الخميس، 27 نوفمبر 2014

الصداقة .. بين تأصيل ابن المقفع وأزمتها المعاصرة





«الصداقة» .. معنى أصيل في الوجدان البشري، تناوله الحكماء بالتوصيف والتحليل، وكان للأديب البارع (عبد الله ابن المقفع) فيه باع فريد، حيث غاص في بحر هذا السلوك الإنساني النبيل، ورسم أبعاده وسماته في نظم بليغ يفتخر به منسوبي هذه الحضارة الإسلامية الراقية، ويزهو به أصحاب العقول الراجحة من عقلاء البشرية، إلا أن المؤسف أن تغيرات واقعنا المعاصر قد شوهت معنى الصداقة الناصع وأصابته في مقتل تارة وبالتجريف تارة أخرى، حتى صار مفهوم الصداقة «أزمة!» تضاف إلى أزمات عصرنا، وتبحث عن حل لا يخلو من العودة إلى معانيها السامية كما رسخها الأوائل إن أرادت أن تدب فيها الحياة كما كانت على عهدها وسالفها.  
ابن المقفع الأديب المحنك
هو عبد الله بن المقفّع، وكان اسمه روزبه قبل أن يسلم. ولد في حور في فارس، ولقِّب أبوه بالمقفّع لتشنّج أصابع يديه على أثر تنكيل الحجاج به بتهمة مدّ يده إلى أموال الدولة. انتقل مع والده من فارس إلى البصرة إحدى حواضر الدولة الإسلامية، وكما تضلع بالفارسية في موطن نشأته، تضلع بالعربية في البصرة.
كان فاضلا نبيلا كريما وفيا، سُئل مرة: "من أدّبك"؟ فقال: "نفسي .. إذا رأيت من غيري حسنا آتيه، وإن رأيت قبيحا أبَيْته".
ومن المواقف التي تدلّ على صدقه ووفائه، أنه لما قُتل مروان بن محمد -آخر خلفاء بني أمية- اختفى عبد الحميد الكاتب، فعُثِرَ عليه عند ابن المقفّع، وكان صديقه. وعندما سئِل الرجلان: أيُّكما عبد الحميد؟ قال كل واحد منهما "أنا" خوفا من ابن المقفع على صاحبه.
ويكاد يجمع المنصفون على براعة ابن المقفع وتفرده أدبيا، فقد قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
ابن المقفع والصداقة
يقول رحمه الله: إذا نظرتَ في حال من ترتئيهِ لإخائك، فإن كان من إخوانِ الدينِ فليكن فقيهاً غير مراءٍ ولا حريصٍ، وإن كان من أخوانِ الدنيا فليكن حراً ليس بجاهلٍ ولا كذابٍ ولا شريرٍ ولا مشنوعٍ. فإن الجاهل أهلٌ أن يهربَ منهُ أبواهُ، وإن الكذابَ لا يكونُ أخاً صادقاً. لأن الكذب الذي يجري على لسانهِ إنما هو من فضولِ كذبِ قلبهِ، وإنما سمي الصديقُ من الصدقِ. وقد يتهمُ صدقُ القلبِ وإن صدقَ اللسانُ. فكيفَ إذا ظهرَ الكذبُ على اللسانِ؟ وإن الشريرَ يكسبكَ العدو. ولا حاجةَ لكَ في صداقةٍ تجلبُ العداوةَ، وإن المشنوعَ شانعٌ صاحبهُ.[الأدب الكبير] أي مستنكر ومستقبح لصاحبه.
