الخميس، 29 أكتوبر 2015

الإعلام بين النزيف والتزييف




الروافد الإعلامية الرصينة تعتمد على الحقيقة ولغة الإقناع وتناول القضية من كافة زواياها المطروحة سواء المؤيدة أو المعارضة، لأن الحق في النهاية سيتضح، والباطل بطبعه زهوق. أما الإعلام الذي له أجندات خاصة فوسائله تختلف، فهو يجول ويصول في أروقة التكييف والترويض والبتر والإخضاع .. إن غياب الحقيقة والتضليل والإفك المتعمد -وإن طال أمده- سيأتي عليه يوما يدرك مدبروه أنهم قاموا بعملية انتحار مهني ليس له إلا مذبلة التاريخ، وفي الآخرة عند الله تجتمع الخصوم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]
قال -صلى الله عليه وسلم-: «بئس مطية الرجل زعموا» [صحيح الجامع: ‌2846] .. يعني كلمة (زعموا) أراد به النهي عن التكلم بكلام يسمعه من غيره ولا يعلم صحته أو عن اختراع القول بإسناده إلى من لا يعرف، فيقول: زعموا أنه قد كان كذا وكذا، فيتخذ قوله زعموا مطية يقطع بها أودية الإسهاب، وقيل سماه مطية لأنه يتوصل بهذا المقصود من إثبات شيء في المشيئة كما أنه يتوصل إلى موضع بواسطة المطية، وأكثر ما ورد في القرآن فهو في معرض الذم. قال الخطابي: وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا يثبت، قدم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من الحديث ما هذا سبيله وأمر بالتوثق فيما يحكي والتثبت فيه لا يرويه حتى يجده معزواً إلى ثبت. [فيض القدير للمناوي]
تقول د. غدير سعادة: "في بعض البلدان العربية لا وجود سوى غير للصحافة الرسمية، التي هي في معظم الأحيان وسيلة عرفان وليس معرفة. والمواطن في هذه البلدان يفتقر الى المناعة، فيصدّق من لا يَصْدقه الكلام. وغالباً ما تتحول وسائل اعلامية عديدة الى ناطق رسمي باسم مالكها.
على الرغم من أنها الدافعة الى التنوير والتعقّل والوئام، إلاّ أن الأنظمة الإعلامية الوطنية،  كثيراً ما تحاول أن تكون (الوكيلة الحصرية) في بعض الأحيان، لجماعات خاصة أو لبلدان، تتعارض مصالحها في كثير من الأحيان مع المصالح الوطنية".
ووسائل التضليل الإعلامي متشعبة تشعب الباطل نفسه، لكن نخص بالذكر منها «لغة التبرير» أو ما يحلو للبعض أن يسميها «النجومية»، كما قال الرئيس الأميركي السابق (جون كينيدي) بعد فشل الهجوم على كوبا في خليج الخنازير: "للنصر مائة أب، فيما الهزيمة يتيمة".
وفي عام 1917 أعلن (آرثر بلفور) وزير خارجية بريطانيا الوعد المشئوم المشهور باسمه «وعد بلفور» بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منه جعل بلاد فلسطين ملك اليهود، بإنشاء وطن قومي لهم في قلب العالم الإسلامي وفي أرض الإسراء، فقال الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) في رسالته المشهورة إلى الرئيس الأمريكى (جون كينيدى) فى مايو سنة 1962م : "لقد أعطى من لا يملك، وعداً لمن لا يستحق، ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة وبالخديعة، أن يسلبا صاحب الحق الشرعى حقه، فيما يملكه وفيما يستحقه". 
كلمات رنانة .. لكن تبقى في النهاية الهزيمة هزيمة، وتضخم إسرائيل مستمر، رغم تلك التصريحات النارية والبريق الإعلامي المطبل لها والمزمر.
ومن وسائل التضليل «الدعاية» التي هي في جوهرها عملية إقناع ممنهجة، وصارت ركنا ركينا من العملية الإعلامية، وتتبنى بالأساس الظهور بمظهر الصدق وإخلاص النصح –حتى ولو كانت تبطن الشر- من أجل كسب ثقة المتلقي والاستحواذ على فكره، وتلك سنة إبليسية، كما قال تعالى في شأن الملعون مع آدم وحواء: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] أي أقسم لهما بالله، وهو كاذب في هذا.
