الخميس، 5 نوفمبر 2015

لا تكن كبالون الهواء





يُحْكَى أَنَّ أعرابيا صاد هِرًّا فلم يعرفه، فتلقاه رجل فقال: ما هذا السِّنَّوْر؟ ولَقِيَ آخر، فقال: ما هذا الهر؟ ثم لَقِيَ آخر؛ فقال: ما هذا القط؟ ثم لَقِيَ آخر؛ فقال: ما هذا الضّيون؟ ثم لَقِيَ آخر؛ فقال: ما هذا الخيدع؟ ثم لَقِيَ آخر؛ فقال: ما هذا الخيطل؟ فقال الأعرابى: أحمله وأبيعه لعل الله تعالى يجعل لى فيه مَالًا كَثِيرًا !! فلما أتى إلى السوق قيل له: بكم هذا؟ فقال: بمائة. فقيل له: إنه يساوى نصف درهم. فرمى به، وقال: ما أكثر أسماءه، وأقلّ ثمنه!
إن الضجيج في مدح الذات وتضخيم الإنجازات أشبه بالسراب في طريق الواقع، أو كبيت من الرمال يبنيه الأطفال على شاطئ البحر ما تلبث موجة عالية أن تهيله في لحظات، ولقد أعتبر علماء النفس أن «هوس الأنا العليا» سببه الأساسي عدم الثقة بالنفس والخواء الروحي.
وبالإضافة إلى الشعور بالنرجسية واحتكار الثراء الذاتي نجد سلوكيات أخرى كعدم الاعتراف بالأخطاء. رفض التعاون مع الغير في إنجاز الأعمال. عدم الاكتراث بمجهود الآخرين. اتخاذ قرارات خاطئة. تعليق مسببات الفشل على الغير والمجتمع. تهويل المعاناة وتوهم أنه وحده من يتألم في هذه الحياة.
ولذلك تبقى الحقيقة الواقعية خير برهان على ذواتنا، فلا تقل من أنت، ولكن قل ماذا تحسن، وماذا أتقنت وماذا قدمت وماذا أضفت .. يقال أن سقراط كان جالساً ذات يوم  مع أحد تلاميذه على حافة بركة فيها ماء راكد، فقال سقراط لتلميذه: ما في هذه البركة؟ قال التلميذ: إنه الماء. إلا أن سقراط بدأ يستدل له أن ذلك ليس ماء، وأورد عشرات الأدلة على ما ذهب إليه. واستسلم التلميذ لأستاذه رغم قناعته بعكس ما قال. غير أن سقراط مد يده إلى البركة، واغترف كفاً من الماء، ثم رماه في البركة، وقال لتلميذه: هذه الحقيقة أكبر دليل لك على أنه ماء، وأن ما ذهبت إليه ليس صحيحاً.
إن الإنسان الناجح يحمل مسئولية نفسه بل ومسئولية حياته كلها على عاتقه، وذاته تواقة لمعالي الأمور، لذلك هي ذات لا تعرف الكلل ولا الملل، وهمته تستعذب ألم المشاق في سبيل الوصول لقمة الظفر .. يقول "د.هارفيلد" أشهر الأطباء النفسانيين في إنجلترا في كتابه (علم نفس القوة): "الجزء الأكبر من الإرهاق الذي تعاني منه مصدره الذهن، أما الإرهاق الناتج عن مصدر جسدي بحت فهو أمر نادر. إذ إن الإنسان يستطيع العمل لأطول وقت ممكن دون الشعور بالتعب ما دام يستشعر المتعة في هذا العمل".
والذي ينشد التميز لا بد من أن يصبح بارعا في مهنته، ولا براعة من غير خبرة، ولا خبرة من غير تكرار وتدريب ومثابرة. وكما قال ميكيافيلي: "الأبرياء العزل من الخبرة والفطنة يهلكون".
عن أبان بن أبي عياش قال: قال لي أبو معشر الكوفي: "خرجت من الكوفة إليك في البصرة في حديث بلغني عنك. قال: فحدثته به". والمسافة بين الكوفة والبصرة 350 كم.
وقال حماد بن زيد الإمام الحافظ: "إذا خالفني شعبة تبعته، لأنه كان لا يرضى أن يسمع الحديث عشرين مرة، وأنا أرضى أن أسمعه مرة".
والكاتبة الأمريكية "مار غريت ميتشل" مؤلفة كتاب (ذهب مع الريح) كتبت الفصل الأول من كتابها سبعين مرة، قبل أن تستقر على صيغته النهائية.
والعلم زينة الإنجازات ومادة حياتها ووقود حركتها، ولقد كشفت دراسة حديثة أن الأشخاص المتعلمين أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب، وأكثر تحفُزا لتحقيق الإنجازات، ويتمتعون بصحة أفضل من أولئك الذين يتركون المدرسة في الصغر.
ففي دراسة قام بها «معهد التعليم» في بريطانيا كشفت التأثيرات العاطفية والنفسية والجسدية للتعليم. حيث يقول معدوا الدراسة: إن التعليم يساعد الأفراد على إدارة حياتهم بشكل أفضل، والتغلب على المشاكل التي تعترضها، مثل: البطالة والطلاق ووفاة الأقرباء والأصدقاء.
وتساعد المهارات التي يتعلمها المرء أثناء الدراسة على تفهمه للحاجة إلى مزيد من المهارات، كما تساعده على كيفية استخدام مهارات الآخرين.
كما أشارت الدراسة إلى أن المتعلمين يتمتعون بصحة جيدة، وأنهم استخدموا الخدمات الطبية الوقائية بشكل أفضل، والتزموا بالقيود الغذائية التي تحتمها المتطلبات الصحية.
كذلك أشارت الدراسة إلى أن المتعلمين يعاملون معاملة أفضل من الأطباء مقارنة بالأشخاص غير المتعلمين أو الذين يحملون مؤهلات علمية أدنى.
إن العمل يبقى معرضا للخطر إذا لم يدعمه العلم .. يقول برنتيس مولفورد: "عندما كنت أحفر لأول مرة في حياتي منجماً من الذهب في كاليفورنيا. قال لي عامل قديم من عمال المعادن: أيها الشاب، أنت تجهد نفسك بشكل سيئ، وعليك أن تضع كثيراً من ذكائك في معولك. وحين فكرت بهذه الكلمة رأيت أن عملي يحتاج إلى التعاون بين الذكاء والعضلات. يحتاج الذكاء لقيادة العضلات، ويحتاجه لوضع الحفار في المكان الذي يستطيع فيه أن يرفع كثيراً من التراب بقليل من القوة، ويحتاجه لقذف التراب إلى خارج الحفرة. وقد رأيت أنني كلما استكثرت من وضع التفكير في المعول فإنني أحفر بصورة أفضل ويصبح العمل لعباً بالنسبة إلي وأستطيع الاستمرار به. ورأيت أيضاً أنه كلما تحول تفكيري عن عملي يصبح صعباً علي".
قبيح بالمرء أن ينشغل بالمظهر عن الجوهر، وبالقشر عن اللباب، وهو في مثل هذه الحالة كمثل بالون الهواء الذي يخدع الطفل حجمه وبريق لونه وسهولة ارتقائه في أفق السماء، حتى أن هذا الطفل البريء ليندهش أشد الهشة حين يرى تبدده عند أول لمسة من سن دبوس يختفي جرمه بين أصابع اليد الواحدة، غير مدرك أن الفاعلية لا تتوقف على حجم ولا لون، ولكنه التأثير الذي يصعب على جموع الكسالى أن يستسيغوا طعمه.
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق