الخميس، 30 أكتوبر 2014

عنوسة غريبة الأطوار




العنوسة قدر وابتلاء، وشبح يتعاظم، وألم نفسي يتجاسر، ومعدلات مخيفة تقلق أي فتاة، وتهدد عفة المجتمع .. تجمع في أسبابها ما هو خارج عن إرادتنا، لكن الأعجب تلك الأسباب التي من صنع أيدينا، ومن نتائج قراراتنا الخاطئة .. إنها حقا مأساة أن يلتف الحبل حول رقبتنا بأيدينا، ونقع في شَرَك معاناة وحدة أبدية جراء تقاليد بالية، أو فكرة خاطئة تستحوذ علينا، أو عندٍ جامحٍ يأكل حياتنا.
ضحية البلطجي
«نسمة» .. تلك الفتاة الرقيقة الهادئة، التي تتمتع بقدر عال من الجمال، وشهادة جامعية مرموقة، لكن حظها العاثر أوقعها في شرك العنوسة بسبب أخيها البلطجي!! .. هذا الأخ الجانح، الذي يشاكس الخلق بسبب وغير سبب حتى أدمن الإجرام، ونصبه أصدقاء السوء بطلهم المغوار، يقودهم للعراك مع خلق الله لأتفه الأسباب، وصار جسده من كثرة المشاجرات والإصابات مرتعا لآثار الجروح والتشوهات، فلا يكاد وجه وذراعيه يخلوا من ندوب جرح هنا أو هناك، أما السجن فصار بيته الثاني، يدخل ويخرج منه وكأنه كان في ابتعاث خارجي لنيل أحد شهادات الإجرام، فيعود إلى الحي أبشع مما كان.
بالله عليكم من يجرؤ على الزواج من هذه الفتاة، وإن جمعت كل خصال الخير، ومن يرضى أن يكون هذا البلطجي خال أولاده، ومع من يتفاوض لو حدث أي خلاف زوجي بينهما مستقبلا، وهل سمعة الإنسان رخيصة كي يغامر بها، خاصة والفتيات كثر، والنفس دوما تؤثر السلامة.
حلم الطبيب المرموق
أما «أماني» فهي الفتاة المتفوقة دراسيا منذ الصغر، التي أشربت نفسها حب العلم والتحصيل، وأسرتها المرموقة علميا واجتماعيا وفرت لها كل السبل من أجل تدعيم موهبتها الراقية.
في ريعان شباب أماني، وفي قمة تفوقها العلمي، تقدم لها طبيب مرموق، وسارت إجراءات الخطوبة في أجواء من الفرح والحبور، إلا أن الأمور بعدها مضت على غير ما يرام، وأثبتت المواقف تنافر الطباع بين الخطيبين، وكان لابد من الانفصال الذي ترك جرحا نفسيا في داخلة أماني، تلك الهمة التي لم تعرف الفشل مطلقا.
أسوأ ما في هذا الموقف أنه سببا انحرافا في فكر الفتاة الشابة، وعاشت على حلم العريس المرموق، وما إن يتقدم لها شاب حتى تخضعه في مقارنة دقيقة وقاسية مع خطيبها الأول، ومن ثم يأتي الرفض لأنه ربما أقل منه مكانة اجتماعية أو مادية أو جمالية.
إنها الفكرة السوداء التي استحوذت عليها، وجعلتها تريد أن تنتصر لنفسها، وتصر على أن ترتبط بمن حو أحسن وأفضل من خطيبها الأول .. لكن متى يقاس الناس بشهاداتهم العلمية أو مكانتهم الاجتماعية، أو صفاتهم الجمالية .. إن معايير اختيار شريك الحياة منظومة مترابطة، قد يترجح جانب منها على جانب آخر، لكن تبقى المحصلة النهائية من دماثة الخلق ومتانة الدين والقدرة على أعباء الزواج هي الفاعل الأساسي والمحوري في عملية الاختيار، أما أن نصر على الطبيب أو المهندس أو الدبلوماسي ... وسائر ذوي المكانة الاجتماعية، ونغض الطرف عن باقي المعايير فتلك الهوة السحيقة التي لا فكاك منها. فرب صاحب شهادة علمية مرموقة لا يصلي ولا يراعي لله تعالى حرمة، ورب صاحب مال ولكنه عربيد، والشواهد أكثر من أن تحصى أو تعد.
تقدم العريس تلو العريس وعروستنا أماني تطلق الرفض تلو الرفض، وانهمكت في مجدها العلمي، فحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه وارتفع سقف مطالبها في العريس بارتفاع مكانتها العلمية، وازدادت معايير الاختيار تزمتا وتشددا، حتى تسربت السنوات من بين يديها، ودخلت في الأربعين، ولم تفق من سكرتها إلا عندما اختفى طابور العرسان من أمامها.
العانس الثيب
وأخيرا «إسلام» .. الشابة الوسيمة التي نشأت يتيمة، لأم مسكينة واجهت مصاعب الحياة مبكرا، حيث مات زوجها بعد سنوات معدودة من زواجهما، رزقا فيها بإسلام، تلك الطفلة الوضيئة، ذات الثغر الباسم، والحلم البريء.
وفي أتون الفقر نشأت إسلام، وبين ألم المحنة وذل الحاجة كانت تمر الأيام ثقيلة بطيئة، حتى أدركت الشباب وتقدم العرسان، فاستجابت لأول طارق، أملا في الخروج من حالة الضنك، وبحثا عن استقرار عائلي لم تعرفه يوما من الأيام ، لكن سبق اختيارها أيضا نوعا من التسرع، وضربا من قلة الخبرة، فلم تسبر غور شريك حياتها جيدا، ولم تدرس أخلاقه ولا تصرفاته على النحو الذي ينبغي.
تزوجت إسلام بدون روية، يحدوها الأمل في حياة هنية، ومر شهر العسل أحلى من العسل، ثم سرعان ما تغيرت الأحوال، لتكتشف أن زوجها وأملها ورب بيتها مدمن محترف، يؤثر البطالة على عرق الجبين، ولا يكاد يفيق إلا النذر اليسير .. غضوب غشوم، فظ غليظ، وأحيانا عنيف، مما استحالت معه العشرة، ونصحها العقلاء والأقرباء بالانفصال، فغادرت بيت الزوجية بعد أشهر معدودة من زواجها وهي حامل منه في وليدة سرعان ما رأت الحياة لتكرر نفس المأساة، وانتقلت المحنة من الأم إلى الابنة، ودخلت إسلام كرها حظيرة العنوسة لكن من باب الثيبات لا من باب الأبكار.
إنها مفارقات غريبة الأطوار، لا دخل لنا فيها تارة، ومن صنعنا تارة أخرى، والنتيجة عنوسة كئيبة ووحدة قاتلة، وصدور تصرخ من غير صوت أن أنقذونا، فهل من مستجيب.. إنها حقا مأساة تبحث عن حل، ورغم أنها مزمنة، إلا أن المخيف في الموضوع زيادة المعدلات بصورة رهيبة تأذن بانفجار من نوع جديد لم تعهده البشرية من قبل، فاللهم سلم سلم، وستر بناتنا، وارزقهم العفاف والغنى، أنت مولانا ونعم المصير.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

   
     

الجمعة، 24 أكتوبر 2014

ثقافة الاستهلاك


كانت حيازة سيارة في بداية القرن العشرين مقتصرة على الصفوة، وكانت صعبة الاستخدام يحتاج صاحبها إلى سائق وميكانيكي ومعدات كثيرة لتسيرها، وقلما تنجو رحلة من تعطلها .. كانت بالفعل ترمز إلى ما وصفه (ثورثتاين فيبلين) الاقتصادي الأمريكي قبل أكثر من عقدين بـالوجاهة الاجتماعية «البريستيج».
سأل هنري فورد نفسه: لماذا لا تكون السيارة أقل تعقيداً وأسهل استعمالاً وسعرها بمتناول العامة؟ .. ولم تمضِ سنوات معدودة من بدئه صناعة أول سيارة اقتصادية حتى كان يتباهى سنة 1914م أن أي عامل لديه يستطيع شراء سيارة موديل «فورد ت» براتب شهرين فقط. إذ إنه استطاع تخفيض سعر سيارته من 1200 دولار سنة 1907م إلى حوالي 270 دولار سنة 1914م بما يعرف اقتصادياً بإنتاج السلسلة.
وقد عمد فورد إلى الترويج لسيارته الاقتصادية من خلال شركات الإعلان. لكنه في فترات لاحقة, عندما بدأ إنتاج السيارات بالملايين والطلب عليها فاق العرض, توقف عن الترويج الإعلاني إذ لم يكن بحاجة إليه. فقد كان حديث السيارات وإنتاجها شاغل الصحف والأمريكيين جميعاً وقتها.
لقد حول هنري فورد السيارة إلى سلعة ضرورية لكل فرد أمريكي، فترك هذا أثراً عميقاً جداً على المجتمع الأمريكي، ويمكن أن يتخيَّل المرء ما يقتضيه في ذلك الوقت وجود ملايين السيارات من صناعات أخرى متصلة بها، من مصانع التعدين والمطاط والجلد والزجاج وغيرها. وفي ظل عدم وجود أي بنية تحتية لذلك مما تطلب الأمر تعبيد آلاف الكيلومترات من الطرقات وكذلك صناعة النفط، ومحطات الوقود، ومرائب التصليح .. وغيرها مما يرافق ذلك من نشاطات قتصادية كثيرة.
هذه العملية (الإنتاج المكثف) مع تمكن الأمريكي العادي من الشراء، غيرت وجه أمريكا، حتى قال البعض: «إن هنري فورد غيَّر وجه العالم».

من الصعب أن تعيش على هامش الحياة، ومن الأسى أن تجد أمة عالة على العالم ولا تشكل رقما في المعادلة الدولية .. حقا إنها كارثة أن يكثر المستهلين ويتلاشى المنتجين، ويملك القوت العدو ويبيع السلاح الحاقد ويصنع الدواء من لا يرقب في المريض إلا ولا ذمة.
إنها «ثقافة الاستهلاك» التي بدأت تتفشى في كثير من المجتمعات التي ابتاعتها من غيرها المنتجة نظير حريتها وكرامتها وسيادتها .. ثقافة الدون من الحياة، وإيثار الاسترخاء على الجد وعلو الهمة، وإحلال مظهر الأجساد المترهلة عوضا عن الرشاقة والفتوة.  
قال الإمام أبو العباس ابن تيمية في (الحموية)، وقبله بنحوِهِ أبو حامدٍ الغزالي في (ميزان العمل) رحمهما الله: "إنما يفسد الناسَ نصفُ متكلمٍ ونصف فقيهٍ ونصف نحويٍ ونصف طبيبٍ. هذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأديان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان". لئن قيل ذلك عن الأنصافِ وإفسادهِم فماذا عن الأصفار؟
إن «ثقافة الاستهلاك» ثقافة إتكالية انهزامية تبتلع الثروة وتفقد الحس بقيمة الأشياء وتجعل المرء ينشغل بالمظهر عن الجوهر عندما يصير الإنفاق على الكماليات هدفا ورسالة ومظهرا اجتماعيا يبذل فيه الغالي والنفيس. بل ربما تصل هذه الثقافة إلى حد الهوس أو المرض أو تدفع صاحبها لأن يمد يده إلى الحرام ليشبع نهمته ويرضي غريزته. وكما يقول (هارتلى جراتان): "المستهلك مخلوق معَقَّد يعيش في عالم معَقَّد".
كما يرى المحللون أن استهلاك الأشياء بات أسهل وأقرب، وأن الاستهلاك المفرط يخمد العقل ويفقده القدرة على التفاعل والتفكير والتحليل، حيث يتعامل الذهن مع صنوف المنتجات باستسلام، بخلاف الإنتاج الذي يتطلب اتخاذ القرارات والمفاضلة بين الاختيارات والتجريب والمحاولة بما يقتضيها النجاح والفشل، وهذا من شأنه أن يفجر الطاقات ويثري الإبداعات.      
يذكر أنه من منتصف هذا القرن تضاعف متوسط الاستهلاك العالمي للفرد الواحد من النحاس والطاقة، واللحوم والصلب والخشب مرة واحدة، بينما تضاعف متوسط استهلاك الأسمنت كما تضاعف عدد مالكي السيارات أربع مرات، وتضاعف استهلاك البلاستيك خمس مرات، والألمونيوم سبع مرات. ومنذ عام 1950م استهلك سكان العالم من السلع والخِدْمات ما يُعادل ما استخدمه البشر منذ فجر التاريخ الإنساني.
الاستهلاك وسيلة لا غاية
لسنا في حاجة لأن ندلل على أن الإسلام اعتبر الاستهلاك وسيلة وليس غاية، وإنما وقفت الشريعة الغراء موقف الخصم مع الاستهلاك المذموم المعني بالكماليات والإغراق في الملذات حتى صار الغاية والهدف، خاصة وأن جشع الإنسان لا يرتوي.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وأما المطاعم والمشارب والملابس والمناكح فهي داخلة فيما يقيم الأبدان ويحفظها من الفساد والهلاك وفيما يعود ببقاء النوع الإنساني ليتم بذلك قوام الأجساد وحفظ النوع فيتحمل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض ويقوى على حملها وأداءها، ويتمكن من شكر مولي الأنعام ومسديه".
هذه القيم الناصعة كفيلة بأن تقضي على أزمات العصر التي أحدثها العالم الاستهلاكي الأجوف من تآكل للموارد الطبيعية وارتفاع معدلات التلوث البيئي ومشاكل التخلص من النفايات. هذا فضلا عن تبدل القيم الاجتماعية وإزاحة الفضائل أمام طوفان الغرائز، وما يتبعه ذلك من أمراض عضوية ونفسية. 
يقول الإمام محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - في كتابه (الاكتساب من الرزق المستطاب) عن الإشباع: "المسألة على أربعة أوجه: ففي مقدار ما يسد به رمقه ويتقوى على الطاعة هو مثاب غير معاقب، وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع فهو مباح له محاسب على ذلك حسابًا يسيرًا .. وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له محاسب على ذلك، مطالب بشكر النعمة وحق الجائعين، وفيما زاد على الشبع فان الأكل فوق الشبع حرام".
تعديل المفهوم الاستهلاكي
رغم تعدد النظريات التي تصدت بالحلول لحمى الاستهلاك الترفي إلا أنها تكاد تتفق على دور التوجيه والتثقيف الفكري لتعديل سلوكيات المجتمعات وضبط تصرفاتها نحو الاستهلاك المتهور والتفريق بين حاجاتنا الحقيقية من الوهمية.
تعديل الدافع والقناعة يكاد يكون العامل الأهم في التغلب على شره الاستهلاك .. وبالطبع لا تجد أحكم ولا أنصع من التعاليم الإسلامية في ترسيخ قناعة تامة بالترشيد في أمورنا كلها وتفعيل دور سلم الأولويات بتقديم الأهم على المهم، والنظر للاستهلاك على أنه عبادة وطاعة وغريزة فطرية إذا اتسمت بالانضباط دون إفراط ولا تفريط.
قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) [رواه مسلم] .. قال ابن الأثير: "يعني شبع الواحد قوت الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة، وشبع الأربعة قوت الثمانية". ومنه قول عمر –رضي الله عنه- عام الرمادة: "لقد هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم، فإن الرجل لا يهلك على نصف بطنه".
وقال أيضا الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، ومكسلة عن الصلاة".
والتراث الإسلامي غني بالكثير من هذه التوجيهات النبيلة فضلا عن السلوك الرائع لسلفنا الصالح الذي يعد مفخرة على كل الأصعدة سواء الإيمانية أو التعبدية أو التربوية أو الاقتصادية .. مما يجعلنا لا نتردد لحظة في الإشادة بدور قيمنا الإسلامية النبيلة في تنظيم مسيرتنا التنموية واسترداد دورنا الحضاري الذي تراجع إلى حد كبير، فاللهم احفظنا بالإسلام.      

 
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com
 


الأحد، 12 أكتوبر 2014

عنوسة في ريعان الشباب !!




كانت كل الأحاديث حولي لا حديث لها إلا عن تفوقي الدراسي وهمتي الفريدة في مساعدة والدتي في شئون المنزل ومهارتي في الطبخ حتى أن أمي كانت تتباهى بي في كل محفل وعند كل وليمة نعدها بالمنزل للضيوف من الأقارب والأحباب، واتسمت من بواكير شبابي بسداد الرأي فكان كل من بالبيت والعائلة يحرص دوما على مشورتي في مجريات الأحداث وتلمس رأي الشخصي، بل أذكر أن والدي لما كبرت صار يعمل لي ألف حساب عندما ينشب الشجار بينه وبين والدتي تقديرا لشخصي واحتراما لمشاعري فهو يحاول أن يجذبني لصفه، ولا يصعد المشكلة لو تحاملت عليه ولمته على انفعاله، فلقد كنت دلوعته الحبيبة وبنته الوحيدة وموضع فخره واعتزازه، وتوطدت الصداقة بيننا لما نجحت في الثانوية العامة ودخلت كلية من كليات القمة التي تقاصرت قامات كثير من شباب العائلة والجيران عن الالتحاق بها وفاتهم ما ظفرت أنا به بسبب درجة أو درجتين لا أكثر ولا أقل، وكان حتما عليهم لتدارك ما فات أن يدخلوا الجامعات الخاصة بلهيب أسعارها الذي يثقل كاهل أغنى الأسر.
كانت الدنيا كلها ملكي، وكنت أعيش بمعادلة واحدة «من جد وجد ومن زرع حصد» .. لكن مع دخولي في سن الزواج بدأت الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن .. حتى الآن لم يتقدم أحد لخطبتي رغم أن رفيقاتي وقريباتي بدأن في دخول القفص الذهبي الواحدة تلو الأخرى، وانتبهت لأمور لم تخطر على بالي يوما .. إني سمراء في مجتمع يعشق شبابه الشقراوات! والمجتمع يعاني من أزمة بطالة استعصت معها أمور الزواج وتكاليفه من شقة وشغلة ومهر وميزانية تثقل كاهل أي شاب حديث العهد بمسئوليات الحياة.      
جرت السنون سراعا ودخلت على أعتاب الثلاثين وبدأت كلمة «عانس» ترن في أذني وترد مرارا على خاطري .. معقولة أنا عانس!! .. يا إلهي .. بأي ذنب وجريرة.
وليت الأمر اقتصر على ذلك بل أجدني فريسة مستباحة في المجتمع لأني بدون رجل، ووصل الأمر إلى خوف بعض المتزوجات مني على أزواجهم!! .. إن الأرض تكاد تمور من تحت قدمي وأوشك أن أفقد توازني واستقراري النفسي الذي كنت أتمتع به.
لقد بدأت المعادلة التي كنت أعيش بها تهتز وأيقنت مع تجارب الأيام أن ليس بحتم أن كل من جد وجد وليس كل من زرع حصد! وكم في السجن من مظاليم، وكم في الحياة من مساكين، بلا جريرة تذكر ولا خطيئة تؤثر ولكنها الأقدار.
كانت مناسبات الزواج السعيدة من حولي أشبه بمأتم شخصي يذكرني بزوجي وفقيدي الذي لم يأت، وكانت تهنئة «عقبالك» كسكين يغرز في قلبي ووجداني، وأتمنى ساعتها لو انشقت الأرض وابتلعتني من شدة الإحراج الذي أحاول أن أدفعه بكل ما أوتيت من إرادة وعزيمة كي لا يبدو على قسمات وجهي.
كنت أحس بالغربة عندما أرى زوجة قد تعلقت بيد زوجها في الطريق وأمامهما طفلين جميلين أشبه بالعصفورين، وكنت كالصماء بين السيدات اللاتي يتحدثن عن أزواجهن وغيرتهم أو غضبهم أو حنانهم. 
إن العنوسة عالم غريب دخلته رغما عن أنفي، وأغرب ما فيها أنني ما تصورتها بحياتي يوما، ولا تخيلت أنني سأعيش كالمتهمة تلاحقني نظرات الشفقة حينا ونظرات التهمة حينا آخر.  
ولقد دفعني الفضول لأن أغوص في هذا العالم وأتعرف على مكنوناته وأسراره، فوجدت أن المختصين قالوا أن العانس قد تعاني من بعض السلوكيات النفسية الغريبة كالانطوائية، أو الميل للعدوانية نحو النساء المتزوجات كنوع من التعبير عن الحقد عليهن، أو التعلق الزائد بالوالد (عقدة الكترا) لإرواء الحاجة بوجود رجل في حياتها، أو السخط على المجتمع عامة وأفراد الأسرة خاصة وبالذات لو كان قرار الأب أو الأم عائقا في تزويجها كغلاء المهر أو الانتماء القبلي أو تزويج الكبرى أولا أو غيرها من الآفات الاجتماعية التي توقع البنت المسكينة في شراك العنوسة بلا ذنب ولا جريرة.
وقالوا أيضا أن العانس تكون غارقة في أحلام اليقظة عن فتى الأحلام الذي تصبو نفسها إليه، مع النزعة التشاؤمية وفقدان المعنى من الحياة.
أما الفقهاء الإسلاميين فتناولوا الآفات الاجتماعية التي تعرقل الزيجاب بما يعرف باسم «العضل»، حيث يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19]  
 والطامة الكبرى «الطفولة» التي حرمت منها ولفظة (أمي) التي طالما حلمت بها .. إن حبي للأطفال لا يصفه وصف ولا يحده حد، وكم كنت أتمنى أن يكون لي طفل أحتضنه وأشتمه وأقبله وألاعبه، وأملئ به دنياي، لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
لكني اليوم ومع طول خبرة في أيام العنوسة أدركت أنني كنت خاطئة بهذه المشاعر المبالغ فيها .. إنني اليوم أكثر نضجا مما مضى، وأكثر تفهما لطبيعة الحياة، فبعد استيعاب الصدمة وهدوء المشاعر والتفكير بواقعية وعقلانية أكثر تبين لي أن العنوسة لا تعدو كونها قدر وابتلاء ومحنة كسائر المحن، ومن منا استقامت له الحياة دوما على دروب السعادة والهناء .. إن لكل منا أزمته ومحنته مع اختلاف الصور والأشكال لا أكثر ولا أقل.
فكم من معاق أغلى أمانيه أن يرد الله له صحته، وكم من فقير تمنى أن يسد الله فاقته، وكم من سجين تمنى أن يفك الله حبسته، وكم من خائف تمنى أن يؤمن الله روعته، وكم من غريب تمنى أن ينهي الله غربته. وكم من مدين وتعيس وجاهل ومكروب ومأزوم .. والقائمة تطول.
وهل كل من تزوج فهو سعيد، حتى لو اختار الزوجة الجميلة وعنده الطفل البريء والمسكن الهنيء .. كلا وألف كلا، فأين الزوج البخيل والشكاك وضعيف الشخصية والفاشل والمدمن والسلبي والحقود والغيور .. وأين الزوج الثرثارة والغير نظيفة والمتهورة والغبية والخائنة .. أليست كلها مشكلات تعشش في القفص الذهبي .. أليس من الأزواج من يتحسر على أيام الشباب والانطلاق ويسخط على أيام زواجه وعظيم مسئولياته .. أليس من الزوجات من تصبح كل يوم على أمل أن يقبض الله روح زوجها لتستريح من ضربه المبرح أو إدمانه أو نزواته أو ألفاظه الجارحة وتصرفاته الخشنة.
إن المؤمن يعيش بين قضاء وقدر ووفق مخطوط قلم سبق، ومن العباد من إن أغناه الله فسد حاله، ومنهم من إن أفقره الله صلح حاله، ورسالة الإنسان الجوهرية ليست في الزواج وحسب، بل رسالته في أن يقيم العبودية، والصبر على الأقدار أحد مقاماتها بل من أشرفها على الإطلاق، وهذا ما يميز المؤمن عن غيره، حتى صار مضرب المثل ومكمن العجب، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، فسبحان من يبتلي عباده ليكرمهم ويعظم أجرهم، فتلمس عوض الجليل والنعيم المقيم يهون كل بلاء وييسر كل عسير، ومن يرد الله به خيرا يصب منه، ويبتلى المرء على قدر دينه.
فاللهم ارزقنا الرضا في السراء والضراء، وارزقنا شكر نعمك العديدة ومنحك المديدة، واجعل عاقبتنا في الأمور كلها إلى خير، ولا تكلنا إلى أنفسنا فنزل ونشقى، أنت حسبنا ونعم الوكيل، وأنت المستعان على الكثير والقيل والجليل والحقير. 
        

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com