لقد أضحت الدعاية فننا له ثقله في العملية الإعلامية، وله قواعد وأسس تحكمه وتتحكم فيه مدارها على محاولة كسب تعاطف الجمهور بأي وسيلة شريفة كانت أم وضيعة، هذا مع مقومات أخرى مثل البساطة والتكرار لاختراق أذهان الناس، والولوج إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وكثرة، مع استخدام الرموز وضرب الأمثلة، فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن، وأن تستدعي الصور ذات الدلالة المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروثة أو المكتسبة.
يقول الأستاذ إبراهيم غرايبة: "ويكاد لا يكون ثمة فرق يذكر في وسائل العمل الدعائي بين الدول الديمقراطية والدكتاتورية، فقد لجأت جميعها إلى أساليب التأثير والعواطف وتحريك الحماس والحقد والكراهية والتمجيد، لا فرق في ذلك بين النازيين في الحرب العالمية الثانية أو الشيوعيين البلاشفة في مخاطبة العمال والمثقفين والفقراء، أو الرأسماليين الأمريكيين الذين يدعون إلى الليبرالية والحرية، أو الثوار الفرنسيين .. إنها دائما عند أصحابها وسيلة لتحقيق هدف، والعبرة بالمحصلة، ولا بأس بإخفاء الحقائق أو التدخل في تفسيرها أو حتى قلبها".
ومن أوجه التزييف الإعلامي (قلب المفاهيم) لتزييف الحقائق وطمس معالمها، ولو كلَّف ذلك لَيَّ أعناق المسلمات التاريخية، وتغيير مفاهيم وبديهيات ترسخت عند ذوي العقول السليمة: 
فعبارات الاستعمار بدلا من الاحتلال، ومستوطنات بدلا من مغتصبات، والمستوطنين بدلا من المحتلين، والتوجيه المعنوي بدلا من غسيل الأدمغة، ووزارة الدفاع بدلا من وزارة الحربية، والتبشير بدلا من التنصير، ومشروبات روحية بدلا من خمور، والفوائد والأرباح بدلا من الربا.
وعموما يسعى التضليل الإعلامي إلى خلق واقع جديد لا علاقة له بالواقع المتحقق الفعلي، وذلك بهدف خدمة مصالح أو أغراض خاصة.
لكننا لا بد أن لا نسرف في تضخيم قدرات التضليل الإعلامي والتوهم أنه مارد لا قبل للمجتمعات به، أو الإيمان كلية بما يردده البعض من أمثال الكاتب الأمريكي (هربرت شيللر) حين قال في كتابه «المتلاعبون بالعقول»: "مَنْ يسيطر على وسائل الإعلام، يسيطر على العقول".
وذلك لأن العالم الآن بات قرية مفتوحة تتدفق فيها المعلومات والأخبار بصورة لم تعهدها البشرية من قبل، ومن السهل تتبع الخبر هنا أو هناك، على عكس الماضي الذي كانت الروافد الإعلامية تعاني من احتكار رسمي حكومي أو رأسمالي خصوصي.
أضف إلى ذلك وجود «الإعلام الجماهيري» الموازي الذي استعصى على التكميم أو التعتيم، حيث توافرت أجهزة المحمول بأيدي الناس والتي مكنتهم من تسجيل الحدث في أرضه ولحظة وقوعه، وحتى قبل أن تصله كاميرات الإعلاميين ومراسليهم، وباتت الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي طافحة بمليارات الفيديوهات والصور الحية والهشتاجات والتعليقات التي تستعصي على التضليل أو التزييف.
كل هذا دعا رعاة الضلال الإعلامي إلى تغيير استراتيجيتهم عن طريق نشر وجهة نظرهم المضللة تجاه حدث معين في أكثر من قناة وموقع إلكتروني لكي يتوهم البسطاء أنه «إجماع شعبي» وطوفان جماهيري لا قبل لهم به، وتبدأ بدواخلهم عملية الشك في ذواتهم وآرائهم واستنتاجاتهم .. في عملية يشار إليها بالمثل الدارج: «الكثرة تغلب الشجاعة».
أيضا يعتمد التضليل الإعلامي المعاصر على البرامج الحوارية التي تستضيف المفكر والمحلل والباحث والخبير والمتخصص ممن يدينون بدينهم ويقضون ساعات وساعات في عملية غسيل أدمغة بلا كلل ولا ملل، وكما يقولون في الأمثال الشعبية: «الزن على الأذن أشد من السحر».
وهكذا تظل الحرب الضروس بين الحق والباطل، تتغير فيها الموازين تارة، وتتبدل فيها مراكز القوى تارة أخرى، لكن تبقى المثل والقيم حاجة ضرورية لمن يخوض بحار الإعلام ويتحمل أمانة هذه المهنة العظيمة.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com





الاثنين، 26 أكتوبر 2015

الإعلام .. قوة الضغط الناعمة


تنبثق قوة الإعلام من تأثيره على بلورة «الفكر» الذي هو المحرك لكل سلوكياتنا وتصرفاتنا، فبإمكان الآلة الإعلامية التي تعمل صباح مساء من تشكيل التصورات وتعديل القَناعات، بصرف النظر عن كونه تغييرا إيجابيا أو سلبيا، مقبولا أو مرفوضا، نافعا أو ضارا، محبوبا أو مكروها.
ويعتبر التأثير المعرفي للإعلام أعمق أثرا من التأثير السلوكي، لأن التأثير المعرفي بعيد الجذور يشمل الاعتقادات والآراء والهويات .. تلك التي تتأصل بدواخلنا وتتحكم بسلوكياتنا، بعكس التأثير السلوكي الذي يضمحل تدريجيا باضمحلال المؤثر، كما يحدث تماما في تخفيضات مواسم الشراء بالأوكازيونات.
والتأثير الإعلامي خفي في مضمونه، قوي في محصلته، الأمر الذي يصفه الخبراء بـ «قوة الضغط الناعمة» التي ترجع سطوتها من قدرة الإعلام على الاستمالة، والإقناع، والتنوع، والتكرار، والجاذبية، والإبهار، والانفتاح، وإشباع حاجات المتلقي، وقدرته على التغلغل في حياتنا، ومواكبته للأحداث التي تمر بنا، ومؤخرا قابليته لتفاعل المتلقي سواء على المواقع الالكترونية أو الاتصالات الهاتفية المباشرة مع مقدمي البرامج الفضائية.
يقول د. سعيد صيني: "وقد وجدت دراسة تحليلية غربية أن وسائل الإعلام تدفع الجمهور إلى تبني رأي معين من خلال إيهام المتلقي بأن موقفها يمثل الرأي العام، فتصفه مثلاً بأنه يمثل «الموقف الوطني» أو «الإحساس العام» أو أن «معظم الناس يؤيدون»،  أو من خلال اللجوء إلى التقاليد الاجتماعية، والادّعاء بأن الآراء الأخرى تخالف تقاليد المجتمع، وأنها آراء شاذة، أو عبر تقديم تفسيرات قانونية اجتهادية لتصبح أعمال أصحاب الآراء الأخرى وأنشطتهم خروجاً عن القانون، وإن كانت هذه التفسيرات غير مسلمة وقابلة للنقاش".
ويقول د. محمد الشواف: "ولقد أدركت الأمم المتقدمة سحر الإعلام وسلطته الضاغطة المؤثرة، فأنفقت الملايين لتحقيق سياساتها من خلاله، وإقناع الجماهير بشرعية خططها وبرامجها من خلال عملية غسيل الدماغ الجماعية، وصارت وسائل الإعلام تقوم بجزء من عمل الجيوش، وأصبحت الحروب الإعلامية تكلف أحياناً أكثر من الحروب التقليدية. ورغم أن الصحافة تسمى السلطة الرابعة إلا أنها باتت تنافس السلطات الثلاث، بل يتم من خلالها التلاعب بتلك السلطات، وابتزازها أو الانقلاب عليها أحياناً؛ لأن أجهزة الاستخبارات في كثير من البلدان صارت هي من يؤسس الصحافة ويوجهها، لتحقق أغراضها من خلالها!!"
