الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

جامعة عربية من خشب


لكم أنا في أشد الحيرة والعجب من أمر جامعتنا العربية العصماء ومبادرتها حيال الانتفاضة السورية، بل وسائر القضايا العربية المصيرية .. ومنشأ العجب هو الاستيقاظ المفاجئ -دون سابق إنذار- لقادة الجامعة من سبات طويل وعميق، ومحاولة هوجاء لارتقاء صهوة الجواد العربي الأصيل، والركض به من أجل تحرير القضايا المتأزمة التي تنتاب عالمنا العربي بين الفينة والفينة، هكذا وبدون سياسات ولا تحضيرات ولا اتفاقيات دفاعية ولا اقتصادية ولا اجتماعية مسبقة.
ومع غياب الثقل العربي والدور الفاعل للجامعة العربية في كافة الأصعدة،  كان من المنطقي أن يسقط الفارس الغير مدرب من على فرس التحرير في أول ركضة، ولا نرى له مشاهد تذكر سوى مشاهد السقوط، ولا نسمع له دويا سوى دوي الاستنكارات والتنديدات.
لكن أعجب العجب أن الفارس العربي لا يتعلم الدرس أبدا، وفي كل أزمة يتناسى ضياع هيبته وغياب ثقله السياسي والقيادي، ويعاود امتطاء جواد التحرير مرة أخرى ليخوض به معارك هي أكبر بكثير من حجمه وقدراته، متغافلا عن اللحظات أو الثواني القادمة التي سوف تكشف للجميع خيبته وعواره.
فبعد ثمانية أشهر من انتفاضة السوريين سقط خلالها أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة شهيد من بينهم 187 طفلا، أفاقت الجامعة العربية من غفوتها المزمنة، واجتمع مجلسها الموقر ليقدم مبادرة لحل الأزمة السورية دون أي أوراق ضغط يملكها، أو آليات عملية يتبناها في حالة تنصل القادة السوريون من هذه المبادرة، والمضحك في الأمر تصريح السيد أحمد بن حلي، نائب الأمين العام للجامعة العربية، بأن السلطات السورية أمامها 15 يوما لتنفيذ بنود الخطة التي اقترحتها الجامعة لحل الأزمة السورية قبل بدء الحوار بين النظام والمعارضة الذي سترعاه الجامعة في أروقتها.
خمسة عشر يوما -يا سادة- ونزيف الدم الهادر مستمر، وعشرات القتلى والجرحى يوميا يسقطون على أيدي عساكر النظام والشبيحة، لكن الجامعة لا تلتفت إلى مثل هذه الأمور البسيطة بنظرها، وترى أن الموقف من التعقيد والصعوبة الذي يحتاج من النظام السوري لأسبوعين كي يرد فقط على المبادرة العربية.
وكما هو متوقع، فقد تلاعب النظام السوري بالجامعة، ورد بالموافقة الغير مشروطة!! وفي اليوم التالي سقط عشرين شهيدا بحسب ما أوردته وكالات الأنباء، في مسرحية تافهة من المسرحيات المبتذلة التي عودناها النظام العربي البائد.
ويكاد يجمع المراقبون أن الجامعة العربية لا تملك شيئا يذكر من خيارات الضغط أو العقوبات ضد النظام السوري، اللهم إلا الاعتراف بالمجلس الانتقالي، وبعض العقوبات الاقتصادية، وحتى تلك الخيارات لن تتفق كل الدول العربية على تنفيذها، فالقادة العرب عودونا دوما أنهم اتفقوا فقط على أنهم لا يتفقوا.
إن الجامعة العربية ولدت من رحم أنظمة عربية فاشلة، فمن الطبيعي أن تأتي ككيان مسخ مشوه لا حيلة له، بل من الطبيعي أن تتوالى إخفاقاتها الواحدة تلو الأخرى، أمام أمة عربية مثقلة بالهموم والقضايا الكارثية المزمنة، والتي تحتاج لجهود جبارة ومخلصة فوق مستوى ألف جامعة من أمثال الجامعة العربية، الأمر الذي جعل المواطن العربي ينفض يده من تلك الجامعة الشلاء، ولا يعول عليها كثيرا في شئونه.
وليس بخاف على أحد أن الأنظمة العربية الدكتاتورية المنتظرة في قائمة ربيع الثورات العربية تبحث عن حل جذري وفعال حيال لو تفجرت الثورة الشعبية في بلدها، وتحاول دراسة التجربة التونسية والمصرية والليبية واليمنية والسورية، في محاولة لإيجاد الورقة الرابحة في هذه التجارب، غير متغافلة عن إمكانية الاقتباس من كل تجربة على حده.
ففرار بن علي في تونس ربما يكون الحل الأخير والبعيد جدا لهذه الأنظمة، لكنه عموما شيء وارد وممكن حدوثه رغم استبعاده، لذلك بدأت تلك الأنظمة في تبني بعض آلياته، وهو ما كشفت عنه صحيفة «ميلليت» التركية عن أن دولارات العرب والأجانب بدأت تتدفق وتصب في البنوك التركية في أعقاب التوتر والاشتباكات والاضطرابات التي عاشتها العديد من الدول العربية بعد موجة ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا, وعدد آخر من الدول الخليجية.
وأما التجربة المصرية بالتنحي لابد أن يتزامن معها الضمانات الموثقة والمغلظة بعدم المتابعة القضائية حال التخلي عن الكرسي، وهذا ما أكده التصرف المراوغ لرئيس اليمن في محاولة للحصول على هذا الضمان الجوهري.
وأما التجربة السورية القائمة على العنف والحلول الأمنية فما زالت -حتى اللحظة- هي الورقة الرابحة التي تثبت أركان النظام الذي لا يرى إلا وجوده فقط حتى لو أباد كل السوريين عن بكرة أبيهم.
فهل يُعقل بأنظمة تبحث عن مخرج لنفسها أن تتبنى في جامعتها العربية العصماء حلا لدكتاتورية النظام السوري، فمجمل القول أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولسان حال هذه الأنظمة يتمنى أن ينجح أحدها في إيجاد وسيلة فعالة لإطفاء شرارة الثورة كي تحذو حذوه وتقتفي أثره.

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

  


  

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

الحياة الزوجية .. أصول وقواعد



الحياة الزوجية ضربا من ضروب العلاقات الإنسانية الوطيدة، بل هي أشد العلاقات ترابطا وتجاورا وتلاحما، وهي بالتالي تخضع لأصول سلوكية وقواعد مرعية وفنون إنسانية .. مطلوب منا أن نمارسها بمزيج من المهارة والحب والإيثار، لذلك لا غرابة أننا في حالة التفريط في هذه القواعد أن نصاب بما يعرف بخيبة الأمل الزواجي التي نشعر في أتونها أننا كنا في فترة عزوبتنا أسعد حالا وأكثر انطلاقا وتحررا، فما أصعب أن يتحول الزواج من عش هادئ إلى قيد وغل يقيد حياتنا ويجرف ضعاف النفوس منا إلى جحيم الطلاق أو الخيانة الزوجية، والإحصاءات في بعض المجتمعات تكاد تكون مخيفة، فهل لنا من عودة إلى الالتزام بالأسس الواضحة لهذه الحياة كي ننعم بجنتها ولا نصطلي بنارها.

·    لا تتزوج ابتداء من امرأة ترى أنها أفضل منك أو كأنها تسدي إليك معروفاً بارتباطها بك (الشخصية النرجسية أو المتعالية)، واعلم أنك إذا فعلت ذلك فسوف تتحول حياتكما الزوجية إلى نكد دائم وتعاسة مستمرة. فإما أن ترضخ لزوجتك باعتبارها صاحبة المعروف والشريك الأعلى كما تتوهم هي، وبذلك تفقد اعتبارك وإحساسك بالأهمية، وإما أن تطالب بحقك في القوامة والريادة والمسئولية، وعند ذلك لن تخضع لك شريكتك لأنها تنظر إليك على الدوام نظرة الشريك الأدنى، ففي كلا الحالتين سوف تنشأ المشكلات، فضلا عن أن هذا النوع من الزوجات أقرب للانجراف للخيانة الزوجية لأنها تبحث عن الشخصية الجديرة بها.
·    جميل أن نلتزم بأقصى درجات المرونة والتغافل لنكسب من نحب، وجميل أن نوهم من أمامنا أنه أكثر حكمة ودراية ومعرفة. فلا يخلو شخص من نقص، ومن المستحيل على أي زوجين أن يجد كل ما يريده أحدهما في الطرف الآخر كاملاً، ولهذا على كل واحد منهما تقبل الطرف الآخر والتغاضي عما لا يعجبه فيه من صفات أو طبائع ما دامت في حدود المقبول، وكما قال الإمام أحمد بن حنبل: «تسعة أعشار العافية في التغافل» وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما نتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور. وقيل أيضا: «ما استقصى كريم قط» .. «كثرة العتاب تفرق الأحباب».
·    لابد من قضاء وقت أطول معا يتخلله بعض اللعب والمزاح والانبساط وطرح التكلف، فالعشرة من شأنها أن تجدد الحب، والغفوة تسبب الجفوة، وتؤجج نار الظنون السيئة، أما تبادل أطراف الحديث من شأنه أن يتعرف كل طرف على دواخل الآخر، ويعذر البريء المسيء، ويشارك كل منهما مشاعر الطرف الآخر.
·    الابتسامة لها مفعول السحر على رفيق الحياة، بل على كل من حولنا عموما، فمن يضحك أكثر يستمتع أفضل بعلاقته الزوجية، ومن لا يضحك تصبح حياته جافة مملة .. إن الابتسامة بهجة الحياة الزوجية التي تستطيع أن ترفع عن كاهل الزوجين أعباء المسئوليات الجسام، وهي نعمة سماوية، ومفتاح للسعادة الزوجية في حد ذاتها.
·    العش الزوجي هو الذي يدخل فيه شخصان بمزاجين مختلفين، ومن بيئتين متفاوتتين، ويحملان في ذاتهما فكراً وفهماً يتباين عن الآخر، ولا يكون عشهما ذهبياً حتى يُملأ من الحس الذهبي بوجود الآخر، والاحترام الذهبي لكلّ منهما تجاه الآخر، وبالعكس يفقد العش الزوجي ذهبيته عندما يفكر كلا من الزوجين بنفسه وبسعادته دون الآخر، ويتوقع أن يأخذ من الآخر أكبر قدر من التنازلات. عندئذ لا يتبادل الشريكان رسائل الحب والتقدير والتضحية بل رسائل الأنانية والانكباب على الذات واستغلال الآخر، وبالطبع لن تستقبل هذه الرسائل بودّ واحترام، لأنها لا تحمل أية معان جميلة للآخر.
·    ليس من حسن العشرة أن يُكلّف الزوج امرأته شططاً، وينهكها في تحقيق حقوقه تعباً، بل عليه أن يسلك هدياً قاصداً، ويتغاضى عن بعض حقوقه في سبيل تحقيق المهم منها .. إحساناً للعشرة، وتخفيفاً على الزوجة، ولا ننسى أن قدوتنا النبي –صلى الله عليه وسلم- كان في بيته في مهنة أهله. قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] قال أهل التفسير: هذا من بديع الكلام، إذ حذف شيئاً من الأول أثبت نظيره في الآخر، وأثبت شيئاً في الأول حذف نظيره في الآخر، وأصل التركيب: ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وقال ابن عباس: تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق. أي: إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه.
وكذا حال المرأة مع زوجها، فلا هي باللحوحة ولا الشكاية ولا التي في مقارنات دائمة بين حالها وحال جيرانها ورفيقاتها، بل هي الهينة اللينة التي تنشد استدامة محبة زوجها، وتكسب ثقته ومودته.
·    من أكبر الأخطاء التي نقع فيها أن يعامل الرجل المرأة على أنها رجل مثله. فالمرأة لا تأخذ الأمور كما يأخذها الرجل، فهو يهتم بأساسيات المشكلة، لكن المرأة تهتم بالتفاصيل وتعطيها أهمية أكبر من لب الموضوع، لذلك من المهم مراعاة ذلك عندي أي نقاش للخروج من الأزمة بحل يرضي الطرفين.
·    المرأة لا تريد التعامل بالمنطق دائماً، لأن مشاعرها تغلب عقلها في أغلب الأحيان، وهي لا تريد أن تحاسب بدقة على كل كلمة تتفوه بها، بل تريد أن يتغاضى الرجل عن تقلبات مزاجها، وألا يغضب من دلالها عليه، ومن بعض متطلباتها غير المهمة بالنسبة له.
·    ليست الزوجة فقط هي المسئولة عن حدوث الجفاف العاطفي بين الزوجين، فالمرأة كثيرا ما تتعرض إلى أسباب تؤدي بها إلى تعكر المزاج والقلق والتوتر، كهموم تربية الأطفال وضغوط فترة الطمث وزيادة أو نقص الهرمونات، وعلى الزوج أن يدرك ذلك جيدا. وهو أيضا يكون مسئولا عن هذا الجفاف العاطفي عندما يتعرض لمشكلات في عمله، فينعكس ذلك على علاقته بزوجته وأبنائه فيحصل الشجار والمشاكل. لذلك من دوام العشرة التماس الأعذار للآخر.
·    على كل من الزوجين أن يتفهم غيرة شريكه، خاصة إذا كانت في الحدود المعقولة، على أن لا تصل الغيرة إلى الشك ومحاصرة الشريك ولغة التخوين وأساليب المحاسبة على كل موقف صغر أم كبر.
·    «تشاركا في الرأي والمشورة» .. وذلك لا يعني أبدا أنك -عزيزي الزوج- تنازلت عن رجولتك لأنك صاحب القرار، بل على العكس تماما، فالزوجة عندما تسمع كلمة «أريد آخذ رأيك في شيء مهم» يكون لذلك أثرا قويا على نفسيتها، لأن ذلك يعني أن لها مكانة غالية لديك، وهذا هو ما تريده الزوجة، ولعل في موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية دليلا وهاديا، فعندما تأثر الصحابة من بعض ما جاء في الصلح واحتار الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كيفية إزالة هذا الأثر عنهم وحثهم على الحلق والعودة إلى المدينة، فسأل السيدة أم المؤمنين فاقترحت عليه أن يخرج أمام الناس ويحلق هو أمامهم، فإذا رأوه - وهو قدوتهم - سيفعلون مثله وينتهي الموقف وفعلا هذا ما كان .. فإذا كان رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- يستشير زوجته في قرار سياسي غاية في الأهمية، فهل يمتنع بعضنا عن مشاورة زوجاتهم عن أمور أقل من ذلك بكثير؟!
·    كلا الزوجين مطالب بأن يراعي حق صاحبه في والديه وأقاربه، وألا يذكر أحداً منهم بسوء، فإن ذلك يوغر الصدور، ويجلب النفرة بينهما، وكم من زوج تحدث أمام حليلته بسلبيات أبيها وسقطاته – وهو مَن هو في جلالة قدره عندها – فأحدث ذلك ألماً في قلبها أطفأ شمعة السعادة المضيئة في حياتها الزوجية، وأشد من ذلك الحديث عن أمها. وإذا كان هذا في حق الزوج وله القوامة، فما بالك بحديث الزوجة عن والدي زوجها بسوء.
ولسنا نلزم أحداً منهما بمحبة أقارب الآخر، فالقلوب بيد الرحمن، يصرفها كيف يشاء، ولكنا نُحتِّم عليه أن يحفظ لصاحبه مشاعره، وكرامته وعرضه. وأقارب كلا الزوجين يجب احترامهم وتقديرهم وعدم الإساءة إليهم. أما عن علاقة الزوجين بالجيران، فتختلف باختلاف الجيران، فينبغي عليهما تحديد إطار مسبق لعلاقتهما بهم.
·          مراعاة الاستمرارية والنفس الطويل في العطاء حتى وإن كان الطرف الآخر لا يبادل نفس العطاء، وهنا نعود لقاعدتي «الإخلاص، والتجارة مع الله» وهذه مجاهدة يجيدها من لديه إصرار على نجاح أسرته وعلاقته بشريكه .. إن الحياة الزوجية بمعناها الحقيقي «حياة عطاء» فهي حياة قوامها واجبات على كل طرف من الأطراف قبل أن تكون له حقوقاً، ومن ذلك كان لزاماً على كلا الزوجين أن يتنازلا طوعاً عن كل ما كان ينعم به من حرية شخصية واستقلالية قبل الزواج، وعلى كل منهما أن يضحي عن طيب خاطر، وأن يكون شعار الحياة الزوجية التضحية المشتركة، فلا يشعر أحدهما أنه يضحي في حين أن الآخر يضن بالتضحية، ومن لم يكن لديه القدرة على التضحية، عليه أن ينتحي ناحية من المجتمع، وينعزل عن الناس، وأن لا يطرق باب الزواج أصلا.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com



