الدعاءات والمجادلات؟

إن المواطن في مصر أكله المرض والفقر، وهو غير معني على الإطلاق بكل هذه المهازل السياسية، ولا يضيره وجود مجلس الشعب أو حله، أو دستورية إجراء ما أو عدم دستوريته .. هو لا يرى إلا الأمل في أن يعيش عيشة كريمة، ويتصالح مع الأيام التي سرقت عمره دون انجاز يذكر، فلتكف شريحة المترفين القابعة أمام الكاميرات عن هذا الهراء السياسي، وليعود مجلس الشعب بأي صيغة، لنبدأ مسيرة العمل التي طال انتظارها، وننخرط مع الناس في همومهم وأتراحهم، ونعمل جاهدين على تذليل العقبات والمطبات، وإلا سيخرج الوضع عن السيطرة، وحينها سوف لا يبقي ولا يذر.

 

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

   

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق