الجمعة، 27 نوفمبر 2015

العيش مع الأوباش





قادتني الأقدار للعيش ردحا من الزمن بمنطقة من المناطق العشوائية، في تجربة ثرية عايشت فيها صنفا من البشر لم أعهده من قبل .. إنه عالم غريب تجمعه قواسم مشتركة وأعراف وتقاليد مغايرة تماما لما عليه أسوياء البشر .. عالم عبارة عن مزيج من العشوائية والغوغائية والهمجية التي تفرز سلوكيات ومفاهيم أشبه بقانون الغاب.
والأوباش ليسوا صنف الفقراء الذي يعانون شظف العيش، فمتى كان الفقر عيبا يسوء بصاحبه؟!، بل هو قدر مقسوم في رزق معلوم وعمر محسوم، وكم من فقير حكيم في أقوله رزين في تصرفاته، وكم من عباد لا يصلحهم إلا الفقر ولو أغناهم الله تعالى لفسد حالهم، والعكس صحيح.
أما الأوباش الذين أعني فهم مزيح من قليلي العلم -بل الأمية فيهم أظهر- عديمي الدين والمروءة، ولا يخفى على اللبيب أثر هذه الأمور النورانية في تهذيب سلوكيات البشر، فإذا الإيمان ضاع فلا أمان، ولا دنيا لمن لم يحي دينه.
عالم الأوباش لا تحده فضائل ولا تحوطه قيم، بل هو يدور مع المنفعة والمصلحة أينما كانت ومتى حلت وبأي طريقة كانت، لا يحدوه حِلا ولا حُرمة .. ففي عالم الأوباش يسود مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»، ولقد رأيت فيهم الجزار الذي يغسل كرش الحيوانات الأسود بماء النار المخفف كي يبدو أبيضا نظيفا ناصعا!، رغم أن ماء النار حمض فتاك لا يضاف على أكل البشر. ورأيت فيهم بائع الحبوب المخدرة التي تفتك بشبابنا، ورأيت فيهم المتسول الذي يعتمد على هيئته القبيحة ليبتز من يقابله من الناس.   
وعالم الأوباش أقرب إلى الظهور والفضائح أكثر منه إلى الستر والتحفظ، فهو عالم ضجيج وصخب وصياح وصوت جهوري، بداع وبدون داع .. فمن الطبيعي جدا أن ترى رجلا وزوجته يناقشون مشاكلهم الزوجية أو العائلية أثناء سيرهم في الطريق بصوت جهوري يسمعه المارة بوضوح، وليس مستغربا أن تجد أسرة في أيام القيظ وقد فرشت متاعها أمام باب الدار على قارعة الطريق، وجلس الجميع للعشاء والاسترخاء على مرأى ومسمع من المارة، ويا حبذا لو وُضع التلفاز وطال السهر والسمر.
وفي عالم الأوباش يغيب الحلم -بل لا وجود له أصلا- فتتفجر الأزمات على أتفه الأسباب، وقد تنشب الشجارات بين الكبار لسبب تافه بين الأبناء الصغار، ولغة الحوار معدومة تماما، بل التشابك بالأيدي أقرب الحلول لمعالجة المواقف، ومن السهل أن تتصعد الأمور وتحضر الشرطة وتتأزم المواقف أيام وأشهر بل وسنوات في قاعات المحاكم، أما لغة الغاب فهي حاضرة بصورة متفاوته، فالقوي لا يرحم الضعيف، وقد ينسحب الضعيف من الموقف حتى يجمع أقرانه وأقاربه ليستقوي بهم، ويعود لتكون له صولات وجولات.
والسلاح على كافة أنواعه لا يغيب عن عالم الأوباش، يحمله الصغير قبل الكبير، بل ويتفننون في أنواعه وأسمائه وتجهيزاته .. رأيت يوما أحد تجار المخدرات وقد نشبت معركة بينه وبين طائفة كان لها غلبة الموقف لكثرة عددهم، فما كان من هذا التاجر إلا أن انسحب إلى داره وأغلق بوابته الحديدية بإحكام ثم صعد إلى الطابق العلوي وقد كان عامرا بزجاجات فارغة، وأخذ هذا المحارب المغوار بإرسال وابل من قذائف الزجاجات على خصومة الكُثُر، ولا أستطيع أن أصف لك بشاعة الموقف، فأي زجاجة أصابت شخصا تهشمت على رأسه وأصابته بجروح بالغة وعديدة، أما من أفلتت إلى الأرض فتناثرت لآلاف القطع الزجاجية الجارحة التي استحال معها المشي في الشارع لأيام.
والأوراق في عالم الأوباش مبعثرة لأقصى درجة، فالحياة لا تعرف الترتيب ولا التخطيط في كافة جوانبها، شعارهم «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، فالأوباش لا يحسبون لتقلبات الأيام حسابا، بل نظرهم دائما تحت أقدامهم، والمتعة الآنية أقصى غاياتهم، حتى إذا ولى الشباب وتغير الحال وجدتهم أبأس الخلق، وأشدهم نقما على مجتمعاتهم، ونقدا لأحوال الميسورين منهم لأنهم لا يساعدوهم في محنتهم .. دخلت يوما المسجد للصلاة وبعدما فرغنا منها، قام مسن سبعيني رث الحال وقال: يا مسلمين أغيثوني، فأنا أخوكم في الدين، وأخرج بطاقة هويته الشخصية مدللا للحاضرين على إسلامه .. فتعجبت منه أشد العجب، وقد كنت أعرفه في شبابه لا يرى إلا حظوظ نفسه، ولم يعطف على فقير قط، فأين دينار الشباب الأبيض الذي ينفع في فقر الشيخوخة الأسود؟!
والحياة الزوجية في عالم الأوباش لا تحكمها إلا الشهوة واللذة، فبدايتها لابد عن تكون مع زوجة فاتنة، الجمال شرطها الأوحد، حتى ولو كانت سيئة السمعة أو رديئة الخلق أو أي شيء آخر، بل إن الجمال هو العملة التي تحدد ثمن الرجل المتقدم، فالجميلة بطبيعة الحال لا ترضى إلا بالكسيب الذي يضمن لها رغد العيش، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى .. منظر لافت تجده كثيرا في هذه المناطق، حيث الخطيب وقد أخذ بيد خطيبته ويسيرا في الشارع للنزهة، وقد عرضت العروس كل مفاتنها ولم تدخر منها شيء ممكن أن يبدو للناظرين، والعريس في غاية فخره واعتزازه، وكأن لسان حاله يقول: قدري كبير، ناسب أن أظفر بفاتنة عصرها وفريدة جمالها.
أما تعدد الزوجات فهو أمر شائع بين هذه الفئة، لا لعفة نفس، ولا لكثرة نسل، بل لمجرد المتعة وحب التنوع وكسر الملل، حتى ولو كثر العيال الذين يحتاجون لرعاية أكثر وتربية أشق، وهذا التعدد يتم ببساطة لأن عملية التربية تكاد تكون معدومة، فالطفل في هذه المجتمعات لا يعرف من الرعاية إلا القدر اليسير، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والآباء غارقون في أنانيتهم، خاصة رب الأسرة، وتلك الأسر لا تعرف من الطفولة إلا توريدها للعمل بالورش والمصانع في سن مبكرة، مما يعد جريمة في كافة الأعراف والقوانين الدولية.. أذكر أنني التقيت يوما بطفلة في سن الروضة، وسألتها السؤال التقليدي عن طموحاتها وماذا ترى أن تعمل لما تكبر، فأجابت: أريد أن أكون خادمه!!!!! وقعت الإجابة على نفسي وقع الصاعقة، خاصة وأنها كانت إجابة فريدة من نوعها لم أسمعها من قبل، وأظن أني لن أسمعها بعد.
التربية أولا
الكلام عن مجتمع الأوباش ليس من قبيل حكاية الأساطير أو التندر بالغرائب، خاصة وأنه مجتمع منتشر وبكثافة في منطقتنا العربية والإسلامية .. إنه عالم أشبه بقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في الكل، انفجارا لا يبقى ولا يذر، لأننا نتعامل وقتها مع من لا يملك شيئا يخشى أن يفقده، وهذا من أصعب وأخطر أنواع التعامل.
تلك العوالم لا تنفع معها عصى السلطة الغليظة ولا القوانين الصارمة، لأن التحايل على مثل هذه الأمور فن هم من ابتدعوه وأتقنوا مفرداته، بل لابد من إعادة تأهيل تلك المجتمعات بالاعتماد على برامج تربوية متخصصة .. نعم التربية أولا وثانيا وثالثا .. التربية الطريق الأوحد والأنجع الذي لا طريق غيره.
فالتربية قادرة على إحاطة أفراد هذه المجتمعات بسياج فضائلي وقيمي يحميها من نفسها ابتداء ومن البطش بغيرها في ذات الوقت، وإذا نظرنا لتجربة أي دولة متحضرة نجد أن قضية التربية كانت على رأس أولوياتها، بل إن القرآن الكريم الذي يذخر بفنون التربية الربانية الفريدة كان هو الكفيل بنقل العرب من جاهلية موحشة إلى أمة راقية.
والتربية إن لم ترتكز على أسس إسلامية وعقدية صافة صارت جسدا بلا روح، وصارت خالية من معاني المراقبة والخشية والإنابة والتوكل واليقين .. وغيرها من عبادات القلب والجوارح التي هي أجل مقاصد التربية التي تضمن لها ثمرة يانعة تدوم أبد الدهر.
أما التربية القائمة على النظريات والفرضيات فهي أشبه بنوع من التوجيهات الجافة التي لا نضارة فيها، كما هو مشاهد في كثير من الدول الغربية العلمانية التي تنتاب مناهجها التربوية الرغبة في منافع مادية آنية لا علاقة لها برحلة الإنسان المديدة في الدنيا والآخرة .. مناهج تربوية تفهم الحرية -مثلا- على أنها مطلقة بشرط أن لا تضر بالآخرين لا أكثر ولا أقل، فاستباح الفرد في ظلالها الكئيبة الزنا وشرب الخمر وإدمان المخدرات والتعامل بالربا، بل واستعمرت البلاد القوية منها البلاد الضعيفة وسرقت ثرواتها واستنزفت مواردها في تاريخ استعماري مخزي لكل الدول الاستعمارية الغربية.
إن تلمس الثواب واستشعار رضا الرحمن يثير في سلوكياتنا نبض إيماني يجعل صاحبه يتفاني في إسعاد نفسه وقومه في العاجلة والآجلة، ويجعله يرى بنور الله الذي أعلنها صراحة في كتابه الكريم: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً}[النساء:26-27] {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً}[النساء:147]         

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


الأربعاء، 25 نوفمبر 2015

الإعلام الحر





الحرية معنى عظيم وهدف نبيل تسعى إليه الأمم في القديم والحديث، وتتباهى به الدول أن لها منها الحظ الأوفر والمكان الأفسح، وما نزلت الأديان وأرسلت الرسل إلا لإخراج الناس من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق وحده، ولطيب عبق الحرية ادعاها الجميع، وهم في ذلك بين صادق وكاذب، فأما الصادق فقد أخذها بحقها وحسابه على الله تعالى، وأما الكاذب فتزين بها في الظاهر وهو من أبعد الناس عنها واقعا وسلوكا.
ومن هذا المنطلق ينبغي أن نعلم أن ليس كل مدعي للحرية قد أصابها، وليس كل من تسربل بها فهي رداؤه الحقيقي، بل لابد من وزن الأقوال والأفعال بميزان الحق والإنصاف، وعدم الاغترار بالشعارات والهتافات والدعاوى، فميزان الحق لا يحابي أحدا، وليس كل من طلب خيرا ناله.
«الإعلام الحر» .. أحد القضايا المعاصرة الشائكة، خاصة أنها دعوى لكل من يعمل في الحقل الإعلامي، حتى الروافد الإعلامية الإباحية والإلحادية، لأن الجميع يرى الحرية من زاويته ورؤيته الخاصة لمفهوم الحرية، لكن رؤيتنا الإسلامية للحرية -وغيرها من المفاهيم والسلوكيات- تنبثق من أصلين عظيمين هما الكتاب والسنة، فهما المقياس الجليل والميزان القويم.
فليس من الحرية إخضاع ثوابت هذا الدين للاستبْيان واستطلاع الرأي، كما يحدث في بعض القنوات الفضائية أو المواقع الالكترونية أو الصحف .. حيث تطرح أحد ثوابت الدين للنقاش، من أمثال: ما رأيك في نظام المواريت الإسلامي؟ هل توافق على منع تقديم الخمور للسائحين؟ هل يمكن أن تجبر زوجتك أو ابنتك على ارتداء الحجاب؟ ... وأمثال هذه التساؤلات التي هي من ثوابت الدين ولا مجال للرأي فيها، أو حتى فتح بابا للنقاش والحوار بين مَن يعلم ومَن لا يعلم، لأن الإسلام بالأصل هو مرجع لكلّ نقاش وكلّ خلاف، كما قال تعالى مبينًا ذلك في كتابه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59].
ثمَّ إنَّ هذا تعدٍّ على حكم الله تعالى ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. 
ثمَّ إنَّه طريق إلى الفتنة، وخَلخَلة صفوفِ الأمّة، وإيجاد الفرقةِ بين أبنائها، وإحداثِ ما يقطَع صلةَ الأمّةِ حاضرَها بماضيها، ويجعَلها متنكِّرةً لماضيها مخالِفَة له.
وعن الحرية الفنية يقول الأستاذ مصطفى عاشور: من الأعمال التي ظهرت في مصر –مثلاً- فيلمان قصيران الأول بعنوان «الأسانسير» ويحكي قصة فتاة محجبة تعطل بها الأسانسير، ثم تتلقى مكالمة تلفونية، وتتطرق بعد فترة إلى مسائل ساخنة (جنسية)، وينتهي الأمر بأن تخلع تلك الفتاة حجابها، أما الفيلم الثاني فهو «الجنيه الخامس» ومدته (14) دقيقة ويصور مشاهد مبتذلة بين فتاة محجبة وشاب داخل أتوبيس يجوب القاهرة!!
ويسعى الفيلمان لتصوير المشاعر الجنسية المكبوتة لدى المحجبات، وسهولة تخليهن عن الحجاب وربما عن العفة مع أول نداء للجنس، حيث إن الفيلمين بيّنا أن العلاقة الساخنة التي وقعت بين المحجبة عبر التلفون في فيلم الأسانسير كانت مصادفة، كما أن العلاقة المادية الساخنة التي نشأت بين المحجبة وبين الشاب في "الجنيه الخامس" كانت مع شاب لا تعرفه، ولكنه تشجع وبدأ في إثارة غرائزها!!
أما فيلم «ماروك» بالمغرب، فقد كان أشد الأفلام سخونة وإثارة للجدل، ليس في الأوساط الدينية والمجتمعية، ولكن أيضاً في الوسط الفني والنقدي المغربي، وكذلك في الوسط السياسي.
ويحكي الفيلم قصة حب ساخنة جداً بين فتاة مسلمة منفلتة للغاية من الطبقة الراقية المغربية المتأثرة بفرنسا وتسمى "غيثة" وبين شاب يهودي يدعى "يوري"، لكن الأحكام الإسلامية والتقاليد المغربية تحول دون زواجهما، رغم العلاقة غير الشرعية التي نشأت بينهما، وينتهي الفيلم بموت "يوري" في حادث سير ليكون ضحية التقاليد التي حالت بين زواج مسلمة بيهودي.
وما طرحه الفيلم من أحداث درامية وتوظيف للسيناريو والمشاهد، يشير إلى معانٍ أخرى، ويمكن أن نركزها في النقاط التالية:
دارت معظم مشاهد الفيلم أثناء الليل، وفي شهر رمضان على وجه التحديد، وكان الأذان للصلاة خلفية حاضرة في بعض المشاهد التي تصور حالة المجون الموجودة في الملاهي، بل وأثناء ممارسة بعض العاشقين للجنس في السيارات، وهو ما يشير إلى وجود حالة من الانفصال بين القيم والرغبات في المجتمع، وحالة من البرود الشديد تجاه القيم الإسلامية، حتى إن "غيثة" التي كانت تفطر في رمضان بحجة أنها حائض، وكانت تختار وقت الإفطار لكي تمارس الرذيلة مع يوري، وكأنها تقول: "إن الجميع مشغولون بإشباع البطون أما أنا فمشغولة بممارسة الحب"، ويومئ أيضاً بلحظات الغفلة التي تصيب المسلمين عندما يحضر وقت الإفطار في رمضان، حتى إنهم يغفلون عن تحسس بناتهم ولا يدرون بخروجهن.
صوّر الفيلم المغاربة على أنهم إما خدم أو ممن يعملون في الأعمال الدنيئة أو حتى يتناولون الحشيش، كما أن غالبيتهم منفصل عن روح القيم الإسلامية، فمثلاً حارس يصلي بينما هناك ممارسة للجنس بجواره في السيارات.
أظهر الفيلم "يوري" اليهودي بصورة إيجابية عالية للغاية، فهو متمسك بهوديته، ويهدي إلى "غيثة" النجمة اليهودية، كما أنها تقسم عليه بالتوراة التي يحترمها للغاية، و"يوري" متفوق يتغلب على غيره في المسابقات، وأخيراً مات في حادث سير، ليكون ضحية الحب، وليترك القضية بدون حل، بل ليترك ألماً في نفس "ماوو" أو "محمد" شقيق "غيثة" المتدين الذي وقف حائلاً أمام زواجهما.
ومن غريب التعليقات على أمثال هذه الحرية الإعلامية الشوهاء رفع البعض شعار «ثقافة المناعة، لا سياسة المنع» وهذا قول حق أريد به باطل، فنحنُ لا نقول بإهمال المناعة، وتحصينِ العقول، وزيادةِ ترسانة الوعي لدى الفرد، وتدعيم الحصانة الإعلامية لدى المتلقي؛ ولكنَّنا ضد تأجيج الشهوات، وقذف بالمجتمع الباطل، وإغارة سافرة على ثوابت الدين، ودعوة للمجون والحرية السافرة التي لا هّم لأصحابها إلا الظهور أمام الغير من المستغْربين والغرب أنَّه انفتاحي العصر، مروني السّلوك، عقلاني النَّظرة، لا يعارض الغير وإن كان كافرًا، ويقلِّده وإن كان ملحدًا أو مشركًا.
 ولله درُّ رويم بن أحمد -رحمه الله- إذ يقول: "إذا وهب الله لك مقالًا وفعالًا فأخذ منك المقال وترك عليك الفعال؛ فلا تُبال فإنها نعمة، وإن أخذ منك الفعال وترك عليك المقال؛ فنُحْ على نفسكَ فإنها مصيبة، وإن أخذ منك المقال والفعال فاعلم أنها نقمة".
أما من يدعوا إلى «حرية منضبطة» فأي ضابط يمكن أن يضبط الحرية، خاصة وأن الليبرالي له ضوابطه، والشيوعي له ضوابطه، بل والملحد له ضوابطه، ولكن الأحسن أن يقال: «حرية منضبطة بضابط الشرع»، حرية ربانية الضابط، لأنه لا أصدق ولا أطهر من ضابط الوحي {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمن ابتغى العزة في غيره أذله الله، ولذلك يقع العبء الأكبر على رجال الإعلام الإسلامي ليقدموا للناس إعلاما حرا بمعنى الكلمة، إعلاما يأخذ بالفضائل ويطرح الرذائل، ويقود الناس للتي هي أقوم، وما أنبلها من مهمة، وما أعظمها من رسالة.    


د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

الأربعاء، 11 نوفمبر 2015

حل مشاكلك ربما يكون أبسط مما تتصور




من رحم المحنة تكون المنحة، لكن الأمر يتطلب «صبر وبصر» .. صبر على البحث والتفكير في الخروج من المشكلة، وبصر نافذ يلمح الحل وسط ظلمات الألم وأشواك المآسي، وهذا ما يميز الأفذاذ عن غيرهم، فاستيعاب الصدمة وتلمس الحل هو الفارق الحقيقي بين النجاح والفشل، فالمشاكل لن تنتهي وستستمر إذا وجدت منا فكرا مغلقا وبصرا لا ينظر إلا تحت الأقدام.

