الاثنين، 2 سبتمبر 2013

تهاوي النخب الإعلامية


(المحلل السياسي)، (الخبير الاستراتيجي)، (الباحث في الشؤون السياسية)، (المفكر والمؤرخ) .... ألقاب تتزاحم، وموضوعات تطرح، وأحاديث لا تنقطع على شاشات الفضائيات وصحف الجرائد والمجلات .. إنهم نمط أو فئة غريبة من الوجوه التي تطل علينا دوما من برجها العاجي، بهيئتها الأنيقة، وبشرتهم النظرة، يجلسون تحت الأضواء الباهرة أمام الكاميرات، في استوديوهات مكيفة.. يحللون ويتوقعون وينتقدون ويتفاءلون ويتشاءمون، ويثرثرون بفصيح الكلام ويتشدقون بغريب المصطلحات.
إنهم النخب المثقفة الذين اختارهم إعلامنا لملء فراغ ساعات البث، ولأخذ المشاهد البسيط أو الساذج بعيدا بعيدا في فضاء التحليلات والمناقشات التي لا تمس واقعه الحياتي لا من قريب ولا من بعيد.
يطرحون رؤاهم وتصوراتهم عن ربيع الثورات العربية، وطبيعة المرحلة القادمة، والاحتدام بين الإسلاميين والعلمانيين، وعن الدساتير والمجالس النيابية، والعلاقات الدولية .. والمواطن الغلبان يصاب بصداع رأسي وفكري من طول السجالات والتحليلات .. أما مشاكله اليومية فلم يتغير منها شيء، ومعاناته الحياتية ربما ازدادت في غياب الأمن وانعدام الرقابة على الأسواق وطوفان الإضرابات والمظاهرات الفئوية.
وإذا ما حاول هذا الغلبان الامتعاض أو طرح سوء الأحوال أخبره أباطرة النخب الإعلامية بأننا في مرحلة انتقالية، وحكومتنا حكومة تصريف أعمال، وكل أيادي المسئولين مرتعشة لا تريد أن توقع على أي قرار، وأن عليه الصبر والانتظار، ثم يحكمون تخديرهم لهذا المواطن المسكين بإقناعه أن هذا طبيعي في كل الثورات على مستوى العالم.
معنى هذا أن على مريض الفشل الكلوي -مثلا- أن يصبر على معاناته في الحصول على نوبة الغسيل الأسبوعية، وضحايا لهيب فواتير الكهرباء والغاز والدواء الشهرية عليهم أن يصبروا قدوم الرخاء مع الرئيس الجديد المنتخب بعد ثلاث سنوات على أقل تقدير، أما رغيف الخبز الحكومي المقزز فسيتحسن، والمواصلات العامة سترتقي في خدماتها، وروتين المصالح الحكومية فسيكون أقل تعقيدا، والمدارس والجامعات فستصبح أكثر تحضرا .. كله في المستقبل، وكل الأحاديث عن الغد المشرق الذي لم يأتي يوما من الأيام، هذا الغد الذي حدثنا عنه كل فراعين مصر، وضاعت أعمارنا في انتظاره، وسط صخب الخطط الاقتصادية الخمسية والخصخصة وقروض البنك الدولي ومعونات الدول المانحة ....
والحديث عن الصبر لا يضير هذه النخبة الإعلامية في أدنى شيء، لأنها في بحبوحة من العيش، لا تأكل خبز الغلابة، وعندها سياراتها الفارهة، وعلاجهم في المستشفيات الخاصة، وأولادهم في جامعات أوروبا، بل إنهم يتقاضون عن كل حلقة تليفزيونية أو مقاله صحفية مبالغ ليست بالهينة ولا باليسيرة، فلماذا لا يتقنون فن الدجل الإعلامي ماداموا وجدوا في كنفه الشهرة والحظوة ورغد العيش.
في أحد حلقات برنامج (مصر الجديدة) على قناة المحور أدار المذيع حوار بين أحد شيوخ الأزهر الأجلاء ودكتور يمثل أحد أقطاب العلمانيين المصريين، ورغم اتفاق الجميع على النهج الديمقراطي واحترام إرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع، إلا أن الدكتور العلماني صرح باستثناء وحيد، وهو بشرط عدم وصول الإسلاميين لسدة الحكم حتى ولو كانت الانتخابات حرة ونزيهة!!!
وفي حلقة أخرى على قناة الجزيرة استضاف المذيع كاتب كبير مختص بالشؤون السياسية من زمن طويل يرجع إلى بدايات العهد الناصري، ومن غريب ما صرح به، أنه جلس مع قادة الإخوان وأسدى لهم نصحا بأن تكوين دولة إسلامية جنوب البحر الأبيض المتوسط (يعني منطقة الشرق الإسلامي) مرفوض تماما من المجتمع الغربي، ويعتبر خطا أحمر لا ينبغي تجاوزه إن كانوا يريدون إتقان اللعبة السياسية الدولية، وكأن سيادته لم يسمع عن التجربة التركية التي قامت على أسس إسلامية بعدما رفضها الغرب وهي غارقة في العلمانية، أو كأن جنابه لا يعلم شيئا عن البراعة الإيرانية في اختطاف الخبرة النووية من فم الغرب على غير رغبة منه، وتجاهل الخبير السياسي حماس ووقوفها في وجه الصلف الصهيوأمريكي، أو حرب تموز والتي قذف فيها حزب الله إسرائيل بوابل من صواريخ لم يقذفها أي زعيم عربي، ولا الزعماء العرب مجتمعين منذ نشوء القضية الفلسطينية.
لست من مروجي النهج الشيعي، ولكنها أحداث ومواقف لابد وأن تذكر أمام ثقافة الانهزامية التي تحدد ما هو مسموح وما هو غير مسموح وفقا لرغبات الغرب .. إنها نار الحقد الدفين من الإسلام القادر على رفعة هذه الأمة، وبيان عوار هؤلاء المثقفين من رضعاء ألبان الغرب العلماني.
إن النخب الحقيقة من أبناء الشعب المخلصين لا ينتمون إلى تلك الفئة المشبوهة التي لمعها الإعلام، ولم يستمدوا ريادتهم وقيادتهم من أمام الكاميرات، بل إنهم أبناء الجماهير، بين الجموع برق وبيص معدنهم الأصيل، فاستضاء به الملهوف والمنكوب والمحروم وذا الحاجة.
النخب الصادقة نخب الأعمال لا الشعارات، نخب المنابر في المساجد، ونخب مكاتب تحفيظ القرآن، ونخب مشاريع تيسير الزواج، ونخب الجمعيات والمستوصفات الخيرية، ونخب جمع التبرعات لرعاية الأيتام والأرامل والمعاقين، ونخب فض المنازعات وإصلاح ذات البين ...
نخب لا تفر من ساحات الوغى، وتسيل دمائها قبل دماء الدهماء، وتجوع بطونها قبل جوع المحرومين.. تستقي شمائلها من هدي سيد المرسلين، صلوات ربي وسلامه عليه، صلاة دائمة إلى يوم الدين، فعن أنس رضي الله عنه قال:  كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ [ تبين ] الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة، عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: (لم تراعوا لم تراعوا) [ لا تفزعوا ] ثم قال: (وجدناه بحرا) [ أي سريعا]. رواه البخاري
وعن علي رضي الله عنه قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
وعنه أيضا قال: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى العدو منه.
إن هذه النخب التي تولدت من رحم الجماهير قدمت للأمة نماذج فريدة في التضحية والفداء، والعمل والبناء، وهي نبراس هذه الأمة التي حق لكل أفرادها أن يدوروا في فلكهم مؤازرين ومؤيدين، ومسترشدين بآرائهم وخبراتهم في بناء أمة الخير والحق والعدل.

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com
  
     


     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق