الجمعة، 29 يناير 2016

نحو رؤية إعلامية نموذجية




الإعلام «كلمة» قد ترفع أقواما وتضع آخرين، وقد تؤجج صراعا أو تلململ شتاتا، تبني مجدا أو تهدم صرحا، تدفع للأمام أو تقهقر للخلف .. الإعلام «صناعة الكلمة» التي تبلور الأفكار وتغير الاتجاهات وتصنع الآراء وترسخ القِيم وتعبر عن نبض الأمة وهموما وقضاياها .. الإعلام (مرئي ومسموع ومقروء) قضية جوهرية تمس الهوية والمواطنة والحرية المسئولة والرسالة والهدف .. الإعلام يستمد قوته من تنوعه (تربية وتثقيفا وتحليلا ومواكبة وترفيها) وليس قصره على الترفيه وحده أو الانحياز المخل والتطبيل الفج لترويج مصالح أو تأجيج غرائز أو التشهير بالمخالف.       
والإعلام كالرفقاء لا يعرفون إلا عند المواقف والخطوب، في لحظات نكون أحوج فيها للصدق وأمانة النقل والتقييم الموضوعي النزيه للحدث دون ضجة إعلامية خاوية لا نتحصل منها إلا على الفرقعات والصخب الذي لا طائل منه إلا الفشل في المعالجة والإخفاق في الخروج من الأزمة.
والإعلام شأنه شأن أي قضية ورسالة يحتاج إلى خشية الله تعالى والصدق ومجافاة الهوى وتحمل عبء الأمانة عن قناعة ورضا وإيمان بأهميتها ومسئوليتها للعملية الإعلامية قاطبة.
وإعلام الريادة لا يستغني بحال من الأحوال عن ركائز القيم، فالسبق الصحفي لا يعني هتك الأستار وانتهاك الحرمات، والمهنية لا تعني تناول كل غث وسمين واختلاط الحابل بالنابل وتبني الشائعات دون التحقق والتثبت من الأخبار.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36].
يقول سيد قطب: "وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجًا كاملا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثًا جدًا، ويضيف إليها استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة! فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق. ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة. ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنك إن اتبعت عورات الناس؛ أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) [صحيح، أبو داود]،
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُفْض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المؤمنين ولا تعيّروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن يتّبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله) [حسن، الترمذي].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (بئس مطية الرجل زعموا) [صحيح، أحمد]
قال المناوي: "أراد به النهي عن التكلم بكلام يسمعه من غيره ولا يعلم صحته أو عن اختراع القول بإسناده إلى من لا يعرف فيقول زعموا أنه قد كان كذا وكذا فيتخذ قوله زعموا مطية يقطع بها أودية الإسهاب .. وأكثر ما ورد في القرآن فهو في معرض الذم .. قال الخطابي: وأصل هذا أن الرجل إذا أراد الظفر لحاجة والسير لبلد ركب مطية وسار فشبه المصطفى -صلى اللّه عليه وسلم- ما يقدم الرجل أمام كلامه ويتوصل به لحاجته من قولهم زعموا بالمطية، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا يثبت، قدم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من الحديث ما هذا سبيله وأمر بالتوثق فيما يحكي والتثبت فيه لا يرويه حتى يجده معزواً إلى ثبت".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع) [صحيح الجامع: 4480]، وفي رواية (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع) [صحيح الجامع: 4482].
أيضا «العوز المادي» من أهم معوقات الرسالة الإعلامية الهادفة والنبيلة لأنه يدفعها إلى الخضوع أمام المغريات المادية التي تمتلكها الأحزاب ويمتلكها رجال السلطة ورجال المال والأعمال، وبالتالي تفقد هذه المؤسسات حياديتها ومصداقيتها وتنتهج السبيل الذي تفرضه طغمة الممولين من خدمة أجندات خاصة ومصالح ذاتية.
لكن للأسف الجنوح الإعلامي العربي صار طوفان جارف لا يلوي على شيء، حين غلبت عليه العلمنة وقاد مسيرته من رضعوا من ألبان الغرب وتربوا على موائده، فجاء إعلاما مطموس الهوية ينعق بما يردده الغرب دون تميز ولا تمحيص سواء على الصعيد الفكري أو العقدي أو حتى الترفيهي.   
لقد حول الإعلام العلماني وجهه عن هموم المجتمع الحقيقية من بطالة وأزمات اقتصادية وانسداد سياسي وضحالة معرفية .. وانشغل بقضايا أبعد ما تكون عن الواقع.
 فعلى سبيل المثال تقول الدكتورة سارة السويعد: الإعلام جَعَلَ المرأة أُلْعُوبة وشَهْوة، وتسْلِية ومُتْعة، فأيُّ تكريم أعْطاها الإعلام؟! وأي رفعة وهبها الإعلام؟! .. الإعلام افتعل مشكلةً داخل مجتمعنا، ليس لها وجود، ومع كثرة كذبِه وخداعه صدَّقْنا هذه الأكذوبة الكبيرة، وهي أن المرأة في مجتمعنا مظْلُومة، لَم تُعْطَ حقوقها، لَم تعطَ حريتها، لَم تُعْطَ كامل تصرُّفها في مالها، ولما جِئْنا ننظر إلى هذه الدعوى، فإذا هي سرابٌ لا حقيقة لها، نَعَم، قد تَحْدُث أخطاء من أفراد، لكن الإعلامَ صوَّر مجتمعنا بأكْملِه بهذه الصورة، ليحثَّ المرأة على التمَرُّد على زوْجِها وعلى مجتمعها، وقبل ذلك على أحكام ربِّها، جاعلاً شعاره: المُطالَبة بحقوق المرأة؛ لتضيع مطالب المرأة الحقيقية بمطالب وهمية خدَّاعة، وتطوُّرات مزيَّفة - والله المستعان - بل إنَّ المضامين الإعلامية اليوم تَدُور حول الاهتمامات التقليديَّة للمرأة، التي لا تتجاوَز المطبخ وأدوات الزينة والموضة وتبعاتها.
أين حديثُ الإعلام عن المرأة المُسنَّة والعجوز؟! أين هم من المطلقات والأرامل؟! أين المشاريع لإنقاذ المرأة من الابتزاز الجنسي الذي تَتَعَرَّض له المرأة في الأماكن المختلَطة، أو الذين يستغلون ضعفها وعوزها وغياب رب الأسرة عنها؟! أين الحديث عن المرأة السجينة، والكلام عن مشاكلها، وإيجاد الحلول لها؟! أين الحديث عن المراهِقات، وما يُعانيه الآباء والأمهات من مشاكلهنَّ، وكيفية التعامُل معهن، وإيجاد الحلُول المناسبة؟! أين البحث عن فرَصٍ لتوظيف وتدريب الفتيات؟! وإلى الله المشتكَى".
أيضا الإعلام الغير منضبط تربويا أفرز معضلة دُخُول الأطفالِ عالَمَ الكبار قبل الأوان فيما يسمَّى بـ «اختراق المرحَلة العمريَّة»، دون أن تتوفَّر لديهم الخبرة اللاَّزمة لذلك؛ فقد أثبتت الدِّراسات أنَّ برامج التلفاز تتيح للأطفال أساليبَ للتَّعامل ما كانوا يُدركونها أو يُمارسونها؛ مثل عمليات الهروب خارج الحدود، وتعاطي المخدِّرات، والقَتْل والاعتداء، وأساليب التَّحايل والكذِب، فيعيش الطفل عالَمًا غير عالَمِه، وعمرًا غير عمره، فلا يُربَّى التربية السليمة، ولا ينشأ النشأة الطبيعية التي يجب أن ينشأها ويَشِبَّ عليها.
تقول الأستاذة لبنى شرف:
إعلامنا يا مسلمين ينبغي أن يكون عميق الفكرة، غزير المضمون، قويًا في الطرح من غير تعقيد، واضح الأسلوب من غير سطحية أو استخفاف للعقول، يُجمِّل القشرة بالقدر الذي يشد الناظر إلى سبر غور اللب، فيجد له حلاوة، فيستحسنه، وإلا فسيُتَّهم بالخداع والتزوير، لعدم التوافق بين العنوان والمضمون. يُعنى بالفعل ولا يقف عند حد القول؛ فهذه الندوات والمناظرات وحلقات النقاش..، ما هي إلا تلاقح للعقول والفهوم والخبرات، فإن لم يكن القصد من ورائها الوصول إلى ثمرات عملية في النفس أو المجتمع، فهي ضرب من النقاش والبحث المذموم، كما قال الإمام الشاطبي: "الاشتغال بالمباحث النظرية التي ليس لها ثمرة عملية مذموم شرعًا"؛ لأنها ستكون مضيعة للوقت والجهد، وشغلا للعقل عما هو أجدر أن يُشغل به. وقال الشاطبي فيما يتعلق بالعلم: "خذ من العلم لبَّه، ولا تستكثر من مُلَحه، وإياك وأغاليطه"، هذه قاعدة تتسع لتشمل قضايا وجوانب عدة في هذا السياق الذي نتحدث عنه. ويقول عبد الوهاب عزام: "احذر أن يكون همك العنوان، وقصدك الدوي والضوضاء، واجهد أن تُعنى بالفعل غير معني بالقول، وأن تطمح إلى الحقائق لا إلى الظواهر، وأن تحرص على أداء الواجب لا على الصيت، وأن تقصد وجه الله لا وجوه الناس. كن كتابًا مفيدًا وإن لم يكن له عنوان، ولا تكن كتابًا كله عنوان وليس وراء العنوان شيء". هذا على المستوى الفردي، فكيف على مستوى إعلام يخاطب أمة بأكملها!!. 

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

الثلاثاء، 26 يناير 2016

أعلام وأقزام .. مصطفى أمين




عندما نتطرق لأزمة الثقافة العربية المعاصرة لا نقصد التجريح أو التشهير، بل المقصود عرض لمسيرة النخبة المثقفة التي تضخمت في الإعلام العربي (مصر نموذجا)، وأخذت حيزا وزخما كبيرا، فرصد واقع هذه النخبة يشير إلى أن وراء الأكمة شيئا ماكرا يدبر لهذه الأمة، سواء كان هذا التدبير داخليا أو خارجا، إلا أن المحصلة أن أكثرية هذه النخبة المثقفة لم تكن على المستوى المطلوب الذي يرضاه الدين والعقل والعرف، وأنها أقحمت المجتمع العربي في أمور منافية لعقيدتنا الصافية وأعرافنا الراقية وتقاليدنا السامية، بل وصدرت لنا من غثاء الغرب الفكري والسلوكي الكثير والكثير في الوقت الذي كنا في أشد الحاجة لتتعرف على مقومات النهضة العالمية والاستفادة من خبرات الشعوب المتقدمة في مسيرتها التنموية، في إطار ثوابتنا الدينية الإسلامية الغالية.
لما توفى سيد كراوية أشهر عازف طبلة في مصر، والذي عمل مع جميع راقصات مصر الشهيرات، كتب (مصطفى أمين) الصحفي ورئيس تحرير ومؤسس جريدة «الأخبار» المصرية العريقة .. كتب: أنه لو كان له ولد لعلمه ليكون عازف طبلة تقديرا للدخل الكبير!! .. المقاييس عنده مادية بحتة .. هذا تصريح قطب من أقطاب الصحافة العربية
وإذا كان الغراب دليل قوم  .. يمر بهم على جيف الجلاب
مصطفى أمين الذي دخل في السبعين من عمره، ومع ذلك يتخذ أسلوب القصة الجنسية المكشوفة إطارا لبث سمومه وأهوائه، وأبرز كتاباته بعد خروجه من السجن «سنة أولى حب» وغيرها من الأعمال الأدبية المشبوهة.
قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:37]    
تبنى مصطفى أمين فكرة «تحرير المرأة قلبيا» وإشاعة الحب بين الرجل والمرأة حتى يكون في حياة كل شاب أمرأة، ويسفه مطالب تطبيق الشريعة، ويسقط عمدا من مذكرات الزعيم المصري (سعد زغلول) 150 صفحة عن تجربة سعد مع القمار، علما بأن والدته هي بنت أخت سعد زغلول.
وكان مصطفى أمين بارعا في القدرة على تمجيد الحاكم، والقدرة أيضا على تدميره بعد زواله، وقد كتب ألوف المقالات عن الملك فاروق تمجيدا وتشريفا وإعلاء، ثم هدمه بعد ذلك وكشف عوراته، وكذلك فعل مع عبد الناصر تبجيلا قبل أن يسجنه، وتحقيرا بعد خروجه من السجن بعدما مات جمال.
ولقد نشر (محمد حسنين هيكل) مقالات مصطفى وعلى أمين فى تمجيد الملك فاروق، والهجوم على حزب الوفد، كما نشر مقالاتهما فى تمجيد الرئيس عبد الناصر، حتى قبل القبض على مصطفى أمين بأيام معدودة.
كما اتهم هيكل مصطفى أمين أنه يجيد فبركة الأكاذيب، ويصدقها، ويزيد عليها، وأنه يلعب على كل العصور.
وأشتهر عن مصطفى أمين العمل الدءوب مع أحزاب الأقليات ومع الملك ضد حزب الوفد لتحطيمه، وكان يرأس تحرير مجلة أسبوعية مصورة، يكتب فيها مقالات خفيفة مضحكة بإمضاء مستعار (مصمص) .. وعرف القراء مصمص الذي كان يضحكهم بالحديث عن البنت التي خربشته من تحت المائدة أمام الضيوف، ويضحكم بالحديث عن بدانته التي تضايقه أثناء الرقص.
ودفعه الطموح أن يرأس تحرير جريدة يكون هو صاحبها، رغم أن الكل يعلم أن إصدار جريدة ليس أمرا سهلا، لأن هذا يتطلب أموال طائلة، ولم يكم مصطفى أمين يملك سوى قلمه وقلم شقيقه (على أمين)، بل لم يكن يمتلك شيئا عندما حزم أمتعته وجمع أوراقه وغادر دار الهلال، حيث اختلف مع أصحابها لأنه أراد أن يجعل مجلة «الأثنين» مجلة تنطق بلسان السعديين.
وما لبث أن حدث اجتماع بين مصطفى وعلى أمين وبشوات القصر الملكي، حيث رسمت سياسة جريدة «أخبار اليوم» الوليدة، وفي لمح البصر تم تجهيز كل شيء، وصدرت الأخبار واختاروا المادة الصحفية التي تثير انتباه الشعب، من أمثال: لماذا ساءت العلاقة بين القصر والنحاس باشا.
وكان لنفوذ الجريدة الواسع آنذاك في الدوائر البريطانية والأمريكية أثره في تقديم أخبار جديدة لفتت الأنظار وشدت القراء إليها.
يقول (محمد حسنين هيكل) فى كتابه عن الأخوين مصطفى وعلي أمين: إن دار أخبار اليوم تم انشاؤها بأموال المخابرات الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أيقنت الولايات المتحدة بخروجها منتصرة من الحرب، بدأت إنشاء سلسلة من دور النشر الصحفية التى كان عليها أن تروج لسياسة الولايات المتحدة، ونمطها فى الحياة، وتدافع عن توجهاتها ومصالحها.
وتم إلقاء القبض على مصطفى أمين فى 21 يوليو 1965 متلبسا مع مندوب المخابرات الأمريكية (بروس تايلور أوديل) فى حديقة منزل مصطفى أمين، وأثبتت الوقائع والأدلة عن القضية التى كانت تتابعها أجهزة المخابرات المصرية، أن مصطفى أمين يتجسس على مصر لحساب المخابرات المركزية الأمريكية.
من جهة أخرى أكد (صلاح نصر) رئيس المخابرات المصرية في كتابه «عملاء الخيانة وحديث الإفك» وهو كتاب صدر في عام 1975 أن مصطفى أمين جاسوس فعلاً، وشرح بالتفصيل علاقة الصحفي الشهير مصطفى أمين بالمخابرات الأمريكية، والأكثر من ذلك ذكر صلاح نصر أن جهاز مكافحة التجسس كان يحتفظ بملف لمصطفى أمين حول علاقته بالمخابرات الأمريكية حتى من قبل ثورة يوليو 1952.
