الجمعة، 19 يونيو 2015

ما أحلى الأيام إذا كان فيها رمضان




من رحمة الله عز وجل بعباده، أن جعل لهم مواسم للخير والطاعات، يكثر أجرها ويعظم فضلها، حتى تتحفز الهمم للعبادة فيها، فتنال رضا الله وفضله، ونعيم قربه ومدده .. ورمضان من أعظم هذه المواسم السنوية التي تهل علينا كل عام حيث تستقبله النفوس بوجدان متوهج بالحب ولهفة الانتظار، لما له أجواء نورانية خاصة، شكلا كانت أو مضمونا، فهي خليط من هذا وذاك.
إن أهل الله تعالى وخاصته ينتظرون هذا الشهر بفارغ الصبر .. قد اشتاقَتْ إليهم المصاحف، وحنَّت إلى أصواتهم المساجد .. يَطربُون فيها بِسَماع كلام الله الَّذي يغْسِل بالرَّحْمة قلوبَهم، ويطهِّر بالإيمان سَريرتَهم، فيُقبِلون على الله تعالى؛ رجاءَ رحْمتِه، وخوفًا من عذابه، ويقْبِل عليهم ربُّهم بِفَيضه وفتوحه، فيُذِيقهم من لَوعات الحُبِّ والشوق، ويَفتح عليهم من أنوار المناجاة، ويَكْشف لهم من أسْرار السُّمُو إلى مِعراج رضوانه، فيَقِفون أمام مَلِيكهم وهو يُفِيض عليهم من عطاياه وبره وكرمه وجوده، ويَسِمُهم بالنور في وجوههم، في منظر مَهِيب، ومَحْفَل عجيب، لا يَناله إلا المُقرَّبون والسابقون، جعَلَنا الله منهم.
أهلا بك يا رمضان
أهلا بك يا رمضان ..فأنت الحبيب الذي طال انتظاره، فأطل علينا بطلعته البهية وخيراته الجلية. وأنت النعمة المسداة لنا والرحمة المهداة من رب البرية .. روى ابن ماجه بسند صحيح عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قَدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعاً، فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأْنِ لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: «من أي ذلك تعجبون؟» فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكث هذا بعده سنة؟» قالوا: بلى، قال: «وأدرك رمضان، فصام، وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟» قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض».
أهلا بك يا رمضان .. فما أعظمك من جليل قدرٍ تزدهي به السماوات العلا، والجنان، والملائكة .. ويقيم رب العزة على شرفك مظاهر الاحتفال .. فإذا بالجنان أبوابها تفتح، وإذا بالجحيم أبوابها توصد، وإذا الربُّ يزين في كل يومٍ جنَّته، ويقول لها: «يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ثم يصيروا إليك».
أهلا بك يا رمضان .. فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير .. يجزل الله فيها العطايا والمواهب، ويفتح أبواب الخير لكل راغب، ويعظم أسباب التوفيق لكل طالب .. تتنزل فيك الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات، وتحط الأوزار والخطيئات. قال سفيان بن عيينة: «إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عز وجل  عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم، ويدخل بالصوم الجنة» [الترغيب والترهيب 1/82]
أهلا بك يا رمضان .. فقد اشتدَّ إليك شوقُنا، ننتظرك بعد عام من فراقك وقد اختلفتْ بعدَك أشياءُ كثيرة، كنَّا فيما مضى نتشوف لك؛ للاستزادة من الخير وتربية النَّفس المؤمنة المطمئنَّة، ونحن اليومَ نتلقَّاك لأجل البناء ولأجل الهدم أيضًا؛ لتبني فينا يا رمضان ما نرومه من خير وفضيلة، ولتهدم ما شاده المُبطِلون من مباني الفساد وصوره في مجتمعنا ونفوسنا، فاللهم باركْ لنا في شهرنا أفرادًا ومجتمعات وحكومات، واجعله جسرًا للعابرين بخير، وسدًّا في وجه دعاة الشَّر.
المغبون والمحروم
إن رمضان فرصة لا يُفوتُها إلا متهاون مغبون، ولا يزهد فيها إلاّ جاهل محروم، فالمؤمن الرشيد يقدّم بين يدي رمضان توبة تحجزه عن الملاهي والمنكرات، التي تكتظ بها وسائل الإعلام والإجرام، ويتزوّد بالتقوى والإنابة، قبل تزوده بالطعام والشراب والثمار المستطابة.
قال تعالى في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}[الفرقان:72] أي: لا يحضرون الباطل في أيّ لون من ألوانه قولاً أو فعلا ً أو إقراراً ، وكل ما خالف الحق، وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم كرامًا مكرّمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم، وهو كل كلام لا خير فيه. وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة، أوضحه جلَّ وعلا بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص:55]
ومن أفحش الخطأ ما يعتقده كثير من الناس أن الصيام جملة من التروك فقط، متناسين أن الله تعالى شرع الصيام وشرع معه جملة من الأعمال التي تتظافر لتحقيق غايات الصوم وآثاره المرجوة منه، ولعل من أبرز تلك الأعمال التي دلت عليها النصوص: قراءة القرآن، قيام الليل «صلاة التراويح»، العمرة، الاعتكاف، الصدقة وإفطار الصائمين ...
تنمية الذات
الصيام يدرب النفس، وينمي قدرتها على التحكم في الذات، فمن الأهمية بمكان أن يستوعب المسلم حقيقة رسالته في الحياة، وأهمية مواسم الخيرات بالنسبة إليه؛ ليكون ذلك دافعاً له للجدية في حياته، والموازنة بين ما يمكن أن يقوم به من أفعال، ولكي يستفيد من هذه النفحات بشكل أفضل، بعيداً عن الإغراق في المباحات والمستحبات على حساب الفرائض والواجبات، كما عليه أن يقوم بترويض نفسه في مثل هذه المواسم على القيام بالأعمال الصالحة، كالتبكير للصلاة، والجلوس بعد الفجر في المسجد إلى طلوع الفجر .. ونحوها، حتى تعتاد النفس على ممارستها والاستمرار عليها بعد رمضان.
هكذا المسلم دوماً؛ لا ينسى غايته وهدفه العظيم؛ وهو النجاة من النار، والفوز بفردوس الجنة. ويسير خلال رحلته الحياتية نحو هذا الهدف؛ على محورين رئيسين عمليين:
«الأول»: محور التغيير النفسي والتنمية الذاتية؛ فيرقى بنفسه، نحو الأفضل والأسمى والأقوم.
«الثاني»: محور التأثير في الآخرين حوله؛ فيدعوهم للخير والنمو والتطوير، نحو الأصلح لهم. ولا شك أن من أولويات الآخرين العشيرة الأقربين، خاصة من أقرب الأقربين؛ الأهل والأبناء.
أيها الأحباب
إن الملك العليُّ الكبير ينثر على العباد بُدَرُ الهبات في أيام هذا الشهر الكريم، فينزل فيه الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر إلى تنافسكم فيه ويباهي به الملائكة، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه الرحمة.
لنفرغ قلوبنا من الشهوات والشبهات، ولنبكي على خطايانا في شهر النفحات، ونغتنم أوقات الخيرات ونزول الرحمات، ونبدل الانحراف بالاستقامة قبل الممات.
ولنحرص على استقبال هذا الوافد الكريم، واستغلال أيامه ولياليه فيما يقربنا من مولانا، ونتعرض لنفحات رب السماوات، ولا يكن ممن همه في استقباله تنويع المأكولات والمشروبات، وإضاعة الأوقات والصلوات، فسرعان ما تنقضي الأيام والساعات، وما هي إلا لحظات حتى يقال انتهى رمضان، بعد أن فاز فيه أقوام وخسر آخرون.
ولنتخذ من رمضان (معسكرًا) إيمانيًّا؛ لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث؛ للسعي الدؤوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معايش.
المصادر
(رمضان يجمعنا بخالقنا) حامد الإدريسي، (رمضان يدك حصون التغريب) أحمد بن عبد المحسن العسَّاف، (برنامج عملي للأسرة للحياة مع الشهر الفضيل) حمدي رحيم شعيب، (معظم في السماء فلنعظمه في الأرض) أحمد إسماعيل، (شهر انتصار الإنسان) د. يوسف القرضاوي

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com
alnaggar66@yahoo.com

أهلا أهلا يا رمضان




رمضان ضيف عزيز، وزائر لا يقدم علينا إلا مرة في العام، قدومه قدوم اليمن والخير والبركات، بما يحمله من هدايا ونفحات وعطايا وهبات، ففي رحابه ترفع الدرجات وتغفر الزلات، وشوق أهل الإيمان له لا يحده حد، وفرحتهم بقدومه لا يصفها وصف، وهم فيه بين خشوع صائم ودمعة تائب وتلاوة قرآن ومرافقة الأخوان في ساحات القيام.
رمضان هل هلاله، وخيمت ظلاله، وهيمن جلاله، وسطع جماله، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
قال الشاعر:
أهلاً وسهلاً بالصيام ** يا حبيبا زارنا في كل عامْ
قد لقيناك بحبٍ مفعم ** كُل حب في سوى المولى حرامْ
فاقبل اللهم ربي صومنا ** ثم  زدنا من عطاياك الجسامْ
لا تعاقبنا فقد عاقبنا ** قلق أسهرنا جنح الظلام
قال ابن رجب: "وكيف لا يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يُبشّر المذنب بغلق أبواب النيران؟ وكيف لا يُبشّر العاقل بوقت يُغلّ فيه الشيطان، ومن أين يشبه هذا الزمان زمان؟"
وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا جاء رمضان، فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين) وزاد في رواية للترمذي وابن ماجه وغيرهما (وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة).
والصوم درب الصالحين وشعار المتقين، على مر العصور والدهور .. ولولا أنه عبادة محبوبة لله تعالى، عظيمة القدر، لا غنى للخلق عن التعبّد بها، وعما يترتب عليها من الثواب والجزاء، وما يحصل لهم من المصالح الكثيرة في الدنيا والآخرة ما فرضه الله عز وجل على جميع الأمم وأتباع الشرائع، فهو من الشعائر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان .. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فرمضان هدية السماء، وبركة أهل الأرض، وخير يفيض لعمر مديد .. قال صاحب القول السديد، والشرع المجيد، والمبعوث رحمة للعبيد محمد صلى الله عليه وسلم:
-      «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه].
-      «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» [البخاري].
-      «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة» [متفق عليه].
-      «الصيام جنة، وحصن حصين من النار» [رواه أحمد].  
-      «الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» [رواه البخاري].
-      «إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم» [متفق عليه].
-      «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة» [رواه أحمد].
-      «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» [رواه النسائي].
-      «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله» [رواه مسلم].
-      «من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصوم الدهر» [رواه مسلم]
-      «صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعده بشهرين فذلك صيام السنة» [صحيح الجامع:3851].
-      «ينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» [رواه الترمذي].
ويقول وكيع -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24] هي أيام الصيام.
ورمضان من أرجى أوقات إجابة الدعاء، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لكل مسلم دعوة مستجابة، يدعو بها في رمضان) وفي رواية صحيحة للبزار: (وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة)، وإذا وقعت هذه الدعوة وقت الصيام، وبخاصة قبيل الإفطار، كان ذلك أرجى وأحرى بقبولها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تُردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم) [ابن ماجه والترمذي]
وشهر رمضان العمرة فيه تعدل أجر حجة: فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لامرأة من الأنصار: (ما منعك أن تحجّي معنا؟) قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه لزوجها وابنها وترك ناضحًا ننضح عليه. قال: (فإذا كان رمضان اعتمري فيه؛ فإن عمرةً فيه تعدل حجة) [البخاري ومسلم]
قال النووي: "أي: تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء، بأنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة".
وقال الطيبي: "أي: تقابل وتماثل في الثواب؛ لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت".
إن رمضان موسم من مواسم الخير، وسوق من أسواق البر، وفيه ربح ما بعده ربح، وتجارة لا تساويها تجارات الدنيا. ومن الحرمان أن تمر هذه النفحات الإيمانية والعطايا الربانية دون أن يكون للمرء نصيب منها.
ورمضان أنفع داء لدواء القلوب، فلا دواء أنفع للقلب من خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلو البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين .. ومن المعلوم أنها تجتمع قاطبة في رمضان، فأنعم بها غنيمة باردة، بعمل قليل وربح جزيل، خاصة يوم لقاء رب العالمين {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89]
وصدق من قال: "رمضان ليس مثله في سائر الشهور، ولا فضلت به أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور، الذنب فيه مغفور، والسعي فيه مشكور، والمؤمن فيه محبور، والشيطان مبعد مثبور، والوزر فيه مهجور، وقلب المؤمن بذكر الله معمور، وقد أناخ بفنائكم وهو عن قليل راحل عنكم شاهد لكم وعليكم .. ماذا كنتم تصنعون ؟!"

