السبت، 26 يوليو 2014

المسلم الرمضاني


المسلم الرمضاني له شأن في هذا الشهر الفضيل يختلف اختلافا تاما عن عموم الناس .. إنه يدرك أن رمضان محطة غنية بالمعاني والدروس والتوجيهات غنا ربما لا يتأتى لشهر آخر، لذلك فهو يستشعر نوعا من المسئولية الذاتية والمجتمعية تحمله على محمل الجد والتميز رغبة منه في الفوز بأكبر قدر من منح وعطايا هذا الموسم الإيماني السنوي، خاصة والأجواء مهيأة والهمم متطلعة والمساجد عامرة والشياطين مصفدة ورحمات الله لا تحصى ولا تعد .. من هنا كان للمسلم الرمضاني سمت فريد وبصمة متميزة، فهو يعيش أجواء هذا الشهر برؤية خاصة وهمة عجيبة ورغبة ملحة في أن يدرك ركب الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.   

·       المسلم الرمضاني: يتفاعل بشوق مع التغيرات الكونية التي تحدث في شهر الرحمات .. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ» .. وهذا الشوق ينبثق في دواخله حتى قبل أن يبدأ رمضان، فتجده كثيرا ما يدعو: (اللهم بلغنا رمضان) حتى إذا أهل الشهر الفضيل استقبله بهمة جديدة وعزيمة فريدة، فالصلوات تستغرق الأوقات، وختمات القرآن تتوالى، والأذكار تلهج بها الألسنة، والصدقات تُغدق على ذوي الحاجات .. فأوقاته من طاعة إلى طاعة، ومن قربة إلى قربة. لوم نفسه على التقصير أشد من لومها على جمع الجليل والحقير، ورحم الله الحسن البصري حيث يقول: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".
وهذا بعكس من يستثقل قدوم رمضان لأنه سيحرمه من السيجارة أو كوب الشاي أو القهوة الذي لا يغادر مكتبه، أو يحرمه من وجبات اعتاد عليها ومشروبات يرتوي بها .. فمن أخلد إلى الأرض لا يرى في رمضان سوى صداع الرأس من شدة الجوع والعطش، وحرمان النفس مما لذ وطاب، وتعكير المزاج بتلجيم الملذات. فهو يسير في أيامه بملل يحاول أن يقتله بالنوم تارة وبالمسلسلات تارة وباللعب تارة أخرى!!
قال الحسن البصري: "إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون". 
·       المسلم الرمضاني: خلوق أكثر من أي وقت مضى، وأكثر من أي شهر انقضى، شعاره «إني صائم، إني صائم» يتجلى في معاملاته ومناقشاته وحتى مجادلاته وخصوماته .. إنه يتصالح مع نفسه عندما يتمثل الصيام واقعا سلوكيا لا شكليا فقط .. فهو صاحب «الصوم النظيف» .. الصائم الكاظم لغيظه والعافي عن الناس والمنضوي في قائمة المحسنين، رغبة في رضا رب العالمين .. يمر باللغو مر الكرام، ويدع قول الزور والعمل به، ويبذل النصح لكل مسلم، صومه عن المحرمات قرين صومه عن المطعومات، يحدوه الأمل في قبول الغفار والعتق من النيران.
·       المسلم الرمضاني: يدرك جيدا أن رمضان شهر النصر، ويستشعر عبق بدر وفتح مكة وعين جالوت وغيرها من الأمجاد (185 انتصاراً وفتحاً غيرت مجرى التاريخ)، وإنما كان النصر الرمضاني فريدا لأن مدد الله في هذا الشهر فريدا أيضا، مع ما في رمضان من الصبر الذي هو قرين النصر، قال تعالى: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] ورمضان شهر الإرادة التي هي عامل قوي في حسم الحروب والمواقف، والصوم سبيل التقوى التي هي مفتاح محبة الله ومعيته وولايته ونصره وتأييده، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] ولذلك تجد المسلم الرمضاني في هذا الشهر يسعى للنصر سعيا حثيثا، نصرا على النفس والهوى والملذات والشهوات، ونصرا على الكسل والفتور والسلبية، ونصرا على رتابة الأحداث وملل الروتين اليومي، ونصرا يجعله -إن شاء الله- في مصاف عتقاء الله من النار في هذا الشهر الكريم.      