أزمات إعلامية
التأثير الجبار والفعال للإعلام يحتم علينا جميعا التنبه لهذه القدرة الفائقة لأنها قد تحمل في طياتها جنة ونار، هداية وضلال، حق وباطل .. يتسرب كل هذا الزخم إلى المتلقي في خفاء -ودهاء أحيانا- لا يتفطن له الكثير، وكما أن قضية التأثير الإعلامي باتت من الحقائق والمسلمات العالمية التي لا يغفل عنها أحد، ينبغي أيضا أن يصير «الإعلام المنضبط» شاغلنا الشاغل، ذاك الإعلام الذي يمدنا بطاقة إيجابية ويحيد كل طاقة سلبية، إعلام يتجاوز أزماته وخبثه ويقدم لنا ثمرته النافعة اليانعة التي تتناغم مع هويتنا الإسلامية ومنظومتنا الأخلاقية، وتدفع مسيرتنا نحو الرقي المنشود، وتحبط كل مخططات الأعداء في مسخ الأفراد وطمس الأمجاد وتأجيج الشهوات.       
المصداقية
تأتي «المصداقية» كأحد أهم الأزمات التي تواجه الإعلام المعاصر، وتكمن خطورتها في اضطرار المتلقي إلى اللجوء إلى قنوات إعلامية خارجية بحثاً عن الحقيقة، وهذا يمثل بداية الانسلاخ الثقافي وفقد الثقة في ثقافته المحلية والقائمين على تسيير شئونه، مع سهولة السقوط تحت تأثير أي إعلام معاد لعقيدته ولوطنه وتراثه الثقافي والحضاري.
الحيادية
باتت «الحيادية» من أزمات الإعلام، حيث أصبح (الانحياز) السمة الغالبة، وأصبح نقل وتناول الخبر يعتمد على توجه وميول الوسيلة الإعلامية، وبعيدا عن الواقع والتوصيف الحقيقي .. فجولة واحدة لتتبع حدث معين في بضعة وسائل إعلامية تجد العجب العجاب حيث يظهر المجرم هنا بطلا في قناة أخرى، والخاسر رابحا، والأمر العادي عظيما، والشيء العظيم تافها، وهذه تصف الهبة الشعبية بأنها ثورة وتلك تقول عنها أنه تمرد، وهنا يوصف استلام الجيش للسلطة على أنه بناء على رغبة الشعب وهناك يوصف على أنه إنقلاب عسكري غاشم .. كل يوصف حسب الانتماء ونوع التغطية وموقف الوسيلة والقائمين عليها من الحدث، والغريب في الأمر أن الجميع يدعي المهنية وإظهار الحقيقة ويتحدث الحيادية وعدم الانحياز، وكما قال الشاعر:
كل يدعي وصلا بليلى .. وليلى لا تقر لهم بذلك
بل لقد تسربت آفة الانحياز إلى جمهور المتلقين، وصار تتبع أي قناة أو اختيار مطالعة صحيفة أو تفضيل موقع إلكتروني مبنيا على القناعات الشخصية، ومقياسا لتوجه الشخص الفكري والأيدلوجي والسياسي.
بين التربح والرسالة
من أزمات الإعلام الراهنة «طغيان التربح على الرسالة» .. وهذا الأمر تسبب في الجري وراء رغبات المتلقي البسيط بتسليط الأضواء على الغرائب وتأجيج الغرائز لتحقيق أعلى نسبة مشاهدة ومشاركة وبالتالي تدفق الإعلانات التي تمثل مواردها شريان الحياة بالنسبة للرافد الإعلامي، كل هذا أثر على المحتوى الإعلامي في ظاهرة يمكن أن يطلق عليها «الانفلات الإعلامي» حيث أصبح الدور الدعائي لوسائل الإعلام أكبر من دورها التثقيفي والتنويري، مع عجزها عن الوفاء بالمعايير المهنية اللازمة، وإدارتها لمصالح نخبة ضيقة، وعدم خضوعها إلي أي نمط من أنماط التنظيم الذاتي للإعلام أو الرقابة على الأداء وضمان الجودة وغياب الرسالة الرصينة، وكانت المحصلة تسطيح المتلقين من خلال برامج سطحية تافهة، لا تهيّج غرائز المتلقين فحسب، ولكن تمسح أدمغتهم، وتجعلهم عالة على مجتمعهم، وربما معاول لهدم بنيانه.