كما نشر (هيكل) وثيقة من 60 صفحة، بخط يد مصطفى أمين، تتضمن رسالة منه للرئيس عبد الناصر، يعترف فيها بعمالته للأمريكان، ويطلب العفو من الرئيس.
وبعد خروجه من السجن كتب مصطفى أمين سلسلة روايات من سنة أولى سجن، إلى سنة تاسعة سجن، وفيها لم يقدم دليلا، أو وثيقة واحدة تبرئه من تهمة العمالة، والتجسس للأمريكان.
وتتركز مسيرة مصطفى أمين الصحفية على عدة محاور، كان قد صرح بها، من أهمها:
-      محاربة التعصب الديني وتجديد الأزهر.
-      المناداة بتحرير المرأة قلبيا، لأن الحب الطاهر -برأيه- لايزال جريمة يعاقب عليها المجتمع، فقد كان يرى المجتمع المصري مجتمعا لا روح فيه لأنه خال من المرأة، والشاب المصري لا شخصية له بزعمه لأنه ليس في حياته صديقة.
-      تشجيع المرأة على المطالبة بحقوقها السياسية، وتولي الوظائف، وأن ترث كما يرث الرجل تماما.
-      العوة إلى اتحاد شرقي (وليس اتحاد إسلامي) على غرار الولايات المتحدة الأمريكية.
-       صاحب فكرة الأعياد الغربية كعيد الأم وعيد الأب وعيد الحب، والترويج لها.
هذا هو نجم الصحافة العربية الذي يؤكد أنه حضر ثورة 1919 رغم أنه ولد سنة 1916، ولقد كان أجدر بالسجن الذي آوى إليه تسعة أعوام أن يدفعه لأن يغير مسار حياته الصحفية إلى خدمة القضايا العليا للحياة الإنسانية، ولكنه لم يفعل، ولم يعتبر، بل خرج من السجن ليكتب قصصا جنسية أشد عنفا وعمقا مما كان يكتب من قبل.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com
           
 

السبت، 16 يناير 2016

«مضايا» السورية .. دم مضى وعار بقى




عندما نشاهد العرض العسكري للجيوش المعاصرة ننبهر بما وصل إليه العالم من عتاد وسلاح .. وعندما نطالع التقنيات التسليحية الحديثة نتعجب من القدرات الفتاكة للأسلحة المتقدمة .. وعندما نتابع معارض السلاح العالمية تشدنا المهارات والإنجازات للمبتكرات الأسرع والأفتك .. وعندما تستعرض الطائرات الحربية أكروباتها الجوية نذهل من هذا التنوع ودقة الإصابة والاختراق، مابين أف- 16 أمريكية وميراج ورافال فرنسية وسوخوي روسية .. ناهيك عن طائرات بدون طيار، ومدمرات، وقاذفات، ورادرات، وبارجات وغواصات وحاملات طائرات.
إنها «قصة تدميرية» مهولة!! .. تُسرب إلى قناعاتنا فزعا ورعبا ورهبة، وترسخ في أفهامنا أن البقاء صار للأقوى، وأن سباق التسلح هو الشغل الشاغل للأمم، وأن الحسم العسكري هو الحل الأوحد لإخضاع الخصم وكسر ظهره ولي عنقه، وأن الحق والعدل ونصرة المظلوم مبادئ عفى عليها الزمن، وعبارات لا يلوكها إلا الضعفاء!.
لكن بقراءة متأنية لمآلات المعارك الحديثة على أرض الواقع، نخلص إلى «وهم قضية التسلح» –على أهميتها لحماية الدول- فالأمن العالمي لم يتحقق، والخصم لم ينكسر، وتكلفة العدل أقل بكثير جدا من تكلفة الظلم.
إن محصلة هذه الآلة العسكرية الحديثة الفتاكة مزيدا من الأشلاء والدماء لا أكثر ولا أقل .. مزيدا من الخراب والتدمير وضياع تراث الأمم وحضارات الشعوب .. مزيدا من التهجير واللاجئين والمشردين .. وكأن هذه الأسلحة الجبارة ما صُنعت إلا لإذلال الضعفاء وتشريد الأبرياء وتكثير سواد المعذبين.
ففي الآونة الأخيرة انسحبت القوات البريطانية المتبقية من (كامب باستيون) بولاية هلمند الأفغانية، مما يشير إلى نهاية 14 عاماً من مشاركة بريطانيا في الحرب في أفغانستان. وفي حين أن الوفيات البالغ عددهم 453 في صفوف الجنود البريطانيين موثقة جيداً، إلا أن خلال السنوات الأولى من الحرب، والتي بدأت في أكتوبر 2001م، جاء تقرير صحيفة (الجارديان) البريطانية أن ما يصل إلى 20 ألف شخص أفغاني لقوا حتفهم كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للغزو في السنة الأولى من الصراع وحده.
وتقول أرقام بعثة الأمم المتحدة، والتي تحصي عدد الضحايا المدنيين الذين سقطوا في الفترة ما بين عام 2007م ونهاية يونيو 2014م: إن ما يقدر بـ 11614 مدنياً أفغانياً قتلوا نتيجة النزاع في أفغانستان خلال هذه المدة الزمنية.
ويقدر (معهد واتسون) في جامعة (براون) في الولايات المتحدة، أن واحدا وعشرين ألف مدني أفغاني لقوا حتفهم حتى شهر فبراير من عام 2015م كجزء من تكاليف الحرب!
وعندما يتم إضافة عدد القتلى المدنيين إلى عدد القتلى في صفوف القوات الدولية والجيش الوطني الأفغاني، فإنه يصبح من الواضح أن العملية العسكرية طويلة الأمد في أفغانستان قد أدت إلى تكلفة إنسانية باهظة الثمن.
ثم الآن تحدثنا الصحف عن تحركات الساسة الغربيين للتوصل إلى اتفاق مع حركة طالبان الأفغانية، وكأن شيئا لم يحدث، وكأن كل هذه الدماء والأشلاء لا قيمة لها .. حيث كشفت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية عن رغبة موسكو للعمل والتعاون مع مسلحي حركة طالبان، وهم المجاهدين الذين خاضت روسيا ضدهم حربا دموية طيلة عقد مضى، والسبب هو أن الحركة مشتبكة في صراع مرير مع تنظيم الدولة الإسلامية حول التفوق الجهادي في أفغانستان. وأن حركتي طالبان باكستان وأفغانستان لا تعترفان بتنظيم الدولة ولا بزعيمه (أبو بكر البغدادي) وهذا هو المهم لدى موسكو.
ومن المقرر أن تبدأ حكومة أفغانستان وباكستان والصين والولايات المتحدة محادثات تهدف إلى استئناف عملية السلام في أفغانستان وانهاء قتال مستمر منذ 14 عاما مع مقاتلي طالبان. وقالت مصادر من وزارة الخارجية الباكستانية إن مسؤولين من الدول الأربع سيجتمعون في العاصمة الباكستانية (إسلام أباد) فيما يأملون أن تكون الخطوة الأولى على طريق استئناف المحادثات المتوقفة. وليس من المتوقع أن يحضر ممثلون عن طالبان المحادثات.
أما (مضايا) السورية فتصرخ في وجه العالم: «لماذا كل الدماء المراقة إسلامية؟!».
ففي يوليو 2015م دخلت (مضايا) في أسوأ حصار لها من قبل نظام بشار الأسد ومليشيات حزب الله اللبناني، وقد منع هذا الحصار -منذ أكثر من 200 يوم- وصول الطعام والدواء إلى أهالي البلدة، مما جعل الوضع الإنساني كارثي، وأدى إلى وفاة العشرات من السكان بسبب نقص الغذاء، ومعظم المتوفين من المسنين والأطفال الرضع بسبب نقص الحليب.
وتعد بلدتا (مضايا والزبداني) من أوائل المناطق التي انتفضت لإسقاط نظام بشار مع بداية الثورة في سوريا 2011م، وتعاني مضايا من زيادة في الكثافة السكانية، حيث وصل عدد المدنيين فيها إلى40 ألفًا نتيجة لرحيل20 ألف شخص إليها من مدينة الزبداني، بسبب تهجيرهم من قبل نظام بشار ومليشيات حزب الله اللبناني، وتعاني مدينتا الزبداني وبقين من نفس الحصار الذي تعاني منه بلدة مضايا.
ونيجة للحصار الشديد الذي تعاني منه مضايا، نشبت مجاعة مفزعة، اضطر أهالي البلدة إلى أكل القطط والطعام من القمامة، حسب كلام القيادي في حركة أحرار الشام (أسامة أبو زيد)، ومنهم من يتناول الماء بالملح وأكل أوراق شجر الزيتون، والتي أدت إلى تسمم 30 حالة حسب طبيب داخل المستشفى الميداني في مضايا، بالإضافة إلى حالات الإغماء المستمرة نتيجة سوء التغذية، وقد ارتفعت حالات الوفاة إلى 300 شخص.
أما الطعام في البلدة فأسعاره فلكية، حيث وصل ثمن كيلو السكر إلى 26000 ليرة سوريّة (67 دولارًا)، ونتيجة لذلك أصبحت العائلات الموجودة في مضايا تتناول وجبة كل يوم أو يومين، حسب تصريح (محمد الدبس) مسؤول الإغاثة في مجلس مضايا.
وصرح مدير المستشفى الميداني في الزبداني وعضو الهيئة الموحدة للزبداني ومضايا (عامر برهان)، بأن المجلس المحلي لبلدة مضايا أرسل رسالة مكررة إلى (جيفري فليتمان)، مسؤول ملف الزبداني في الأمم المتحدة، يطلب فيها: إدخال المساعدات الغذائية إلى الأهالي المحاصرين في مضايا، منذ قرابة الأشهر الستة. لكن كان رد فعل مكتب مسؤول الأمم المتحدة: أن كادر المكتب في إجازة من يوم 24 ديسمبر 2015م إلى 5 يناير 2016م!!.
ونشرت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية تقريرا حول حملة يشنها أنصار النظام السوري على مواقع التواصل الاجتماعي، للسخرية من معاناة أهالي مضايا الذين يواجهون الموت جوعا بسبب الحصار، وصفت فيه هذا الموقف غير الإنساني بأنه «مقرف».
وقالت الصحيفة: إن أنصار النظام السوري ينشرون صورا استفزازية للوجبات التي يقومون بتحضيرها، من أجل التشفي في أهالي مضايا الذين يعانون من الجوع .. وقد أظهرت هذه الصور أطباقا من الأطعمة الشهية، مثل: الكباب والسمك المشوي والقريدس، وسلطة الغلال والخبز.
فيما شن بقية رواد )فيسبوك) حملة من التبليغات ضد هذه الممارسات، مما دفع بإدارة الموقع لإزالة بعض هذه الصور.
يقول الأستاذ ياسر الزعاترة: "هنا في (مضايا) سقط القتلة مجللين بالعار، ومن ورائهم وليهم الفقيه، ومعهم بوتين، لكن قتلةً آخرين في واشنطن وعواصم كثيرة لم يكونوا بمنأى عن ذلك، ومن ورائهم نتنياهو الذي قرر فصول الصراع في سوريا عبر الضغط لمنع السلاح النوعي عن الثوار كي تتواصل المأساة. أما حين قررت واشنطن التعاطف مع أهل مضايا، فلم تزد على أن ناشدت المجرم أن يفك الحصار من حولها، ويسمح بدخول المساعدات، لكنها جيّشت الجيوش من أجل انتزاع الكيماوي لحساب الكيان الصهيوني".
إن العالم الحر يلطخه العار من مفرق رأسه إلى أخمص قدمه .. هذا العالم الذي لا يحرك جيوشه الجرارة إلا لحماية الرجل الغربي الأبيض، ومناصرة الأقليات والطوائف التي تخدم مصالحه، أما الأبرياء ودمائهم فلا أكثر من الشجب والاستنكار ودعوات ضبط النفس.. سقطت في مضايا وغيرها شعارات حقوق الإنسان، وسقطت منظمات وهيئات لا تحركها إلا أيادي خفية تحت مسميات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب .. فإلى الله المشتكى.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com