السبت، 7 سبتمبر 2013

ميزانية أسرتك .. كيف تديرينها بجدارة؟


«الأسرة» .. تلك المؤسسة الصغيرة المهمة التي على الرغم من صغرها ما زالت هي أهم المؤسسات في المجتمع، ولاعتبار الأسرة مؤسسة لا بد من امتلاكها «كيان إداري» له أهداف وخطط يدير ذلك الصرح الصغير. ومن أهم الإدارات الداخلية لهذا الكيان هي «الإدارة المالية»، إذ المال عصب الحياة وبه نحقق رغباتنا واستمرارية المعيشة. ونظرًا لظروف الحياة العصرية المعقدة، فغالبًا ما نجد دخل الأسرة لا يكفي لتمويل ذلك الصرح لتحقيق أهدافه وطموحاته، ومن ثم كان لازمًا وضع تصور بناء لإدارة المال في الأسر عمومًا، يسير بها في حد الاعتدال ولا تنجرف صوب الإفراط أو التفريط.

·      المصارحة فيما بينكما بخصوص الأمور المادية تستطيع تأمين علاقتكما ومستقبلكما المالي معا، وهذا بالطبع يشمل حقيقة دخل الزوج أو الزوجة إن كانت تعمل، وأوجه الإنفاق المختلفة، والمدخرات .. وهكذا.
·      من واقع الدراسات المسحية تبين أن الرجال أقدر على إدارة الأمور المالية الأساسية للأسرة، ويشكل عدد الرجال الذين يضطلعون بمسؤولية ميزانية المنزل ضعف عدد النساء اللواتي يقمن بالدور ذاته، أما المسئولون عن استثمار أموال الأسرة فيشكلون ثلاثة أضعاف النساء اللاتي يقمن بهذه المهمة. فلماذا لا نوزع الأدوار داخل الأسرة؟ ولماذا لا يتشارك الزوجان مسئولية الميزانية؟ خاصة وأن نفس الدراسات تؤكد أن معظم الأزواج ( 67% ) يتخذون القرارات معا كفريق، ولكن كل حسب موقعه التقليدي.
·      توحيد مصدر الصرف في الأسرة مسألة في غاية الأهمية، فإما أن يكون الزوج أو أن تكون الزوجة، حتى لا تحدث تشتت في الإنفاق بتكرار شراء أشياء قد لا يتم الاتفاق عليها مسبقا، أو لا تحتاج الأسرة إليها في الوقت الحالي، بما يؤدي إلي هدر في الميزانية لا داعي له إطلاقا.
·      من المهم مراقبة الميزانية من وقت لآخر، ولا نتركها لآخر الشهر أو السنة، وهذا يفيد جدا في اكتشاف الأخطاء أولا بأول، وسرعة تداركها وتلافي الوقوع في كوارث مادية مفاجئة.
·      لابد أن تتعاملي مع التخطيط والميزانيات بأسلوب مرن، تحسباً للظروف الطارئة التي قد تحتاج إليها الأسرة على غير المتوقع، فتكونين مستعدة لذلك، بحيث تجعلي الميزانية تستوعب أي مستجدات مفاجئة.
·      رضا الناس غاية لا تدرك والأفضل هي القناعة الشخصية .. فلابد أن يكون كل أفراد الأسرة على قناعة أنهم يعيشون لأنفسهم وليس من أجل ما يقوله الناس، وبالتالي فهم الذين يحددون احتياجاتهم ونفقاتهم دون أن يخضعوا لضغوط اجتماعية أو حمى المظاهر، الأمر الذي قد يضطرهم إلي الاستدانة والوقوع في براثن القروض.
·      ابتكري طرقا جديدة لحل الأزمات المالية: كحذف بعض الكماليات في سبيل الحصول على الضروريات. الاقتصاد في البرامج الترفيهية للأسرة مؤقتا حتى تمر الأزمة بسلام. إعادة استعمال بعض الأشياء القديمة بعد تجديدها وإصلاحها. الشراء من محلات الجملة والاوكازيونات ابتغاء الأسعار المخفضة. ولا ننسى دور البحث عن وسائل التوفير لنفقات الطعام من خلال أصناف اقتصادية تعدينها في المنزل. أو من خلال مكملات تقومين بتخزينها طيلة أيام العام.
·      ادخري المال واستغني عن ذل السؤال: فعلى الزوجة أن تتبنى أسلوبا مبتكرا للتوفير من الإيرادات حتى تكون الميزانية قوية، فتحاول استغلال فترات انخفاض الإنفاق في التركيز على رفع المدخرات، مثل: أوقات انتهاء العام الدراسي. غياب أحد أفراد الأسرة في سفر. فترات الخروج من الأعياد والمناسبات. الفترات بين أوقات تسديد الفواتير المستحقة .. وهكذا. ويمكن أن تقتطعي مبلغا معينا من الإيراد وتدخليه في حساب معين لا يمس وكأنه مصروف ثابت شهري لكنه يكون للتوفير.
·      في بداية الزواج يكون الادخار أسهل من أي وقت آخر خلال رحلة الحياة الزوجية ؛ وذلك لعدة أسباب منها أن عدد أفراد الأسرة الجديدة صغير، وبالتالي فإن مصروفاتهم اليومية بسيطة. عدم احتياج عش الزوجية لصيانة مكلفة ولا للتجديد، فالشباب في الغالب يبدءون حياتهم الزوجية بعد شراء كل احتياجاتهم الأساسية من ملابس وأجهزة كهربائية وأثاث، وبالتالي فإن الشباب المتزوج حديثا عليه أن يتحمل مسئولية حياته المستقلة منذ اليوم الأول، وعليهم الادخار استعدادا لطفل ينعم به الله عليهم أو أي التزامات أخرى قد تطرأ.
·      العمل على تنمية وتطوير دخل الأسرة وما في حوزتها من أموال والمحافظة عليها وما يتعلق باستثمارها. وهذه العناية بالميزانية تتطلب معرفة الوالدين بالخطط المستقبلية للعائلة، والأهداف التي يسعيان إلى تحقيقها، حتى يستطيعا أن يدخرا من المصروف ما يلبي حاجات الأسرة المستقبلية من بناء بيت وزواج أولاد والمصاريف الصحية عند الكبر وغير ذلك. وبعبارة أخرى: لابد من وجود هدف استراتجيي طويل الأجل تسعى الأسرة لتحقيقه، بجانب مجموعة من الأهداف الفرعية التي ترتبط بمراحل الحياة الاجتماعية للأسرة.
·      إشراك الأبناء في إدارة ميزانية الأسرة فرصة تربوية رائعة يتعلمون من خلالها كيف يتصرفون في توزيع دخل الأسرة على أوجه الإنفاق المختلفة، وكيف يمكن اختصار بعض أوجه الإنفاق لتدبير ما يمكن إنفاقه على أحد أبواب الإنفاق التي تزدهر في بعض الشهور دون أخرى .. هذه التجربة في إدارة ميزانية الأسرة لن تجعلهم يطلبون منا مطلبا لا تستطيع الميزانية أن تتحمله؛ لأنه في هذه الحالة سيكونون أول من يعلم حدود طلباتهم التي يمكن أن تلبيها الإمكانية المادية الحقيقية للأسرة، فلا يطلبون ما هو أكثر، بل ربما يقترحون أن يستغنون عن بعض طلباتهم من أجل الآخرين (أخيه أو أخته )، أو من أجل أن تبدو الأسرة ككل بمظهر لائق إذا فوجئت بموقف لم يكن في الحسبان، وبذلك يتعلموا شيئا جديدا هو «الإيثار».  
هذا بالإضافة إلى أنهم يتعلموا مهارة حل الأزمات والتفكير في الخروج منها، وعدم التقوقع فيها، أو اللجوء إلى الغير لحلها، ولا يصبح الاقتراض هو الطريق السهل أو التلقائي لحل أزماتهم المالية، كما يتدرب الأبناء على كيفية إدارة ميزانية الأسرة، التي عادة ما يفاجئون بالقيام بها دون تدريب مسبق عند بداية الزواج.
·      الإنفاق كما يكون له هدف في الدنيا من تحقيق السعادة للإنسان، يكون أيضا للسعادة في الآخرة بدخول الجنة إن شاء الله تعالى، فلا بد من إخراج الحق الواجب من الزكاة على مدخرات الأسرة، والإنفاق في وجوه البر المختلفة .. ففي المال حق سوى الزكاة، والإنفاق في الخير من أعظم وسائل بركة المدخرات للحديث القدسي الجليل  «أنفق يا ابن آدم أُنفق عليك» [البخاري], كما أن الإنفاق الخيري لا يقتصر على الفرد نفسه بل يشمل النفقة على الأقارب وأفراد الأسرة وأفراد المجتمع المحتاجين حسب قدرة كل فرد وإمكانياته المالية، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك [مسلم]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» [مسلم]. ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: (أربع من فعلهن فقد بريء من البخل: من آتى الزكاة، وقرى الضيف، ووصل الرحم، وأعطى في النائبة) وعلق على ذلك ابن تيمية بقوله: (من ترك أحد هذه الأربعة فهو بخيل).
·      الدين هم بالليل مذلة بالنهار .. فالاستدانة وإن بدت حلا سهلا لأزماتنا المالية، إلا أنها قد تتحول إلى مرض مزمن وشبح مرعب قد لا نستطيع التخلص منه، والعلاج يكون بأن نفكر ابتداء كيف نخرج من المأزق المالي في حدود إمكانياتنا دون اللجوء للاستدانة.