- حينما تلقى مصنع صابون ياباني شكوى من عملائه أن بعض العبوات تكون فارغة، اقترح مهندسو المصنع تصميم جهاز يعمل بأشعة الليزر لاكتشاف العبوات الفارغة خلال مرورها على سير التعبئة ثم سحبها آليا من سير التعبئة، ومع أن الحل مناسب إلا أنه مكلف ومعقد، وفي المقابل ابتكر أحد عمال التغليف فكرة بسيطة وغير مكلفة، وذلك بأن توضع مروحة كبيرة بدلا من جهاز الليزر بحيث يوجه هواؤها إلى سير التعبئة فيقوم بإسقاط العبوات الفارغة قبل وصولها إلى التخزين.
- واجه رواد الفضاء الأمريكيون صعوبة في الكتابة نظرا لانعدام الجاذبية التي تدفع نزول الحبر إلى رأس القلم! وللتغلب على هذه المشكلة أنفقت وكالة الفضاء الأمريكية ملايين الدولارات على بحوث استغرقت عدة سنوات، أنتجت قلما يكتب في الفضاء والماء وعلى أرق الأسطح وأصلبها وفي أي اتجاه. وفي المقابل تمكن رواد الفضاء الروس من التغلب على المشكلة بلا أدنى نفقات وذلك باستخدام قلم رصاص.
- ذهبت سيدة برفقة صديقتها لحضور دروس طهي كان يقدمها طاه مشهور يعمل في فنادق خمس نجوم محول العالم، وبعد الدرس سألت إحدى الحاضرات الطاهي عن أسهل طريقة لتقشير البصل الصغير الذي لا يزيد حجم الواحدة منه على حبة البندق؟ ضحك الطاهي البارع خجلاً! واعترف بأنه لا يعرف! لأن مساعديه هم من يجهزون له المقادير قبل الطهي. مالت لحظتها الصديقة نحو السيدة وهمست: لكنني أعرف الوسيلة المثلى لهذه المعضلة. ولما خرجن من القاعة سألتها: أحقًا تعرفين طريقة سهلة لتقشير ذلك البصل الصغير؟ قالت الصديقة بثقة: طبعًا أعرف، استخدمي البصل العادي كبير الحجم بدلاً من الصغير، ستوفرين الكثير من الوقت ولن يتغير طعم الطبق.
هذه المواقف تعطينا دلالة واضحة أحد الفروق الهامة بين الشخصية الناضجة والشخصية السطحية، فالشخصية السطحية تتسم بقدر من «القصور الذاتي» بمعنى أنها تظل في حركتها متأخرة عن متطلبات الواقع، فأثناء عملها ترتكب أخطاء وتواجه مشكلات، ولكن حركتها في معالجة تلك الأخطاء والمشكلات تظل بطيئة وتأتي متأخرة، بسبب ضحالة رصيدها من الشفافية والمرونة.
هذا فضلا عن أنها تعجز عن إقامة حواجز بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في الثبات والتمسك بالعقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى، وبين التصلب الذهني المذموم الذي يتمثل في نقص المرونة الذهنية، واعتناق بعض المفاهيم الخاطئة التي تجعل المرء فاقد للرشد الفكري.
السطحيون يتجنبون دوما مواجهة مشاكل الواقع على عكس الناضجون الذين يواجهون الواقع بتلهف مدركين أن أسرع الطرق لحل أي مشكلة هو التعامل معها بشكل حازم وفوري .. فالناضجون يتحدون مشاكلهم، بينما السطحيون يتهربون منها أو يتجاهلونها.
وعندما لا تسير الأمور وفق ما يتوقعه الشخص السطحي فإنه يضرب بقدميه الأرض سخطا وتذمرا، ويحبس أنفاسه ويبكي أو يتحسر على قدره، أما الشخص الناضج - في المقابل - فإنه يفكر بطريقة مختلفة، وباتجاه مختلف، ويستمر مواصلاً حياته الطبيعية بحلوها ومرها.
كما أنه عندما يُحبط أو يخيب أمل الشخص السطحي فإنه يبحث عن شخص ليلومه، بينما الشخص الناضج يبحث عن حل .. فالأشخاص  السطحين يهاجمون الآخرين، بينما الناضجين يهاجمون المشاكل، ويستخدمون غضبهم كمصدر لطاقة التحرر من الأزمات، وحين يشعرون بخيبة الأمل أو الإحباط فإنهم يضاعفون جهدهم لإيجاد حلول لمشاكلهم.
إن النجاح ليس دائماً وليد الأفكار الثورية الضخمة، فكثيراً ما يكون مفتاحه فكرة بسيطة. والعقبة الرئيسية التي تعيق التطور الطبيعي للحياة هي «الأفكار المتحجرة» التي نفرضها على أنفسنا، فالبساطة صفة من صفات الحقيقة التي تتدفق من الداخل إلى الخارج، تحفزنا على التطور. وكل ما تحتاجه البساطة هو الصدق والمرونة والشفافية ليتفتّح الحس السليم وتتدفّق النوايا الحسنة وتتفجّر الثقة بامتلاك قوة العزم التي لا رجوع إلى الوراء بعد امتلاكها بتوفيق الله تعالى وتسديده.
التفكير السليم
يرى علماء النفس أنّ التفكير بالمشكلة يمرّ بأربع مراحل حتّى يتمكّن المرء بشكل عام من حلها:
1- مرحلة الاعتراف بالمشكلة، فبعض الناس أزمته أنه لا يريد أن يعترف أنّ هناك مشكلة أصلا، ولا يحاول أن يتفهّم طبيعتها، وبذلك يصعب عليه علاجها.
2 - مرحلة توليد الأفكار والفرضيات، فنضع احتمالات للحلّ على كثرتها وتنوعها.
3- مرحلة اتّخاذ القرار بالفرضية المناسبة، فنرجّح إحدى الفرضيّات على أنّها هي الكفيلة بحل المشكلة ونعتمدها.
4- مرحلة اختيار الفرضية وتقويمها، من أول بدء العمل بها وحتى الوصول للإنجاز المطلوب، فالتقييم المستمر يضمن لنا التعديل الفوري إذا أخفقنا في أي مرحلة، وبذلك نوفر الوقت والجهد، ونخرج من الكبوة بأقل كلفة.
لكنّ هذه المراحل ـ كما يرى آخرون ـ ليست حتمية، أي ليس بالضرورة أن نستحضر الخطوات الأربع حتّى نصل إلى الحل، فقد يمكن التوصّل إلى الحلّ بإتباع بعضها، وبصفة عامّة فإنّنا نحتاج إلى تحديد المشكلة بالكشف عن أسبابها الرّئيسة والثانويّة، ودوافعها الكامنة، وأن نعالج الأسباب لا المظاهر، وقد نحتاج في ذلك إلى تعاون أصحاب التجربة ممّن نثق بهم ويُخلصون إلينا، أما الانكماش فإنه لا يحلّ المشكلة إنّما يضيف إليها مشكلة أخرى، ولذلك فنحن حينما ندعو إلى مواجهة مشاكلنا إنّما ننطلق من الترحيب بأيّة مشكلة تعصف بنا، لأنّها تستنفر أنبل وأفضل ما فينا من قوى روحيّة ونفسية وبدنية كامنة، وفي الحديث: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» [صحيح الجامع:6651]
إن أصحاب الطبيعة النفسية المعقدة لا تأتي سلوكياتهم بما تحب حتى لذاتها، لأنها في كثير من الأحيان تتحرك بالاندفاع أو بردود الأفعال بدلاً من التخطيط المسبق والنوايا الحسنة، ولا شك أن لهذه المسألة دورا كبيرا في كافة المجالات الإنتاجية والتنموية، لأن صاحب الطبيعة الصعبة - بقدر صعوبة مزاجه وتعامله - يعكر صفو العلاقات ويعكر آلية التعامل ويُعقَّد طرق تنفيذ المشاريع صغيرة كانت أم كبيرة، فهو من تعقيد إلى تعقيد. فما أحرى بنا أن نتبسط لكي تنبسط لنا الحياة، قال –صلى الله عليه وسلم-: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟ على كل هين لين قريب سهل) [صحيح الجامع:2609].

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com