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com


الأحد، 14 يونيو 2015

رمضان دورة صيانة إيمانية وصحية


رحم الله أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي الذي قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسمَّوك «مدرسة الثلاثين يومًا»!. لكن المميز فيها أنها مدرسة شاملة متكاملة، تلتقي فيها صحة الإيمان مع صحة الأبدان، لتحقق متطلبات الروح والجسد، وتستوفي حاجات المؤمن المزدوجة، لأنه خُلق ليعيش في عالمين: عالم المادة، وعالم الروح، وله تعامل مع الأرض وتواصل مع السماء.
صيانة إيمانية
الصوم أعظم ميادين الجهاد الروحي للمسلم، فيه تتقوى الإرادة الذاتية للمؤمن على الكف عن المستطابات والمشتهيات لسويعات، دون رقيب ولا حسيب سوى ضميره الإيماني، وخشيته من الله تعالى .. رغبة في رضوانه، وطمعا في جنانه، وهربا من نيرانه.
إن الصوم ساحة تملك النفس، وضبط لغرائزها، وتقييد لجموحها وجنوحها، فضلا عن شعور جماعي بمعاناة الفقير والمعوذ، وإحساس عملي بآلام المحرومين وجوع الجائعين ومعاناة المحتاجين .. ففي الصوم يترفع المسلم عن شهواته ونزواته، وأن لا يرى في الحياة سوي متطلباته ورغباته، ولذلك شرفه الله تعالى بنسبته إلى نفسه من بين سائر العبادات، ووعد بإجزال الثواب الفريد لصاحبه، ففي الحديث الشريف: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله. قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك» [رواه مسلم:2763]
إن شهر رمضان بمثابة حمام روحي ومغتسل سنوي يتطهر فيه المسلم من أوضار الذنوب والخطايا .. نهاره صائم، وليله قائم، وعمله دائم: فهو بين تلاوة للقرآن، وذكر للرحمن، وشتى مظاهر الجود والإحسان.
ألا ما أحوج أمتنا إلى أن تستفيد من هذا الشهر الفضيل، فهو موسم المتَّقين، ومتّجر الصالحين، وميدان المتسابقين، ومغتسل التائبين؛ ولهذا كان السلف إذا جاء رمضان يقولون: «مرحبًا بالمُطهِّر»! فهو فرصة للتطهر من الذنوب والسيئات، كما أنه فرصة للتزود من الصالحات والحسنات.
صيانة صحية
يعتبر العلماء الصوم ظاهرة حيوية فطرية لا تستمر الحياة السوية والصحة الكاملة بدونها، فالصوم بالنسبة للجسد فترة راحة واسترخاء ومراجعة وترتيب نشاطات واستعادة كفاءات، وفرصة للتخلص من الفضلات. كما أن العلوم الطبية العصرية أثبتت أن الصوم وقاية وشفاء لكثير من أمراض خطيرة، وفرصة عظيمة للجسد لاستعادة توازنه الحيوي.
وقد أكد البروفيسور الروسي (نيكولايف بيلوي) في كتابه «الجوع من أجل الصحة»: أن على كل إنسان -وخاصة سكان المدن الكبرى- أن يمارس الصوم بالامتناع عن الطعام لمدة 3-4 أسابيع كل سنة كي يتمتع بالصحة الكاملة طيلة حياته.
أما (ماك فادون) أحد علماء الصحة الأمريكيين، فيقول: «إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضاً لأن سموم الأغذية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض فتثقله ويقل نشاطه، فإذا صام خف وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه، وتذهب عنه حتى يصفو صفاءً تاماً، ويستطيع أن يسترد وزنه ويجدد خلاياه في مدة لا تزيد عن 20 يوماً بعد الإفطار. لكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل». وقد كان (ماك فادون) يعالج مرضاه بالصوم، وخاصة المصابين بأمراض المعدة، وكان يقول: «الصوم لها مثل العصا السحرية، يسارع في شفائها، وتليها أمراض الدم والعروق فالروماتيزم».
·      الجسم البشري في عملية إحلال وتغيير مستمرة للخلايا العاطبة والهرمة، ويقدر عدد الخلايا التي تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان بـ 125 مليون خلية، واللبنة الأساسية في عملية الهدم والبناء الخلوي هي «الأحماض الأمينية»، وفي الصيام تتجمع هذه الأحماض القادمة من الغذاء «البروتينات» مع الأحماض الناتجة من عملية الهدم، في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد (Amino Acid pool)، ويحدث فيها تحوُّل داخلي واسع النطاق، وتدخل في دورة السترات، حيث يعاد توزيعها ودمجها في جزئيات أخرى يُصنًّع منها كل أنواع البروتينيات الخلوية، وبروتين البلازما والهرمونات، وغير ذلك من المركبات الحيوية.
وهذا بخلاف «التجويع الطبي» حيث تحول خلاله معظم الأحماض الأمينية القادمة من العضلات إلى جلوكوز الدم، وقد يُستعمل جزء منها لتركيب البروتين، أو يتم أكسدته لإنتاج الطاقة بعد أن تتحول إلى أحماض أكسجينية. أي أن الصوم يوفر لبنات جديدة للخلايا ترمم بناءها، وترفع كفاءتها الوظيفية؛ وهو ما يعود على الجسم البشري بالصحة والنماء والعافية، وهذا لا يحدث في التجويع الطبي؛ حيث الهدم المستمر لمكونات الخلايا.
ويضيف المختصون مميزات أخرى لنظام «الصوم الإسلامي»، منها: توازن دورتي البناء والهدم في أثناء فترة الصيام. وجود كمية مخزونة من البروتين في خلايا الكبد. زيادة إنتاج اليوريا من الأمونيا المتكونة من الأحماض الأمينية. تخلص الجسم من الدهون بطريقة طبيعية آمنة. تنشيط عمليات الكبد الحيوية. تأكسد الأحماض الدهنية ببطء، وعدم تجمع الأجسام الكيتونية في الدم، بينما تحدث حموضة خطرة في الدم في حالة التجويع الطبي.
·      الصوم خير ترياق للعديد من مشاكل الجهاز الهضمي (زيادة الحموضة، الانتفاخات، عسر الهضم ..)، وهذا بالطبع نتيجة فترات الراحة التي يتمتع بها هذا الجهاز الحيوي خلال فترات الصوم مما يعزز فرصة التغلب على كثير من الالتهابات والتقرحات التي تصيب أجراءه المتعددة، فضلا عن أن شهر رمضان يمثل نظام غذائي فريد يطرح العناء السنوي عن هذا الجهاز الدءوب. لكن من الأهمية بمكان أن لا نعتبر ساعات الصوم «ساعات حرمان» يجب أن نعوضها عند الإفطار بلا هوادة، فنثقل كاهل جهازنا الهضمي خاصة وأجهزتنا الجسدية عامة بالأطعمة الدسمة والعادات الغذائية الخاطئة، التي تفوت على أجسامنا فرصة الراحة والتجديد، والصيانة السنوية خلال شهر رمضان المعظم.
·      هناك علاقة وطيدة بين الصيام وصحة الكبد، فالصيام يتيح للكبد فترة راحة كافية من عناء التفاعلات البيولوجية التي تتم داخله طيلة العام، مما يعيد النشاط والحيوية إلى خلاياه ويجددها، ويعزز من قدرة الكبد على تخزين سكر الجلوكوز، والتخلص من نواتج التمثيل الغذائي وفضلاته التي تتراكم في خلاياه، كما أن دور الكبد أشهر من أن يذكر في التخلص من سموم الجسم المتراكمة، حيث يقوم الكبد بتحويل مجموعة واسعة من الجزئيات السمية -والتي غالبًا ما تقبل الذوبان في الشحوم- إلى جزيئات تذوب في الماء غير سامة، يمكن أن يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي، أو تخرج عن طريق الكلى. كما يؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية، بأكسدته للأحماض الدهنية، فتتخلص هذه الخلايا من مخزونها الدهني «الكبد الدهني»، مما يؤثر إيجابا على نشاطها وحيويتها، كما أن الصيام يسرع من تحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسَد، ويُنتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد.
كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة، كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم، ويتم ذلك بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا «كوبفر»، والتي تبطن الجيوب الكبدية، ليتم إفرازها مع الصفراء. وفي أثناء الصيام يكون نشاط هذه الخلايا في أعلى معدلات كفاءتها للقيام بوظائفها؛ فتقوم بالتهام البكتريا، بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة.
·      أثبتت دراسات غربية أجريت على مجموعة من الصائمين أن كفاءة الأداء العضلي لهم تحسنت بنسبة 20% وآلام الساقين بنسبة 11% وسرعة دقات القلب بنسبة 20%، وهذا راجع بالطبع إلى انتظام الدورة الدموية، وسهولة تدفق الدم إلى كافة أجزاء الجسم، وذلك لأن القلب يضخ الدم إلى مختلف أعضاء الجسم، ويستفيد الجهاز الهضمي من 10% من هذه الكمية، وأثناء الصوم يرتاح الجهاز الهضمي، وبالتالي يخف العبء على الدورة الدموية مما يؤمن سلاستها وتدفقها إلى كافة أجزاء الجسم، وخاصة المخ البشري الذي يحتوي على 15 ألف مليون خلية ألهمتها القدرة الإلهية إمكانات خارقة على التفكير والتعمق في المسائل المعقدة وحلها. وتزداد هذه الإمكانات مع زيادة ورود الدم إليها، الأمر الذي يحسن من القدرات الذهنية والفكرية للصائمين.
·      يقول الدكتور (لطفى الشربينى) استشاري الطب النفسي: «وللصوم آثار إيجابية في تقوية الإرادة التي تعتبر نقطة ضعف في كل مرضى النفس، كما إن الصوم هو تقرب إلى الله تعالى يمنح أملاً في الثواب ويساعد على التخلص من المشاعر السلبية المصاحبة للمرض النفسي، كما أن الصبر الذي يتطلبه الامتناع عن تناول الطعام والشراب والممارسات الأخرى خلال النهار يسهم في مضاعفة قدرة المريض على الاحتمال». ومن أشهر الأمراض التي تتحسن بالصوم: التوتر، القلق، الاكتئاب، الوساوس، القولون العصبي، الإدمان وخاصة التدخين.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: «الصيام زكاة النفس ورياضة للجسم، فهو للإنسان وقاية وللجماعة صيانة. في جوع الجسم صفاء القلب وإنقاذ البصيرة، لأن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر الشجار فيتبلّد الذهن. أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع، وطهروها بالجوع تصفو وترق».


المصادر
- الصيام وتجدد الخلايا، د. عبد الباسط محمد سيد، أستاذ الفيزياء الحيوية
- الصيام والتخلص من السموم، د. عبد الباسط محمد سيد، أستاذ الفيزياء الحيوية
- إحياء علوم الدين للإمام الغزالي

  د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com
alnaggar66@yahoo.com