يقول د. خالد القحص: "يأتي التمويل للمؤسسات الإعلامية من عدة طرق، أشهرها هو الإعلان التجاري، أو من خلال جهة رسمية (كحكومة مثلاً). وهناك القنوات المشفرة التي تعتمد على الاشتراكات، بالإضافة إلى عائدات الرسائل الهاتفية، والتي أضحت مصدراً لا بأس به لتمويل القنوات الفضائية، وإن كانت مورداً غير ثابت، ذلك أنه مرتبط بمشاركة الجمهور، ولذا تلجأ بعض القنوات الفضائية إلى إثارة موضوعات حسّاسة اجتماعية أو طائفية أو سياسية لكي تغري الجمهور بالمشاركة. وهناك طريقة التبرعات وهذه مطبقة في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية حيث يساهم المشاهدون عبر تبرعاتهم لقناة معينة، والتي عادة ما تكون قناة اجتماعية هادفة، من أمثلتها خدمة التلفاز العام (PBS )"
ويرى الخبراء أن فكرة «الملكية التعاونية» هي أحد الأفكار المثالية لتحرر الإعلام من سيطرة رأس المال، حيث يقول عنها الأستاذ محمد جاد: "يقوم هذا النمط على امتلاك عدد كبير جداً من المساهمين في هذه الوسيلة أرصدة صغيرة، وينتخبون جمعية عمومية، ومجلس إدارة يعبر عنهم. وهذا النمط من الملكية يحافظ على أداء الوسيلة الإعلامية بمعزل عن التأثر بإستراتيجية مالك محدد أو عدد قليل من الملاك، كما أن زيادة عدد المالكين مع ازدياد دور الجمعية العمومية يزيد من مناعة وسائل الإعلام تجاه الضغوط السلطوية.
وتوجد العديد من التطبيقات الدولية الناجحة في مجال الملكية التعاونية لوسائل الإعلام مثل (وكالة الاسيوشيتدبرس)، حيث أنها من أكثر وسائل الإعلام محافظة على القيم المهنية والجدوى الاستثمارية وتعكس مصالح مالكين متنوعين، وترجع ملكية الوكالة إلي مساهمات عدد كبير من الصحف وقنوات الراديو والتلفزيون، التي تبث أخبار الوكالة وتنشر مادتها الإعلامية أيضاً من خلالها. وهناك اتجاهاً عالمياً للتوسع في الملكية التعاونية لوسائل الإعلام، ويتوافق هذا مع إعلان الامم المتحدة عام 2012 العام الدولي للتعاونيات، دعماً للدور البارز للملكية التعاونية في دعم التنمية".
لقد بات الإعلام صاحب دورا محوريا لا دورا تجميليا أو هامشيا كما يظن البعض، وأضحى صناعة لها فنونها ومهاراتها وميزانياتها، بل يعتبر دليلا على التحضر والعصرية ومواكبة التقدم، والأمة التي لا تضعه في دائرة اهتمامها القصوى حتما سيفوتها القطار.   
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

الجمعة، 23 أكتوبر 2015

من صحت بدايته صحت نهايته




في عام 1965م انتقد الزعيم الشيوعي الصيني «ماو» وزارة الصحة في بلاده لعجزها عن تقديم الرعاية الصحية اللائقة للمناطق الريفية في الصين، وقرر أن يتحرك فورا لتحسين الأوضاع. غير أنه أدرك أن الطريقة التقليدية بزيادة الاعتمادات المالية لميزانية الصحة مثلا- لن تنجح في إعطاء الأثر السريع الذي يرغب في إحداثه. فكان قراره هو تجاوز البيروقراطية والعمل بطريقة مختلفة. وقد كان لهذه الطريقة بالفعل نتائج مذهلة وجذرية.
قام «ماو» بتعيين جيش من الموظفين، يبلغ مليونا وثمانمائة ألف موظف، عرفوا فيما بعد باسم «الأطباء الحفاة» .. لم يكن هؤلاء الموظفون أطباء بأي معنى، وإنما كانوا مجموعات من السكان المحليين في كل منطقة ريفية، يحظون باحترام الناس وتقديرهم، مما جعل الناس يستجيبون لتوجيهاتهم.
تلقى هؤلاء الموظفون تدريبا يغطي قواعد الصحة العامة في المناطق الريفية، وتعلموا كيفية معالجة الأمراض الأكثر انتشارا في هذه المناطق، وعرفوا المعايير التي يجب عليهم عند ملاحظتها إحالة المريض إلى أقرب مستشفى متنقل توفره وزارة الصحة. وبهذا الأسلوب المبتكر تم تجاوز الخلل في الرعاية الصحية للمناطق الريفية!!  
عندما يواجه الإنسان شيئاً يمنعه من الوصول إلى هدفه، أو إنجاز ما يرغبه، أو يعترض مسيرته نحو تحقيق أحلامه وأمانيه .. فإنه يشعر بوجود مشكله أو عائق يسبب له التوتر والإحباط.
وعندما يتزايد بين البشر التنافس والتزاحم والصراع، وتسيطر المفاهيم والقيم المادية، وتتراجع القيم الروحية والدينية والأخلاقية .. تتضاعف متاعب الناس، ويتزايد بينهم العدوان المتبادل والمشاحنات، ويسقطون همومهم على بعضهم البعض، مما يفرض وجود حاجة ملحة لتعلم أساليب ضبط النفس والتحكم في الانفعالات، والتزود بمهارات حل المشكلات والتفاوض.
واجه مشاكلك
إنّ الانكماش لا يحلّ المشكلة إنّما يضيف إليها مشاكل أخرى، ولذلك فنحن حينما ندعو إلى مواجهة مشاكلنا، إنّما ننطلق من الترحيب بأيّة مشكلة تعصف بنا، لأنّها تستنفر أنبل وأفضل ما فينا من قوى روحيّة ونفسية وبدنية كامنة، وفي الحديث: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (1).
لا تُغرق نفسك في همومك، وخذ قرارك بالمبادرة .. فبعض الناس يُسلمون أنفسهم للقلق والتوتر والاكتئاب، ومن ثم يصيرون ضحايا لمشكلاتهم، وإذا لم تكن لديهم مشكلة اختلقوها .. هؤلاء يجب أن يتوقفوا عن إهلاكهم لأنفسهم .. فإن كانت لديك مشكلة حقيقية، ولديك حل لها، فلا تتردد في تنفيذه، وإذا لم تستطع حلها فلا تسرف في الانشغال بها، ولكن روّحْ عن نفسك ساعة، ثم فكر فيها، فإذا لم تجد سبيلا للحل فاستعن بذوي الخبرة والاختصاص.
إن لكل إنسان منا طاقة محددة للتعامل مع الضغوط والصراعات، فمن تجاوز حدود طاقته عرّض نفسه للاحتراق، وكثيراً ما يتعرض المرء منا لضغوط كثيرة شديدة في وقت واحد، لا تنهض بها قدراته، ولا يسمح بها وقته، وعندها يشعر بأن الأمر خرج عن السيطرة .. فإذا حدث لك ذلك فلا تستسلم، ولا تشتت نفسك فتحترق دون أن تحقق هدفاً، ولكن رتب أولوياتك حسب الأهمية، وحاول إنجاز الأهم فالمهم.
مهارات وخبرات
حل المشكلات ليس خطة آلية، تدخل فيها المعلومات من ناحية وتحصل على حل من الطرف الآخر .. إن «العنصر الإنساني» هنا عنصر شديد الأهمية، يشتمل على مهارات تضم صراعاً وتأثيراً وتقيماً وأشكالاً أخرى للتواصل:
·      لا تتصرف في الحال خلال الأزمات .. تمثل «الخلوة العلاجية» أحد الطرق للضبط الذاتي والسيطرة على النفس، واكتساب الهدوء والثبات، وتجنب الرعونة والغضب والتصرفات الحمقاء التي قد تكلف الفرد خسائر لا حصر لها .. وبالتالي فإن التريث والتمهل له دورا هاما في تجنب المزيد من المشكلات، وتفادي مضاعفاتها، وإعداد الفرد لمواجه متاعبه بأسلوب علمي صحيح. 
من خلال التدريب على جلسات «الخلوة العلاجية» يستطيع الفرد أن يعدل من أفكاره الخاطئة، وتفاعلاته التي تسبق مواجهة المشاكل المختلفة .. إنها مساحة للاسترخاء الذهني والروحي، وطرد أو إعاقة الأفكار المشوهة والمخاوف والمبالغات الانفعالية، ثم إتاحة الفرصة للقيم والمفاهيم الإيجابية عن التسامح والعفو ، ونبذ الغضب، والثبات الانفعالي.