 


د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


الاثنين، 2 سبتمبر 2013

تهاوي النخب الإعلامية


(المحلل السياسي)، (الخبير الاستراتيجي)، (الباحث في الشؤون السياسية)، (المفكر والمؤرخ) .... ألقاب تتزاحم، وموضوعات تطرح، وأحاديث لا تنقطع على شاشات الفضائيات وصحف الجرائد والمجلات .. إنهم نمط أو فئة غريبة من الوجوه التي تطل علينا دوما من برجها العاجي، بهيئتها الأنيقة، وبشرتهم النظرة، يجلسون تحت الأضواء الباهرة أمام الكاميرات، في استوديوهات مكيفة.. يحللون ويتوقعون وينتقدون ويتفاءلون ويتشاءمون، ويثرثرون بفصيح الكلام ويتشدقون بغريب المصطلحات.
إنهم النخب المثقفة الذين اختارهم إعلامنا لملء فراغ ساعات البث، ولأخذ المشاهد البسيط أو الساذج بعيدا بعيدا في فضاء التحليلات والمناقشات التي لا تمس واقعه الحياتي لا من قريب ولا من بعيد.
يطرحون رؤاهم وتصوراتهم عن ربيع الثورات العربية، وطبيعة المرحلة القادمة، والاحتدام بين الإسلاميين والعلمانيين، وعن الدساتير والمجالس النيابية، والعلاقات الدولية .. والمواطن الغلبان يصاب بصداع رأسي وفكري من طول السجالات والتحليلات .. أما مشاكله اليومية فلم يتغير منها شيء، ومعاناته الحياتية ربما ازدادت في غياب الأمن وانعدام الرقابة على الأسواق وطوفان الإضرابات والمظاهرات الفئوية.
وإذا ما حاول هذا الغلبان الامتعاض أو طرح سوء الأحوال أخبره أباطرة النخب الإعلامية بأننا في مرحلة انتقالية، وحكومتنا حكومة تصريف أعمال، وكل أيادي المسئولين مرتعشة لا تريد أن توقع على أي قرار، وأن عليه الصبر والانتظار، ثم يحكمون تخديرهم لهذا المواطن المسكين بإقناعه أن هذا طبيعي في كل الثورات على مستوى العالم.
معنى هذا أن على مريض الفشل الكلوي -مثلا- أن يصبر على معاناته في الحصول على نوبة الغسيل الأسبوعية، وضحايا لهيب فواتير الكهرباء والغاز والدواء الشهرية عليهم أن يصبروا قدوم الرخاء مع الرئيس الجديد المنتخب بعد ثلاث سنوات على أقل تقدير، أما رغيف الخبز الحكومي المقزز فسيتحسن، والمواصلات العامة سترتقي في خدماتها، وروتين المصالح الحكومية فسيكون أقل تعقيدا، والمدارس والجامعات فستصبح أكثر تحضرا .. كله في المستقبل، وكل الأحاديث عن الغد المشرق الذي لم يأتي يوما من الأيام، هذا الغد الذي حدثنا عنه كل فراعين مصر، وضاعت أعمارنا في انتظاره، وسط صخب الخطط الاقتصادية الخمسية والخصخصة وقروض البنك الدولي ومعونات الدول المانحة ....
والحديث عن الصبر لا يضير هذه النخبة الإعلامية في أدنى شيء، لأنها في بحبوحة من العيش، لا تأكل خبز الغلابة، وعندها سياراتها الفارهة، وعلاجهم في المستشفيات الخاصة، وأولادهم في جامعات أوروبا، بل إنهم يتقاضون عن كل حلقة تليفزيونية أو مقاله صحفية مبالغ ليست بالهينة ولا باليسيرة، فلماذا لا يتقنون فن الدجل الإعلامي ماداموا وجدوا في كنفه الشهرة والحظوة ورغد العيش.
في أحد حلقات برنامج (مصر الجديدة) على قناة المحور أدار المذيع حوار بين أحد شيوخ الأزهر الأجلاء ودكتور يمثل أحد أقطاب العلمانيين المصريين، ورغم اتفاق الجميع على النهج الديمقراطي واحترام إرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع، إلا أن الدكتور العلماني صرح باستثناء وحيد، وهو بشرط عدم وصول الإسلاميين لسدة الحكم حتى ولو كانت الانتخابات حرة ونزيهة!!!
وفي حلقة أخرى على قناة الجزيرة استضاف المذيع كاتب كبير مختص بالشؤون السياسية من زمن طويل يرجع إلى بدايات العهد الناصري، ومن غريب ما صرح به، أنه جلس مع قادة الإخوان وأسدى لهم نصحا بأن تكوين دولة إسلامية جنوب البحر الأبيض المتوسط (يعني منطقة الشرق الإسلامي) مرفوض تماما من المجتمع الغربي، ويعتبر خطا أحمر لا ينبغي تجاوزه إن كانوا يريدون إتقان اللعبة السياسية الدولية، وكأن سيادته لم يسمع عن التجربة التركية التي قامت على أسس إسلامية بعدما رفضها الغرب وهي غارقة في العلمانية، أو كأن جنابه لا يعلم شيئا عن البراعة الإيرانية في اختطاف الخبرة النووية من فم الغرب على غير رغبة منه، وتجاهل الخبير السياسي حماس ووقوفها في وجه الصلف الصهيوأمريكي، أو حرب تموز والتي قذف فيها حزب الله إسرائيل بوابل من صواريخ لم يقذفها أي زعيم عربي، ولا الزعماء العرب مجتمعين منذ نشوء القضية الفلسطينية.
لست من مروجي النهج الشيعي، ولكنها أحداث ومواقف لابد وأن تذكر أمام ثقافة الانهزامية التي تحدد ما هو مسموح وما هو غير مسموح وفقا لرغبات الغرب .. إنها نار الحقد الدفين من الإسلام القادر على رفعة هذه الأمة، وبيان عوار هؤلاء المثقفين من رضعاء ألبان الغرب العلماني.
إن النخب الحقيقة من أبناء الشعب المخلصين لا ينتمون إلى تلك الفئة المشبوهة التي لمعها الإعلام، ولم يستمدوا ريادتهم وقيادتهم من أمام الكاميرات، بل إنهم أبناء الجماهير، بين الجموع برق وبيص معدنهم الأصيل، فاستضاء به الملهوف والمنكوب والمحروم وذا الحاجة.
النخب الصادقة نخب الأعمال لا الشعارات، نخب المنابر في المساجد، ونخب مكاتب تحفيظ القرآن، ونخب مشاريع تيسير الزواج، ونخب الجمعيات والمستوصفات الخيرية، ونخب جمع التبرعات لرعاية الأيتام والأرامل والمعاقين، ونخب فض المنازعات وإصلاح ذات البين ...
نخب لا تفر من ساحات الوغى، وتسيل دمائها قبل دماء الدهماء، وتجوع بطونها قبل جوع المحرومين.. تستقي شمائلها من هدي سيد المرسلين، صلوات ربي وسلامه عليه، صلاة دائمة إلى يوم الدين، فعن أنس رضي الله عنه قال:  كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ [ تبين ] الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة، عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: (لم تراعوا لم تراعوا) [ لا تفزعوا ] ثم قال: (وجدناه بحرا) [ أي سريعا]. رواه البخاري
وعن علي رضي الله عنه قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
وعنه أيضا قال: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى العدو منه.
إن هذه النخب التي تولدت من رحم الجماهير قدمت للأمة نماذج فريدة في التضحية والفداء، والعمل والبناء، وهي نبراس هذه الأمة التي حق لكل أفرادها أن يدوروا في فلكهم مؤازرين ومؤيدين، ومسترشدين بآرائهم وخبراتهم في بناء أمة الخير والحق والعدل.