ويقول: على العاقل أنْ لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس -ما استطاع- إلا ذا فضل في الدين والعلم والأخلاق؛ فيأخذ عنه، أو موافقاً له على إصلاح ذلك فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل؛ فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيى ولا تنمى إلا بالموافقين والمهذبين والمؤيدين؛ وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو أقرب إليه وأحب ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبته؛ لذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.[الأدب الصغير]
ويقول: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقلاً كريماً أو عاقلاً غير كريمٍ: فالعاقل الكريم كاملٌ، والعاقل غير الكريم أصحبه، وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته، وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والفرار كل الفرار من اللئيم الأحمق.[كليلة ودمنة]
ويقول: واعلم أن انقباضكَ عن الناسِ يُكسبكَ العداوةَ. وأن انبساطكَ إليهم يكسبكَ صديق السوء. وسوءُ الأصدقاء أضر من بغضِ الأعداء. فإنك إن واصلتَ صديقَ السوء أعيتكَ جرائرهُ، وإن قطعتهُ شانك اسم القطيعةِ، وألزمك ذلك من يرفع عيبكَ ولا ينشرُ عذركَ. فإن المعايبَ تنمى والمعاذير لا تنمى.
ويقول: البس للناسِ لباسينِ ليس للعاقلِ بدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءةَ إلا بهما: لباسَ انقباضٍ واحتجازٍ من الناسِ، تلبسهُ للعامةِ فلا يلقونكَ إلا متحفظاً متشدداً متحرزاً مستعداً. ولباسَ انبساطٍ واستئناسٍ، تلبسهُ للخاصةِ الثقاتِ من أصدقائك فتلقاهمُ بذاتِ صدركَ وتفضي إليهم بمصونِ حديثكَ وتضعُ عنكَ مؤونةَ الحذرِ والتحفظِ في ما بينكَ وبينهم .. وأهل هذه الطبقةِ، الذين هم أهلها، قليلٌ من قليلٍ حقاً. لأن ذا الرأي لا يدخلُ أحداً من نفسهِ هذا المدخل إلا بعد الاختبارِ والتكشفِ والثقةِ بصدقِ النصيحةِ ووفاء العهدِ.
ويقول: اعلم أن لسانك أداةٌ مُصلتةٌ، يتغالبُ عليهِ عقلكَ وغضبكَ وهواك وجهلكَ. فكُل غالبٍ مستمتعٌ به وصارفهُ في محبتهِ، فإذا غلبَ عليهِ عقلكَ فهو لكَ، وإن غلبَ عليه شيءٌ من أشباهِ ما سميتُ لك فهو لعدوكَ. فإنِ استطعتَ أن تحتفظ به وتصونهُ فلا يكونَ إلا لكَ، ولا يستولي عليهِ أو يشارككَ فيه عدوكَ، فافعل.
أزمة الصداقة المعاصرة
والمتدبر في تاريخ الفكر السياسي يجد أن الصداقة كانت دوما عنصرا مركزيا في تصور المجتمع الفاضل، فالقانون وحده لا يبني الثقة المجتمعية التي لا تحيا المجتمعات الإنسانية إلا بها، ورابطة الدم وحدها لا تكفي لضمان العدالة، ولم تخل فلسفة سياسية من تصور للصداقة منذ تحدث عنها أرسطو في كتاب القيم كأساس متين لعلاقة الأفراد، يمثل الأساس الذي تنبني عليه علاقة المواطنة، ثم اليهودية التي تعتبر دائرة القيم داخل الشعب المختار في حين للتعامل مع الأغيار منظومة قيم مختلفة، مرورا بالتصور المسيحي في فكر أوغسطين الذي يعتبر الأخوة المسيحية ورابطة العقيدة أساسا لتزكية النفس وفهم الذات، وتوما الاكويني الذي يذهب إلى أن «معيار الخيرية» هو العطاء واعتبار الآخرين نظراء في البشرية.
ولكن صعود الحداثة وصعود الأيديولوجيات في القرون الخمسة الأخيرة قدم تصورات عن الاجتماع والاقتصاد والسياسة، جعلت المصلحة والمنفعة معيار التواصل والتفاعل الإنساني وليس التوافق والألفة، وتغيرت بناء على ذلك منظومة العلاقات الاجتماعية، بل والسكانية بنمو المدن التجارية، وصارت «العقلانية» معيار علاقة الإنسان بالآخرين وبالتساكن والارتباط برباط سياسي.
العقلانية وليس العاطفية إذ أطاحت بمركزية الصداقة بكل ما تحمله من معان والتي تأسست على رابط العقيدة (دينية أم ثقافية) أو الجيرة أو الوفاء للذكريات المشتركة التي تقوم على الاختيار المحض والميل القلبي حتى حين تقف على أرضية روابط القبيلة أو الدم، وحل محلها علاقة «المواطنة» القانونية مع الدولة، وعلاقة التعاقد مع المجتمع (العقد الاجتماعي) وعلاقات المنفعة في الاقتصاد، وأصبحت نظرية «الخيار الرشيد» التي تعتبر الإنسان كائنا يبحث عن تعظيم المنفعة الفردية هي الحاكمة، ويقابلها في الماركسية نظريات الصراع بين الطبقات والتنافس على القوة والمال، فتمت «علمنة» العلاقات الوجدانية كالصداقة، فضلا عن تجفيف مواردها بفضل المؤسسية التي صارت وعاء للعلاقات، فمن يشارك بناية السكن ليس الجار بل هو الساكن، ومن يشارك مكان العمل هو زميل العمل، ومن يشارك المهنة عضو في النقابة، ومن يشارك في المال مساهم في نفس الشركة .. وهكذا.
ولكن حتى هذه الأفكار في تجليها الذي قلص من الروابط التي تقوم على المودة خارج المصلحة المادية لم تستطع أن تحل أزمة الثقة بين الأفراد و «فطرة الائتناس» التي فطر الله الناس عليها، فنجد في هوامش نظريات الحداثة مفهوم الإنسانية والخير العام، وتظهر بعد عقود طويلة في نظريات المواطنة فكرة سياسات التعاطف والرعاية، ونجد آثار ذلك في الفكر الماركسي مفهوم الرفاق وما يحيط به من معاني الترابط. [د. هبة رءوف عزت، الصاحب من فهم الذات لتأسيس المجتمعات]
إن المادية الحديثة قضت على كثير من الروابط الوجدانية بين البشر وقادتهم، لحتفهم العاطفي، وحولتهم لآلات صماء تعمل وتنتج بوقود النفعية والمصلحة الذاتية، وهذا بدوره قضى على منظومة القيم والراحة والسكينة النفسية، فتقطعت الروابط بين الناس وزادت معدلات الجريمة وسائر مظاهر الجنوح السلوكي والوجداني، الأمر الذي يحتاج من الجميع التكاتف من أجل رد الإنسان إلى إنسانيته وفضائله النبيلة التي تغذي روحه وتعدل سلوكه.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

الخميس، 20 نوفمبر 2014

إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ


«بطر النعمة» من أبشع أنواع البطر وأشدها على النفس وأسوءها عاقبة ومذمة، خاصة وأن صاحبه انقطعت عنه الحجة وسقطت منه المعذرة، فصدور العصيان ممن هو في غاية الإنعام أقبح القبائح وغاية الخسران، وقد كان الأولى بالمتنعمين لزوم عتبة الشكر والاستمساك بعروة الحمد، ولكنها النفس الدنيئة التي تعلقت بالدنيا واطمأنت لها حتى تناست يوم الجزاء.
        
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] تعليلٌ لابتلائِهم بما ذُكِرَ من العذابِ أي إنَّهم كانُوا قبلَ ما ذُكِرَ من سُوءِ العذابِ في الدُّنيا منعّمينَ بأنواعِ النعمِ من المآكلِ والمشاربِ والمساكنِ الطيبةِ والمقاماتِ الكريمةِ منهمكينَ في الشهواتِ فلا جرمَ عُذبُوا بنقائضِها.[تفسير أبي السعود: 6/262]
قال السعدي أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه.[تفسير السعدي: 1/834]
وقال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11] النَّعْمَةِ: الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره. [البحر المديد: 6/442]
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديدا لهم بأن الذي قال {ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} سيزيل عنهم ذلك التنعم. وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدون سعة العيش ووفرة المال كمالا، وكانوا يعيرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}[المطففين: 29-30]،
وجعلهم ذوي النعمة -المفتوحة النون- للإشارة إلى قصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]
والإنسان متى استرسل مع لذاته وشهواته ربما ارتكب من الحماقات ما هو أشبه بالجنون، وقديما قالوا: «إذا جاء الترف أصاب الحضارة التلف» .. ففي أوروبا نجد الأسبان قد أدمنوا ما يعرف بمصارعة الثيران حيث يبرزون شجاعتهم أمام ثيران ضخمة وخزا بالسيوف على مرأى ومسمع من جمعيات الرفق بالحيوان التي صدعونا بشعاراتها، بل للأسبان يوما في العام تجري الثيران في الشوارع والطرقات ويتعرض لها الشباب في مهرجان كارثي لا يثمر سوى آلاف الجرحى وربما القتلى، كما يحتفل الأسبان كل عام ولمدة أسبوع كامل بمهرجان الطماطم، حيث يتراشق أكثر من أربعين ألف شخص في مقاطعة «فالنسيا» بالطماطم فيتلفون في معاركهم الهزلية تلك نحوا من مائة طن منها. وفي سويسرا مهرجان للبصل يقام في شهر نوفمبر من كل عام، يتفنن فيه المشاركون في تصميم أشكال فنية بديعة من البصل، وفي كافة الدول الأوروبية أقيمت فنادق للكلاب ومنهم من وهب ثروته لكلبه، وفي عالمنا العرب تسرب إلينا بعض الهوس بموسوعة الأرقام القياسية ولأننا لا باع لنا في دنيا العلوم والتكنولوجيا والاختراعات فصرنا نسمع أن أكبر طبق تبولة أو بقلاوة، وأكبر صينية كبة، وأكبر سلة فواكه، وأكبر قِدْرة فول وغيرها.
وإن تعجب فلك أن تعجب مما جاء في تقرير نشرته منظمة الأغذية والزراعة العالمية «فاو» أن الجفاف والحرب في شرق أفريقيا خلفا أكثر من عشرين مليون شخص وهم في حاجة ماسة للمعونات الغذائية الطارئة. وأضافت أن 6500 شخص يموتون يوميا في أفريقيا بسبب الجوع، وأن مائة مليون طفل يعاني من الجوع في هذه القارة الغنية بالثروات. ومن المفارقات التي أظهرها التقرير أن أعداد البدناء في العالم تجاوز الآن المليار نسمة، وهي نفس أعداد من يعانون من سوء التغذية!!.
ولذلك لم يذكر القرآن الكريم الترف إلا في موضع الذم، لأنه بريد الجحود قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:26-30] {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان:18]
فالإغراق في التنعُّم والتَّرف سبب لِنُزول بلاء الله وعقابه، والحرمان من النَّصر والظفر؛ {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 64 – 65]، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 11- 13]
وأصحاب الترف أصحب رأي معوج وحقائق مقلوبة ومنطق سقيم، فيستدلون بالنعمة على محبة الله لهم رغم معصيتهم وعنادهم، قال تعالى" {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ: 34 – 35] ولذلك رد الله عليهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:36-37]
بل إنهم لا يقتصرون في غيهم على أنفسهم بل هم دعاة فتنة وخراب، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]  
وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون:33-38]
والترف داء الأمم على مر الزمان، وهو الداء العضال والمرض القتال، الذي يحول المرء إلى وحش كاسر لا هم له إلا شهوته ولذته، فتموت نخوته وتضمحل غيرته وتفتر همته، فإن استَشرى الترف في أُمَّة، ذهب بعزِّها، وأورثها كسلاً وخمولاً، ورُكونًا إلى الدنيا، ومحبَّة لها، وحِرصًا عليها، فلا يُرتجى منها نفعٌ، ولا يُنتظر منها دفاعٌ عن الحق. قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}[هود: 116]
ومن كنوز الوصايا النبوية قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) [رواه أحمد] 
ورغم أن الترف شيد على الغنى وبني على بحبوحة العيش لكنه ليس بلازم له، فكم من غني يتقي في ماله ربه ويصل به رحمه، وكم من فقير نهم لتحصيل الملذات وإن غرق في الديون أو امتدت يديه للحرام .. قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا بأس بالغنى لمن اتقى والصحة لمن اتقى خير من الغنى وطيب النفس من النعيم). قال محمد بن كعب: الغني إذا اتقى آتاه اللّه أجره مرتين لأنه امتحنه فوجده صادقاً وليس من امتحن كمن لا يمتحن.


د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com




الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

لا يشم منك إلا أطيب ريح


لا نبالغ إذا قلنا إن الرائحة الجميلة الزكية مفتاح من أهم مفاتيح العلاقة الزوجية الناجحة، بل وسائر العلاقات الاجتماعية، وعلى العكس تشكو بعض النساء من هروب أزواجهن من عش الزوجية، ويعتقدن بأن سبب ذلك هو مشكلة جمالية .. غير منتبهات إلى أن الرائحة الكريهة قد تكون هي السبب الخفي وراء هذا النفور والهجر.
بل وهناك زيجات تفشل رغم أن الزوجة تكون على قدر كبير من الجمال والرشاقة، ويكون الزوج على درجة عالية من النضج والفتوة. ويندهش الجميع لهذا الفشل ويحاولون دون جدوى معرفة السبب، ورغم أن الأسباب كثيرة ومتعددة ولكن من أهم هذه الأسباب التي لا يبوح به عادة الأزواج «الروائح المنفرة» أي وجود رائحة عامة تشمل الجسم كله، خاصة رائحة العرق، أو تكون خاصة من الفم مثلا، أو تكون أكثر خصوصية من الأعضاء التناسلية.
وهناك أنواع شتى من العطور نشتريها رجالاً ونساء عند الزواج، ويُهدى إلينا أضعافها.. يوصي البعض العروس بعطر جديد «أخَّاذ» وآخر «فتّان» وثالث «مثير» ثم بعد شهور ننظر إلى زجاجات العطر ونعتبرها جزءًا من الديكور .. ففي المطبخ، ومع قدوم الطفل الأول، والانشغال بتغيير الحفاظات، وترتيب المنزل .. وغيرها من الأعباء، يبقى العطر للمناسبات العائلية فقط. لكن من قال إن الرائحة الطيبة هي قارورة عطر وحسب، بل على العموم فإن الرائحة الطيبة وغياب الروائح الكريهة هي- بدون مبالغة- أساس العلاقة الزوجية الناجحة، ومفتاح تجددها.
خير الهدي النبوي
قال ابن القيم في زاد الميعاد: وكان صلى الله عليه وسلم يكثر التطيب، ويحب الطيب، وكان لا يرد الطيب، وثبت عنه في حديث رواه مسلم أنه قال: «من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه طيب الرائحة خفيف المحمل» وبعضهم يرويه: «من عرض عليه طيب فلا يرده» وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكة [وعاء الطيب] يتطيب منها، وكان أحب الطيب إليه المسك.
وأورد مسلم في كتاب الفضائل باب بعنوان: «طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم، ولين مسه، والتبرك بمسحه» وذكر حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا، قال: وأما أنا فمسح خدي، قال فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار [أي السفط الذي فيه متاع العطار].
وأورد أيضا حديث أنس رضي الله عنه قال: ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست شيئا قط ديباجا ولا حريرا ألين مسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي باب «طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به» أورد الإمام مسلم حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عندنا فعرق، وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت العرق فيها [أي تمسحه] فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أم سليم! ما هذا الذي تصنعين؟» قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب.
قال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث بيان طيب ريحه صلى الله عليه وسلم وهو مما أكرمه الله تعالى، قال العلماء: كانت هذه الريح الطيبة صفته صلى الله عليه وسلم وإن لم يمس طيبا، ومع هذا فكان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات مبالغة في طيب ريحه، لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي الكريم ومجالسة المسلمين.
وكان صلى الله عليه وسلم أشد ما عليه أن تُشم منه ريح كريهة، فروى البخاري عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عندَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشربُ عِنْدها عَسلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أيَّتَنا دَخَلَ عَلَيْهَا النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ إني أَجِدُ مِنكَ رِيحَ مَغَافِيرَ [صمغ حلو له رائحة كريهة] أكَلْتَ مَغَافِير؟ فَدَخَلَ على إِحْدَاهُمَا فَقالت لَهُ ذَلِكَ، فَقال لا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِندَ زَيْنَبَ بِنتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]
احتفظ بأنفاسك زكية
قبل أن تفتح فمك بتحية أو بكلام تأكد أن رائحته طيبة، فكثير من الأزواج يشكون من أن رائحة فم شريك الحياة مزعجة، ولذلك ينفرون من الاقتراب من أنفاسه ما استطاعوا لذلك سبيلاً. ولا شك أن موالاة تنظيف الأسنان بعد الوجبات وقبل الصلوات وعند الاستيقاظ وقبل النوم (وفقًا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم) كفيلة بحل هذه المشكلة أثناء النهار، أيضا يمكن لقرص من النعناع أو العلكة أن يجدد رائحة الفم.
وهناك الآن في الصيدليات الكثير من المنتجات التي تحفظ رائحة الفم طيبة، يشتريها الناس لأسباب اجتماعية، فلماذا لا نقدم الزوج أو الزوجة في هذا المجال؟! والأقربون أولى بالمعروف.
رائحة الجسد
هناك أماكن في الجسم لها صفات خاصة من حيث إفراز مواد دهنية وشمعية من غدد دهنية متخصصة، وأهم هذه الأماكن: الإبطان والفخذان والرقبة .. تتركز فيها الغدد العرقية بدرجة أكبر، وتتصف أيضا بوجود غدد دهنية تفرز مادة دهنية شمعية تساعد على ليونة الجلد وتمنع الاحتكاك بين الأجزاء المحيطة بالمكان.
ومع زيادة إفراز العرق والمواد الدهنية في هذه الأماكن، إضافة إلى أنها أماكن ليست معرضة للتهوية، يعطى وسطا مناسبا لنمو بعض أنواع من البكتريا والفطريات لا تعتمد على الأكسجين في نموها، محدثة التهابات جلدية فطرية متصاعدة تختلط بها خلايا الجلد المصاب فتحدث الرائحة المنفرة المصحوبة بتغيير لون الجلد المعروف للسيدات البدينات بصفة خاصة.
ومما يساعد على تفاقم الحالة وجود أمراض مثل «السكري»، ووجود التهابات جلدية وعرق غزير يعطى رائحة منفرة لتلك الأماكن المصابة غالبا مما يجعل الطرف الآخر غير راغب في التجاور والمخالطة.   
ويمكن التغلب على مشكلات رائحة العرق الكريهة بعيداً عن الحقن والأودية والعقاقير من خلال ما يلي:
§         الاستحمام يومياً بالماء الدافئ والصابون.
§         إزالة الشعر من تحت الإبطين والعانة فهي من سنن الفطرة، وقد وقتت الشريعة الإسلامية مدة أربعين يوما كحد أقصى لإزالة هذا الشعر.
§         إذا كنت ممن يفضلن البخور على العطور فضعي قطرة من دهن العود تحت كل إبط تكفيك لمدة يومين.
§         استعملي البخور بعد كل استحمام وجسدك ما زال ندياً وشعرك ما زال مبللاً؛ لكي تعلق بك رائحة العود، وعندما تطلقين البخور في غرفة النوم افتحي الدواليب وأغلقي باب الغرفة، حتى تعلق الرائحة الذكية بالملابس.
§         اعلمي أن البشرة الجافة تمتص الزيوت الموجودة بالعطور؛ لذلك تذهب رائحة العطر بسرعة. أما البشرة الدهنية فهي أكثر احتفاظاً برائحة العطر.
§         الفتيات صغيرات السن يناسبهن العطر المصنوع من الزهور، أما النساء الأكبر سناً فيناسبهن العطر الأثقل والأقوى.
§         تجنبي وضع العطور بعد تناول الأطعمة الحريفة، مثل: البصل والثوم والسمك والكاري وغيرها؛ فمثل هذه الأطعمة تصل إلى البشرة وتؤثر على رائحة العطر.
§         لا تضعي العطور وأنت متوترة أو في حالة نفسية سيئة؛ ففي هذه الحالة تؤثر العطور بشكل مباشر على الأعصاب ذات الصلة بحاسة الشم.
§         تجنبي وضع المساحيق والكريمات بكثرة حتى لا تنغلق مسام البشرة، وهو ما يمنع خروج العرق فتتكون البثور والحبيبات.
§         تجنبي تناول الأطعمة الدسمة فهي تزيد من شعورك بحرارة الجو فضلاً عن تأثيرها الضار على الجلد، لاسيما بشرة الوجه.
§         إذا كان شعرك طويلاً فارفعيه لأعلى حتى لا تشعري بالحر، ومن ثم تقل نسبة العرق.
§         في حالة غزارة العرق المصحوب برائحة كريهة تستعمل الأعشاب التالية كغسول استحمام: زهور الكاموميل وأوراق الحناء والجوز والبلوط والكاد الهندى ومسحوق الريحان.
§         علاج الأسباب المرضية مثل السمنة والسكر مهم جدا ولا يجب إغفاله.

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com