فالشخص الذي يعاني من سرعة الاستثارة الانفعالية والغضب عليه أن يغرس في ذهنه ويكرر باستمرار قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:13]. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت34]. { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
كذلك فإن محاكاة سلوكيات ومواقف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، وكيفية معالجتهم للمواقف الصعبة، تجعل الشخص يعدل من استجاباته، ويحاكي هؤلاء العظماء في قوتهم النفسية في اجتياز هذه الاختبارات الصعبة بمهارة وثقة وثبات.
إن أسوأ شيء هو القفز مباشرة للفعل دون تحليل المعطيات .. «الخلوة العلاجية» تمنح صاحب المشكلة ذهناً صافيا، فيرى ويحلل أسبابها بدقة، بحيث يستطيع أن يتعامل مع الأزمة بدون اندفاعات هوجاء أو انفعالات حمقاء تعطل التفكير السليم والسلوك القويم .. كذلك فإنها تحيد مشاعر الغضب، وتكسب الفرد الثبات والهدوء، وهي من العوامل التي تؤثر كثيراً في الوصول إلى حلول جيدة ومبتكرة.
·      كن مصراً على فصل الحقيقة عن الرأي (كيف تعرف ذلك؟ ما الدليل؟ ما هو السلوك الفعلي الذي لاحظته؟).
·      ضع وصفاً دقيقاً للمشكلة بقدر الإمكان، لأن كل شيء سيعتمد على هذا الوصف بما فيها اختياراتك للحل .. اختبر أيضا الأسباب واستبعدها واحدا تلو الآخر حتى تصل إلى سبب يفسر الحقائق بأقل افتراضات ممكنة. وإذا وجدت أسباب كثيرة، فإن وصفك للمشكلة غير دقيق لأنه يتيح لأي شيء أن يفسر الحقائق.
·      قم بأفعال تكيفيه لتهدئة آثار المشكلة حتى يكون لديك وقتا لحلها. ولكن عليك أن تجد السبب الفعلي إذا أردت أن تقوم بالتصرف التصحيحي المطلوب لإنهاء المشكلة تماماً.
·      أشرك نوعين من الناس في عملية إيجاد حل للمشكلة .. من يعتمد على الملاحظات والمعلومات البدائية، ومن يعتمد على التحليل والنقد.
·      استحدث حلولا جديدة إن أمكن, ولا تستخدم نفس الحلول السابقة لمشاكل مشابهة قد لا تحقق الجدوى المطلوبة منها، واحذر أن تسجن نفسك في سجن التجارب الفاشلة.
·      لا تفضل حلا لأنه الأسهل والأسرع، وإياك وحلا يؤدي إلى مشكلة جديدة.
·      عليك أن تعرف أن حل أي مشكلة لابد أن يتضمن مكاسب وخسائر .. كما يجب أن تدرك ضرورة تفتيت القوى التي تسبب لك المشكلة، بمعنى أن لا تجمع الخصوم ضدك .. بل إذا استطعت أن تخترق بذكاء الروابط التي تحركهم معاً، تكون قد نجحت في تفتيت المشكلة إلى أجزاء صغيرة، يسهل التعامل معها.
·      احذر أن تفتح كل المشكلات مرة واحدة, وعليك بفقه الأولويات المرقمة جيدا، وتعامل مع مشكلاتك بالترتيب حسب الأهمية والأولوية.
أقوال مضيئة
·       المشاكل التي تواجهنا وسيلة عملية تدفعنا الى بذل أقصى ما في وسعنا «أنتجون».
·       لا وجود لمشاكل يتعذر حلها، ولكن هناك مشاكل مطروحة بشكل سيئ.
·       الخطأ في عدم تقدير أهمية الخطأ. «موران»
·       إن المشكلة حين ندون تفاصيلها نكون قد حصلنا على نصف حلها. «تشارلز ليزنج»
·       التورط في المشاكل سهل والخروج منها صعب. «أجنيس ألن».

الهوامش والمصادر
(1) رواه أحمد والترمذي (صحيح) انظر حديث رقم 6651 في صحيح الجامع .
(فن علاج المشكلات) د. رامز طه/استشاري الطب النفسي، (فن حل المشكلات) الدليل غير الرسمي للمدير المتميز، د. آلان ويس، ص 162-164، مكتبة جرير للترجمة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2001. (وصايا عملية للارتقاء فوق المشكلات)د. سمير يونس، (التفكير الجيد في حل المشكلات) د. أكرم رضا.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com