الأحد، 25 يناير 2015

السباحة في بحر النعم




في غرفةٍ رثة فوق سطحِ أحد المنازل، عاشت أرملةٌ فقيرةٌ مع طفلها الصغير حياة بسيطة في ظروف صعبة .. فقدت تلك الأسرة الكثير، ولكنها وُهبت نعمة الرضا والقناعة. كان فصل الشتاء بأمطاره الغزيرة يشكل هاجسا لهم، فالغرفة عبارة عن أربعة جدران، وبها باب خشبي، غير أنه ليس لها سقف!
وكان قد مر على الطفل أربع سنوات منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لزخات قليلة وضعيفة من المطر، إلا أنه ذات يوم تجمعت الغيومُ، وامتلأت سماءُ المدينة بالسحب الداكنة، ومع ساعات الليل الأولى هطلَ المطرُ بغزارة على المدينة كلها.
نظر الطفلُ إلى أمه نظرة حائرة وارتمى في أحضانها بثيابها المبللة. أسرعت الأمُ إلى باب الغرفة فخلعته ووضعته مائلاً على أحد الجدران، وخبأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيل المطر المنهمر، فنظر الطفلُ إلى أمه ضاحكا مستبشرا وقال لها: «ماذا يا ترى يفعل الفقراء الذين ليس عندهم باب حين يسقط عليهم المطر؟!» .. لقد أدرك الصغيرُ ببساطته الحقيقة الخفية: أن الإنسان يستمتع بالموجود ويحمد الله على ما وهب .. فهم أغنياء لأنهم يملكون بابا وغيرهم لا يملكه!

استحضر نعم الله عليك واجعلها ماثلة في وعيك، دع شمس حياتك تشرق كل يوم مسبحة بنعم الله عليك التي لا حد لها، فالدنيا بأكملها قد أعطيت لمن يملك تقديراً، للنعم وفهماً عميقاً وتصوراً راسخاً عن قيمتها! يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» [صحيح الجامع 6042].
ويقول عبد الحميد الهاشمي في كتابة الصحة النفسية الوقائية: "إن الإنسان المتفائل يسعد مع ثلاث نعم: نعمة كانت ثم زالت فهو يذكرها ويشكر الله عليها، ونعمة يعيشها ويسعد فيها ومعها، ونعمة يرجوها فيعمل لها بكل تخطيط وكفاح وكله أمل أن يصل أليها .. والإنسان المتشائم يشقى مع ثلاث نعم: نعمة كانت فهو يتحسر عليها؛ لأنه لم يعرفها إلا بعد زوالها، ونعمة هو فيها فلا يراها ولا يعترف بها ولا يشعر بها، ونعمة كبرى «أحلاما يقظة» يعيش معها دون عمل لأنه مشغول فكرياً ومنهك عصبيا بآلام الحسرة على الماضي الفائت والشكوى من مرارة الحاضر".
يحكى أن أعرابياً دخل على الرشيد فقال: "يا أمير المؤمنين! ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرّفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها". فأعجب الرشيد كلامه وقال: ما أحسن تقسيمه.
نعم لا تحصى
العبد الموفق هو الذي لا يغيب عن قلبه وشعوره وإحساسه نعمة الله عليه في كل موقف وكل مشهد، فيظل دائماً في حمد الله وشكره والثناء عليه لما هو فيه من نعمه .. الدين، والصحة، والرخاء، والسلامة من الشرور .. قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: ١٨]، وقال تعالى {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: ٣٤].
فإذا كان لديك بيت يؤويك، ومكان تنام فيه، وطعام في بيتك، ولباس على جسمك، فأنت أغنى من 75% من سكان العالم.
وإذا كان لديك مال في جيبك، واستطعت أن توفر شيء منه لوقت الشدة فأنت واحد ممن يشكلون 8% من أغنياء العالم.
وإذا كنت قد أصبحت في عافية هذا اليوم فأنت في نعمة عظيمة، فهناك مليون إنسان في العالم لن يستطيعوا أن يعيشوا لأكثر من أسبوع -بتقدير الأطباء- بسبب مرضهم.
وإذا لم تتجرع خطر الحروب، ولم تذق طعم وحدة السجن، ولم تتعرض لروعة التعذيب فأنت أفضل من 500 مليون إنسان على سطح الأرض.
وإذا كنت تصلي في المسجد دون خوف من التنكيل أو التعذيب أو الاعتقال أو الموت، فأنت في نعمة لا يعرفها ثلاثة مليارات من البشر.
·  جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله فقال له يونس: أيسرّك ببصرك هذا مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا. قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا .. فذكّره نعم الله عليه ثم قال له: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة!!
·  قال رجل لأبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أفضل؟ ذنوب سترها الله، فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها علمي.
·  كتب بعض العلماء إلى أخ له: أما بعد فقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه، مع كثرة ما نعصيه، فما ندري أيهما نشكر: أجميل ما نشر أم قبيح ما ستر؟
·  قال سلام بن أبي مطيع: دخلت على مريض أعوده، فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم، ولا لهم من يخدمهم. قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه: اذكري المطروحين في الطريق، اذكري من لا مأوى له، ولا له من يخدمه.
·  مرّ وهب بن منبه ومعه رجل على رجل مبتلى أعمى مجذوم مقعد به برص، وهو يقول: (الحمد لله على نعمه)، فقال له الرجل الذي كان مع وهب: أي شيء بقي عليك من النعمة تحمد الله عليها؟! وكان هذا الرجل المبتلى في قرية تعمل بالمعاصي، فقال للرجل: ارم ببصرك إلى أهل المدينة، فانظر إلى كثرة أهلها وما يعملون، أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري.
خير علاج
·      ذكر النعم خير علاج لأدواء للكبر والطغيان، فعندما تتوالى النعم على العبد فإن نفسه تدفعه للتكبر على الآخرين والشعور بالأفضلية عليهم بها .. من هنا كان ذكر النعم والتذكير بفضل الله علاجا فعالا لمثل هذه الحالة، كما فعل موسى -عليه السلام- مع بني إسرائيل عندما بدأت أمارات الطغيان تظهر عليهم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: ٦ – ٧].  
·  ذكر النعم علاج فعال لجحود العبد وعدم رضاه عن حاله .. فعندما ينظر المرء إلى ما عند الآخرين ويتعامى عن خير الله عليه، فإن هذا من شأنه أن يجعله ساخطا على وضعه، غير راض عن ربه، وذكر النعم كفيل بأن يخرجه من هذه الدائرة المشئومة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فَضُل عليه» [متفق عليه]. وفي الحديث أيضا «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» [مسلم].
·  انظر إلى هذا الذي تاه مركبُه على صفحاتِ المحيط، وأخذت المياهُ تقذف بعظيمِ الموج حتى أتت على بقايا ذلك المركبِ المتهالك، فبقي هائماً أياماً تعبث به الأمواجُ وتتلاعب به الريحُ وتلهو به الأسماك وقدّر الله له بعد ذلك النجاة .. سُئل بعدها عن أعظم درس تعلمه من هذه التجربة القاسية؟، فقال كلمة عجيبة: (لو امتلكت الماء الزلال والغذاء فلا يحق لي بعد ذلك أن أشكو من مر!). 
·  قال أحد الفضلاء: ما شكوت الزمان ولا برمت بحكم السماء، إلا عندما حفيت قدماي، ولم أستطع شراء حذاء فدخلت مسجد الكوفة، وأنا ضيق الصدر، فوجدت رجلا بلا رجلين، فحمدت الله وشكرت نعمته علي.
·  ذكر النعم يقوي الدافع إلى الاستقامة .. مر ابن المنكدر بشاب يقاوم امرأة فقال: (يا بنيّ ما هذا جزاء نعمة الله عليك!!) فالعجب ممن يعلم أن كل ما به من نعمة من الله، ثم لا يستحي من الاستعانة بها على ما نهاه.
يقول عالم النفس (وليم جيمس): إننا نحن البشر نفكر فيما لا نملك، ولا نشكر الله على ما نملك، وننظر إلى الجانب المأساوي المظلم في حياتنا، ولا ننظر إلى الجانب المشرق، ونتحسر على ما ينقصنا، ولا نسعد بما عندنا.
وأخيراً .. قيل لإعرابي: أتحسن أن تدعو ربك؟ فقال: نعم، قيل: فادع، فقال: "اللهم إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك، فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك".
من أقوال الحكماء
·  قال أبو الدرداء - رضي الله عنه-: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلّ علمه وحضر عذابه.
·  قال ابن عقيل: النعم أضياف وقراها الشكر، والبلايا أضياف وقراها الصبر، فاجتهد أن ترحل الأضياف شاكرة حسنة القرى، شاهدة بما تسمع وترى.
·  قال طلق بن حبيب -رحمه الله-: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.
·  قال مجاهد في قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:٢٠]. قال: هي (لا إله إلا الله). وقال ابن عيينة: ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرّفهم (لا إله إلا الله). وقال ابن أبي الحواري: قلت لأبي معاوية: ما أعظم النعمة علينا في التوحيد!! نسأل الله ألا يسلبنا إياه.
·      قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما من عبد يشرب الماء القراح [الصافي] فيدخل بغير أذى، ويخرج بغير أذى إلا وجب عليه الشكر.
·  قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: الحمد لله الذي لا تؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها.
·  قال الفضيل بن عياض: كان يقال: "من شكر النعمة التحدّث بها". وجلس ليلة هو وابن عيينة يتذاكران النعم إلى الصباح.
·  «اللهم إنا نشكرك على كل نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلا أنت ومما علمناه، شكرا لا يحيط به حصر ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان» الإمام الشوكاني في زاد المسير.
·  «اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفراً، أو أن أكفرها بعد معرفتها، أو أنساها فلا أثني بها» عمر بن عبد العزيز.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

الخميس، 22 يناير 2015

الصمت الفضيلة الغائبة



العالم لا يتوقف عن الكلام، ولا يُقدّر الصمت، ويُصفّق دائماً لمن يتحدث أكثر، ويصفه بالانفتاح والحضور والاجتماعية وسعة الأفق .. بل أصبحت الانطوائية والميل إلى السكوت مرض يتنصّل منه البعض، وتنهال على صاحبه الأوصاف السوداء تارة والساخرة تارة أخرى من معقد ومغلق ومحدود الفكر وكئيب .. هل نحن في زمن قلب الحقائق وتبدل المفاهيم الراسخة على مر العصور، أم أننا بحاجة إلى مراجعة أنفسنا وذاتنا؟ أسئلة تطرح نفسها وتحتاج منا إلى إجابات حاسمة كي لا نضل الطريق.  
فضيلة الصمت
قديما قالوا: "إذا تمَّ العقل نقص الكلام". وأثني احدهم علي فضيلة الصمت فقال: "هو زينة بدون حلية، ووهيبة بدون سلطان، وحصن بدون حائط".
رأيتُ الكلام يزينُ الفتى .. والصَّمتُ خير لمن قد صَمَتْ
فكم من حروفٍ تجرُّ الحتوفَ.. ومن ناطقٍ ودّ أن لو سَكَتْ
قال -صلى الله عليه وسلم-: (من صمت نجا) [أحمد والترمذي] أي من صمت عن النطق بالشر، قال الغزالي: "هذا من فصل الخطاب وجوامع كلمه صلى اللّه عليه وسلم وجواهر حكمه، ولا يعرف ما تحت كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء، وذلك أن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة من نحو كذب وغيبة ونميمة ورياء ونفاق وفحش ومراء وتزكية نفس وخوض في باطل، ومع ذلك إن النفس تميل إليها لأنها سباقة إلى اللسان ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع والشيطان، فالخائض فيها قلما يقدر على أن يلزم لسانه فيطلقه فيما يحب ويكفه عما لا يحب، ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار وفراغ الفكر للعبادة والذكر والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة".
عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: عظني وأوجز، فقال: «إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَاجْمَعْ الْإِيَاسَ مِمَّا فِي يَدَيْ النَّاسِ» [رواه أحمد]
روي أنه التقى أربعة من أذكياء الملوك: ملك الهند، وملك الصين، وملك الفرس، وملك الروم .. فاجتمعوا على ذم الكلام ومدح الصمت، فقال أحدهم: "أنا أندم على ما قلت، ولا أندم على ما لم أقل" وقال الآخر: "إنّي إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني" وقال الثالث: "عجيب للمتكلم، إن رجعت عليه كلمته ضرّته، وإن لم ترجع لم تنفعه"، وقال الرابع: "أنا على ردّ ما لم أقلّ أقدر مني على ردّ ما قلتُ"
اعمل أكثر مما تتكلم
الصامتون من خير أهل الأرض .. هم من يصنعون التغيير ويُضيفون كثيراً في عصر الثرثرة .. الفئة النادرة التي تعمل أكثر مما تتكلم.
يقول زيجلر: "ثُلث ما يتعلمه حاملو درجة الدكتوراه من علم يأتي من خلال دراستهم الأكاديمية فقط، أما الباقي فيكون حصيلة التأمل والمراقبة خلال سنوات عمرهم الباقية. لذا فليس كل متعلم مفكِّر".
إن الإنجاز لن يولد في الضجيج بل تتشكل ملامحه وسط غابات من الصمت ومن السكون، والانطوائية ليست عيباً، بل دليل نبوغ في أحيانٍ كثيرة.
والصمت يمنحك طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حولك والتركيز بعقلانية على إجابتك .. قال د.عبد الوهاب المسيري رحمه الله: «لا أقبل شيئاً على علاته، وهذا ما أصابني بداء التأمل».
لكل حالة لبوسها
جعل الله تعالى الصمت ستراً على الجاهل، وزيناً للعالم .. روي أن رجلاً كان يجلس إلى أبي يوسف، تلميذ أبي حنيفة، ويطيل الصمت، فقال له أبو يوسف يوماً: ألا تتكلم؟ فقال بلى: متى يفطرُ الصائم؟ فأجابه: إذا غابت الشمس، فقال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف، وقال: لقد أصبت في صمتك وأخطأت أنا في طلبي لنطقك، ثم قال:
عجبتُ لأزراءِ العيي بنفسهِ .. وصمتُ الذي كان بالصمتِ أعلما
وفي الصمتِ سترٌ للعيي .. وإنما صحيفةُ لبّ المرءِ أنْ يتكلّما
فالصمت ليس محمودا على الإطلاق والكلام أيضا .. بل يبقى لكل مقام مقال، ولكل حالة لبوسها، ولو كان الصمت فضيلة بإطلاق لماتت النصائح الصادقة وغاب التوجيه السديد وفقدنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ميز هذه الأمة وقامت عليه خيريتها .. تعيش الكلمةُ الصادقة ويُخلد صاحبها، ويبقى في وجدان الناس ويسكن ذاكرة قلوبهم، أما الضجيج الكاذب فربما يبقى قليلا لكن سيظل هشا مُهمشاً في زاوية الصخب .. سيعيش نكرة ويمضي نكرة، ويموت في جوف الفراغ سراباً بلا معنى.
إن الصمت وإن صاحبه سلامة مؤقتة لكنه مسمار يُدَقُ في نعش الفضيلة، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المائدة:78-79]
قال -صلى الله عليه وسلم-:
- (رحم الله امرءا تكلم فغنم أو سكت فسلم) [صحيح الجامع:3492] وأفهم بذلك أن قول الخير خير من السكوت لأن قول الخير ينتفع به من يسمعه والصمت لا يتعدى صاحبه.
- (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) [متفق عليه] قال القرطبي: "معناه أن المصدق بالثواب والعقاب المترتبين على الكلام في الدار الآخرة لا يخلو إما أن يتكلم بما يحصل له ثواباً أو خيراً فيغنم أو يسكت عن شيء فيجلب له عقاباً أو شراً فيسلم، وعليه فـ «أو» للتنويع والتقسيم، فيسن له الصمت حتى عن المباح لأدائه إلى محرم أو مكروه، وبفرض خلوه عن ذلك فهو ضياع الوقت فيما لا يعنيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
وأفاد الخبر أن قول الخير خير من الصمت لتقديمه عليه. وأنه إنما أمر به عند عدم قول الخير .. قال القرطبي: "وقد أكثر الناس الكلام في تفصيل آفات الكلام وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر وحاصله أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان وأعظمها في الهلاك والخسران فالأصل ملازمة الصمت إلى أن يتحقق السلامة من الآفات والحصول على الخيرات، فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة وبأزمة التقوى مزمومة". 
قال ابن القيم رحمه الله: ".. وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى للدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذَّل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليه تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل".
وقال أحدهم: "الصمت عن الخنا، أفضل من الكلام بالخطا".
وقال شمس الدين السفاريني: "المعتمد أنَّ الكلام أفضل؛ لأنَّه من باب التحلية، والسكوت من التخلية، والتحلية أفضل، ولأنَّ المتكلم حصل له ما حصل للساكت وزيادةٌ، وذلك أنَّ غاية ما يحصل للساكت السلامة، وهي حاصلةٌ لمن يتكلم بالخير مع ثواب الخير".

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

الثلاثاء، 6 يناير 2015

جهاد الحب .. حلقة في سلسلة الكراهية ضد الإسلام




بسم الله الرحمن الرحيم
جهاد الحب .. حلقة في سلسلة الكراهية ضد الإسلام
تقرير أعده
د/ خالد سعد النجار

«جهاد الحب» .. تلك الظاهرة التي تناولتها الكثير من المصادر الإخبارية مؤخرا، والتي بدأت حكايتها في قرية (ساراو) الهندية الفقيرة التي تقع في منطقة (أوتار براديش) شمال الهند حيث يعيش الهندوس والمسلمون جنبا إلى جنب بشكل سلمي منذ عقود.
ولكن هذه القرية أصبحت منذ بضع شهور منطقة توتر، وذلك بعد أن ظهرت بذور الشقاق والخلاف بين أصحاب الديانتين، بعد أن زعم متطرفون هندوس في القرية أن شبابا مسلمين يتعمدون إغراء فتيات هندوسيات وإيقاعهن في غرامهم ثم يتزوجونهن ويضغطون عليهن إلى أن يعتنقن الإسلام، فيما يعرف بجهاد الحب.
ويخشى الهندوس بزعمهم من تناقص كتلتهم العديدية على حساب ازدياد تعداد المسلمين، وذلك على الرغم من أن الهندوس يمثلون أغلبية واضحة في الهند، حيث لا يزيد تعداد المسلمين في الهند عن 180 مليون نسمة من بين إجمالي 1250 مليون نسمة.
وتأججت القضية عندما أعلنت فتاة هندوسية من القرية أنه تم اختطافها ونقلها إلى عدة مدارس إسلامية، وتعرضت للاعتداء الجنسي هناك، وعذبت وأجبرت على أن تصبح مسلمة. كما أضافت الفتاة البالغة من العمر 20 عاما أن مختطفيها وعدوها بمكان في الجنة إذا اعتنقت الإسلام، ولكن عندما علمت أنهم يعتزمون تزويجها من رجل عربي هربت منهم.