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com
  
     


     

عشر نصائح للطامحين لحكم العرب.. منصف المرزوقي

ثمة قاعدتان محبِطتان لكل النوايا الحسنة التي تزعم هِداية السلطان. الأولى: كما يجذب النورُ الفَراش تجذب السلطة الكثير من المرضى النفسيين، ولذا فإنه من العبث توجيه النصح لمن بقلوبهم صمم وبنفوسهم خلل، وهم غالبية من يَحُومون حولها.
والثانية: مَن هُم بحاجة للنصح لا يستمعون إليه، ومن هُم قادرون على الانتفاع به يُغنيهم ما في ذكائهم وضميرهم عن كل وعظ.
ما الفائدة إذن من هذا النص وهو مطعون في جدواه من البداية؟
عذران أو تبريران. الأول أن لكل القواعد استثناءات. فليس كل من يطمح للسلطة أو من تضعه الأقدار على عرش، شيطانا في ثوب ملاك. مثلما ليس الشعب كلّه منزّها عن كل عيب، وليس كل مواطن ضحية فقد تجده جلادا أحيانا.
الثاني أن السلطة لا تقتصر على تلك التي تُمارَس في القصور. فهي موجودة في المصانع والثكنات والمستشفيات دون نسيان الأسرة. كم من مستبدّ صغير يمارس السلطة في هذه المستويات على منوال المستبدّ الكبير؟
لنأمل إذن أنه قد يوجد بعض الأشخاص في هذا المستوى أو ذاك، قادرون على التوقف عند هذه النصائح وربما الأخذ ببعضها، فنكون قد بذرنا في الصحراء ولم نحرث في البحر.
ضع دوما نصب عينيك هذه الدروس التي يتوجه بها التاريخ لكل فكر لبيب.
1-المستبدّ العادل خرافة، والقاعدة أن لا يومَ يمرّ عليه في الحكم إلا ويزداد استبدادا ويتناقص عدلا ، لينتهي طاغية من أسفل السافلين. دولة القانون والمؤسسات والتداول السلمي على السلطة هي الخيار الذي لا رجعة فيه لمن يريد السلامة لنفسه وللشعب والدولة.
2-هناك في السياسة منذ وُجِدَت مدرستان لا ثالثة لهما: مدرسة عُمَر الفاروق وغاندي ومانديلا، ومدرسة يزيد بن معاوية وبرلسكوني وبن علي. اختر المدرسة الأولى إن أردت الخير لنفسك ولشعبك، ولأحفادك اسما يفاخرون به، وإلا فهو الهلاك للناس الذين سيبتلون بسياستك وآخر ضحاياها أنت.
3-القمع الرهيب والإرهابي كما مارسه آل الأسد في سوريا، والسرقات الضخمة كما مارسها آل مبارك في مصر، والكذب المفضوح والتزييف البليد كما مارسهما بن علي في تونس، وشطحات جنون العظمة كما مارسها القذافي، كلها تجارب بدائية في فنّ الحكم يجب أن تُدرَس بمنتهى الدقة ليُستخلَص منها درس الدروس، وهو أن كل قضية تعذيب في أقبية المخابرات وكل محاكمة جائرة وكل دينار يُسرق وكل تزييف انتخابات، قطعة حطب إضافية يكدّسها ماسك السلطة حوله لحريقٍ آتٍ لا ريب فيه.
4-لا أصعب من حكم البشر. جزء منهم لا يطيق الاستبداد ولا يستأهله، وجزء آخر لا يرتاح للحرية ولا يحسن استعمالها. ومن ثًمّ ضرورة الالتزام بالقيم والقانون في التعامل مع شطري المجتمع. لا إفراط في الحزم مع قليلي النضج ولا تفريط في حقوق وحريات الآخرين.
5-السلطة وظيفة اجتماعية لا غنيمة حرب، ولديها طاقة خارقة للعادة يسهر عليها أناس عاديون وأحيانا دون ذلك. تلك الطاقة قادرة على إنتاج أقصى الخير إن أُحسِن استعمالها وأقصى الشرّ إن هو أُسيء. لكي تستخرج منها كل طاقتها الخلاقة وتتقي شرّ طاقتها الفتاكة، أسلَمُ خيار هو التمسك بأقصى قدر ممكن من الثبات على المبادئ والأهداف وأقصى قدر ممكن من المرونة بخصوص آليات التنفيذ.
6-الأخلاق ليست غطاء الضعفاء وحيلة الأقوياء وإنما التجربة التي كدستها الإنسانية بخصوص أسلم التصرفات للفرد وللمجموعة، يجب الأخذ بها دوما. من الضروري تغيير الأفكار كما لو كانت بمثابة الثياب الداخلية، والتمسّك بالقيم كتمسّك المرء بجلده.
7-كل طُموح شخصي يخدم المصلحة العامة، يخدم آليا معها المصلحة الخاصة، لأنه يرفع صاحبه من جهة ويحقق ازدهار الأدب والعلم والطب والتجارة في المجتمع من جهة أخرى.
كل طموح شخصي يتحايل على ذكاء الناس بالتخفي بغطاء المصالح الجماعية لتحقيق مآرب آنية دون الالتفات للتبعات، كارثة على صاحبه وعلى المجتمع. من الممنوعات وضع الطموح الشخصي لكل من يكلَّف بشرف تمثيل وقيادة شعب، حيثُما وضعه كبار اللصوص صغار النفوس الذين اقتصر طموحهم على بناء قصور المرمر والتسلط، هم وذووهم على الناس وسرقة أموالهم، فأصبحوا مضغة في الأفواه وعجينة تحت الأقدام.
8-كلام الخصوم يوزَّع على ثلاثة ملفات: الذي ينضح بسوء النية والذي يطلب المستحيل ثم الذي يفضح نواقص سهت عنها عين الرضا وكشفتها عين السخط. يجب تجاهل سوء النية وعدم التوقف عند من يريد التعجيز، لكن لا أهمّ من اعتبار النواقص التي تفضحها معارضة يجب تعهدها بكل حرص وهي التي تشعل الأضواء الحمراء لتفادي الإمعان في الأخطاء القاتلة، والشعار قول الشاعر:
عُداتي لهم فضل عليّ ومنّة * فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
هُمُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها * وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
9-الانقلاب الأموي على أمر الرسول الكريم -وإن دام خمسة عشر قرنا- انتهى بالفشل المخزي لأن الحكم، أحبَّ من أحبّ وكرهَ من كره، سيصبح من هنا فصاعدا شورى بيننا.
10-سيد القوم خادمهم وسيد الأسياد ليس من يعطي الأوامر وإنما من يعطي المَثَل.