إلا أن الفتاة عادت إلى الشرطة لاحقا واعترفت بأن شهادتها كانت خاطئة، وأنها تحب الشاب المسلم، وأن أسرتها أجبرتها على الإدلاء بهذه الشهادة لأنها لا تحبذ هذه العلاقة. ثم اختفت الفتاة منذ ذلك الوقت، وتملك الغضب من أبيها الذي قال إن ابنته تلقت تهديدات وتعرضت لغسيل مخ، وإن كل شيء لا يعدو كونه مؤامرة.
ورغم أن ملابسات القضية لم تتضح إلا أن حزب الشعب الهندي «بي جي بي» ذا التوجه القومي والمنظمات اليمينية ذات الصلة به تبنوا تأجيج القضية.
ورأت (أتول شارما) رئيسة منظمة «سانكالب» لحقوق الأطفال في ولاية (أوتار براديش) أن التعامل بهذا الشكل مع هذه الحالة يمثل منهجا متبعا في الهند وأن: "اليمينيين يلتقطون حالات فردية من الغش المحتمل والعداء للنساء ويلبسونها لباسا دينية" وأنهم يفعلون ذلك من أجل حصد أكبر قدر ممكن من أصوات الهندوس في الانتخابات.
وحسب (شارما) فإن الكثير من المراقبين السياسيين اكتشفوا أن المتشددين أصبحوا يحتلون المزيد من المساحات السياسية منذ أن أصبحت الحكومة المركزية في نيودلهي تحت قيادة رئيس الوزراء (ناريندرا مودي) وذلك من أجل ترسيخ حكم الهندوس.
كما أن (ريهانا أديب) الناشطة في حقوق النساء ترى أن ما يعرف بجهاد الحب هو جزء من حملة أكبر، وأن اليمينيين في الهندي يكافحون ضد الزواج بين أبناء الأديان المختلفة ولا يحذرون فقط من الزواج بمسلمين بل يستبعدون المسلمين على سبيل المثال من حفلات الرقص.
وقالت (أديب) إن مجموعات من أمثال مجموعة «جار فابسي» التي تعني [العودة] تحاول إعادة الهنود الذين يعتنقون دينا مثل المسيحية أو الإسلام للهندوسية.
ومن بين هذه المنظمات أيضا منظمة «المجلس الهندوسي العالمي». ويتجول (بالراج دونجار) أحد أعضاء المنظمة، عبر أنحاء الهند المختلفة في إطار حملة توعية، ومحذرا من زواج الهندوسيات من المسلمين.
وقال (دونجار) مؤخرا في إحدى محاضراته في قرية (ميروت) التي لا تبعد كثيرا عن قرية (ساراوا) سابقة الذكر إن بعض هذه الزيجات يسفر عن إنجاب نصف دستة أطفال مضيفا: "إذا أصبح المسلمون أغلبية فسيحكموننا".
وطالما تحول مثل هذا التأجيج إلى أعمال عنف حيث قتل أكثر من 60 مسلما قبل عام خلال هجمات على المسلمين في منطقة (مظفر نجار) واضطر نحو 40 ألف مسلم إلى الفرار من منازلهم، وفقد العديد منهم -ومن بينهم الطفل منور مالك البالغ من العمر 12 عاما- أصدقاءه منذ ذلك الحين.
ومنذ ذلك الوقت أصبح الأطفال من أتباع الديانتين المختلفتين «الإسلام والهندوسية» يتجنبون بعضهم بعضا .. "بعد أن كنا نحتفل بالأعياد بشكل مشترك ونلعب الكريكت معا" حسبما قال الطفل (منور) "ولكن ذلك انتهى، أصبحنا اليوم نلعب في ساحات لعب مختلفة".
وأشارت صحيفة التليجراف إلى أن جماعات هندوسية ومسيحية قد وحدت صفوفها لمكافحة هذه الحملة، ويزعم أحد الهندوسيين (يعمل بخط مساعدة الهندوسيين بجنوب الهند)، أنهم تلقوا ما يزيد على 1500 مكالمة هاتفية من آباء يخشون على بناتهم من إغراء الجماعات الأصولية للدخول فى الإسلام.
وقد أمرت المحكمة العليا فى ولاية (كيرالا) وزارة الداخلية والشرطة بالتحقيق فى الظاهرة، وحتى الآن لم تحصل الشرطة إلا على معلومات قليلة.
كما دعت وزيرة بارزة في الحكومة الهندية لإجراء مناقشات بين القادة الدينيين حول الادعاءات بأن الصبية المسلمين يقومون بإغراء الفتيات الهندوسيات ومن ثم هروبهن كجزء من «جهاد الحب» لتحويلها إلى الإسلام.
وقالت (أوما بهارتي) وهي الزعيمة الهندوسية بحزب «بهاراتيا جاناتا القومي» ووزيرة الموارد المائية في الهند، إن تلك النقاشات لازمة لحماية الرجال والنساء الشباب في كل المجتمعات، وأضافت: "هناك حاجة لضمان مستقبل الأولاد والبنات في المجتمع وألا يتعرضوا للخطر بأي شكل من الأشكال".
من جانبه قال (صديقي الشهيد) النائب والقيادي البارز في «جمعية المجتمع الإسلامي الأول» في ولاية (اوتار براديش): إنه لا يوجد دليل يدعم مزاعم وجود ما يسمى بـ «جهاد الحب» واتهم الوزيرة (أوما بهارتي) باستغلال القضية لإثارة الاضطرابات الدينية. ووصفها بأنها محاولة لسكب الزيت على النار.
وتتكرر هذه المأساة في (أغرا) الهندية، حيث ترغب لجنة من (الفايشيا) المؤلفة بمعظمها من تجار، بمنع المراهقات والشابات – بخاصة الهندوسيات – من استخدام الهواتف الجوالة لإنقاذهن من خطر جهاد الحب.
وقال (سومانت غوبتا) الرئيس الوطني للجنة: "هذه الأمور (الهواتف الجوالة والإنترنت) تدفع بالعقول الشابة إلى الوقوع في فخ جهاد الحب". وأضاف: "نشعر بالحزن والقلق إزاء ارتفاع عدد هذه الحالات في الولاية، بخاصة عندما يتعلق الأمر بفتيات من الفايشيا. ليس لدينا خيار سوى أخذ الحيطة".
وستقوم الجمعية في سبيل تعزيز قضيتها بإرسال مجموعات من الشباب والنساء عبر الولاية ليوضحوا للمراهقات المخاطر المحدقة بهن .. قال غوبتا: "سنقنعهن بتهذيب ومحبة. لن يُمارس عليهن أي ضغط أو قوة".
وجهاد الحب حلقة في سلسلة الكراهية المتنامية ضد الأقليات المسلمة في البلاد الغير إسلامية، حيث أفادت مؤشرات شرطة العاصمة البريطانية (لندن) أن جرائم الكراهية ضد المسلمين في ارتفاع، ففي السنة الماضية سُجلت 344 جريمة، وارتفعت هذه الجرائم هذه السنة لتصل إلى 570 جريمة، والعديد من هذه الاعتداءات كانت تستهدف نساء يرتدين حجاب.
وفي مقال (لمارك تاونسند) نشرته صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية قال: "أكثر من نصف هجمات الكراهية للإسلام في بريطانيا ترتكب في حق النساء اللواتي عادة ما يستهدفن بسبب ارتدائهن ملابس مرتبطة بالإسلام، وفقاً لما أظهرته معطيات جديدة".
وسجلت الدراسة التي أجراها أكاديميون في جامعة «تيسايد» في المتوسط وقوع حادثين اثنين يومياً يتعلقان بجرائم الكراهية للإسلام.
ويتجدد في بريطانيا الجدلٌ الذى لا ينتهى حول اتجاه أبناء الجاليات المسلمة نحو العزلة عن المجتمع أكثر فأكثر, وخاصة في مدينة «برمنجهام» في حي (ألوم روك) الذي يقطنه غالبية من المسلمين الباكستانيين, نظرًا لما يتعرضون له من جرائم تُنبئ عن كراهية البريطانيين لهم.
وبرغم أن المسلمين في «برمنجهام» يمثلون 21 % من نسبة السكان, إلا أنهم في أحياء "ألوم روك" و "وشود هيث" و"سباركبروك"، لا يشعرون مؤخرًا بالارتياح, بسبب ردود أفعال مقتل الجندي البريطاني (لي ريجبي) في لندن العام الماضي على أيدي اثنين من المسلمين البريطانيين, فضلًا عن نبرة معادة المهاجرين التي يطلقها أبرز السياسيين البريطانيين.
وفي أمريكا ارتفعت جرائم الكراهية ضد المسلمين بنسبة 14.3 % منذ العام الماضي، وفقاً لأرقام وحدة جرائم الكراهية في شرطة نيويورك، ولم يمنع ذلك بعض الأمريكيين من راكبي موجة تأجيج الكراهية لإطلاق حملة إعلانية مدفوعة الأجر. وتحمل عبارات ولافتات على الحافلات العامة ومحطات المترو بنيويورك معادية للإسلام تقودها اليهودية الأمريكية (باميلا جيللر) داعمة دولة الاحتلال الصهيوني، وتوجه جزءاً من حملاتها لتأكيد كراهية ملايين الفلسطينيين وتبرير العدوان عليهم، بعد حملة كراهية قادتها عام 2012 ولم تكتمل على خلفية مخاوف من تفجر موجة من العنف رداً على العبارات والكلمات المسيئة للإسلام.
وفي ألبانيا أعربت المشيخة الإسلامية عن رفضها للغة المتزايدة في الآونة الأخيرة ضد المسلمين، التي تتسم بالكراهية والتعصب، وأصدرت بيانًا بهذا الصدد أعربت فيه عن أسفها ورفضها تلك اللغة.
وفي أستراليا تجمع حشد تجاوز 2000 شخص وسط مدينة «ملبورن» الاسترالية، احتجاجًا على ازدياد مشاعر العداء والاعتداءات التي استهدفت المسلمين، وارتفاع نسبة الإسلاموفوبيا في عموم البلاد، وأوضح المتظاهرون أن القوانين الجديدة التي سنتها الحكومة الاسترالية، في إطار في ما تسميه بـ (مكافحة الإرهاب)، جعلت من المسلمين هدفًا لأعمال عنف على خلفية عنصرية، كما أطلق المتظاهرون هتافات مؤيدة للمسلمين ومناهضة للعنصريين.
كما أماط تقرير للمرصد التابع لمنظمة التعاون الإسلامي بشأن «الإسلاموفوبيا» عن حجم الضغوط التي تمارسها لوبيات من أجل محاصرة المد الإسلامي في العالم، وذلك من خلال حملات التخويف من الإسلام والمسلمين، وحجم التمويل الذي توجهه لمؤسسات دولية من أجل خدمة هذا الهدف. حيث كشف التقرير أن أزيد من 42 مليون و575 ألف دولار تسلمتها مؤسسات ومراكز أبحاث دولية من سبع مؤسسات كبيرة بأمريكا، من أجل الانخراط في تأجيج نيران الكراهية ضد المسلمين، ووضع برامج لتشويه الإسلام على مدى العقد الماضي.
وأشار التقرير إلى أن «شبكة الإسلاموفوبيا» عملت على تعزيز مقولة أن المساجد حاضنات للتطرف، وأن «الإسلام الراديكالي» قد تسلل إلى كافة جوانب المجتمع الأمريكي بما في ذلك حركة المحافظين. وأوضح أن آلة التمويل الأمريكية المناهضة للإسلام امتدت إلى أوروبا أيضا، عبر تقديم اللوبي الأمريكي تبرعات كبيرة للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا في مقدمتها حزب الحرية الهولندي.

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com