·       المسلم الرمضاني: إيجابي يحمل هم أمته، ويعايش بواقعية وحركية قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكــــــم تتقــــــــون} [البقرة:183] وتحقيق التقوى بالتزام أوامر الدين وواجباته، ومنها «واجب الدعوة» الذي تزداد أهميته ووجوبه في مثل هذا العصر الذي بعدت فيه الأمة عن جادتها وكثرت جراحها وأنات ضعفائها من كثرة هزائمها وإخفاقاتها، ولعبت فيه الآلة الإعلامية الفاسدة بعقول أبنائها، فتوجب على المستشعرين لهذه المسئولية الجسيمة عدم التواني في تعبيد الخلق لرب الخلق، ولم شعث الأمة، وتوجيه طالب الحق إلى معالم الصراط المستقيم، ودحض شبهات الأفاقين وتلبيسات الأفاكين.
والتاريخ يشهد والتجربة تحكي أنه يوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى، جمعهم اللهُ بعد فرقة، وأعزهم بعد ذلة، وفُتحت لهم البلاد، ومُصرت لهم الأمصار .. كل ذلك تحقيقا لـموعودِ الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]
المسلم الرمضاني: يعي حجم التحدي الذي يواجه هذه الأمة من غزو فكري يعلي قيمة المادة على الروح، ويعطى فيها الأولويةُ للمحسوس على المعنوي، وللمباشر على غير المباشر، وللآني على الآجل، وللقوة على الرحمة، وللمتغير على الثابت .. إنها مفاهيم وقيم من ينظر تحت قدميه، ولا يدرك رسالة المرء الممتدة إلى حياة تكافلية وأبدية، وهو وضع خطير من شأنه أن يؤجج الغرائز ويهمش الفضائل ويحول المجتمع إلى غابة رعناء لا يرحم القوي فيها الضعيف، لذلك فرمضان للمسلم طاقة روحية تعبدية، ينعم فيه المؤمن بكل فضيلة ويحيد عن كل رذيلة، رضا الله في السر والعلن غايته، وطمأنينة نفسه أمنيته، والتراحم مع العالم رسالته.
ففي رمضان يجد المسلم الغذاء الروحي الذي تحيى به نفسه الصافية «شهر القلوب الرقيقة»، فهو القائم والراكع والساجد والقانت والمتضرع، وهو الداعي بكل خير، المتصدق بكل ما قدرت عليه طاقته، الناصح بكل ما جادت به قريحته، رجل التراويح وليلة القدر وتلاوة القرآن والتضرع بين يدي الرحمن .. فرمضان مدرسته الإيمانية والتربوية والسلوكية، يغتنم أيامها ولياليها قبل أن تحل الزفرات، وتبدأ الآهات، وتشتد السكرات.
المسلم الرمضاني: جواد باقتدار، فرمضان بالنسبة له موسم المتصدقين وشهر الباذلين، وقدوته في ذلك أكرم الخلق وأجودهم صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة كما في الصحيحين.
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
ولذلك حرص السلف رحمهم الله على زيادة البذل والإنفاق وخصوصاً تفطير الصائمين، وكان كثير منهم يواسون بإفطارهم وربما آثروا به على أنفسهم، فكان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً، وكان يتصدق بالسكر ويقول: "سمعت الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:92]، والله يعلم أني أحب السكر"، وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه الإمام رغيفين كان يعدهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائماً.
إن هذه الأمة فريدة في إيمانها وعقيدتها وتعاليمها، ولقد أثرت عنها مواقف باهرة في التراحم وإغاثة المحتاج ونجدة الملهوف، حتى باتت قناعة راسخة على قمة هرم «فقه الأولويات» .. خرج عبد الله بن المبارك رحمه الله مرةً إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائرٌ معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابُه أمامه، وتخلَّف هو وراءهم. فلما مرَّ بالمزبلة إذا جاريةٌ قد خَرَجَت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، ثم لَفَّتْهُ، ثم أسرعت به إلى الدار، فَتَبِعَها، وجاء إليها فسألها عن أمرِها، وأخذِها الميتة ؟!. فقالت: أنا وأخي هنا، ليس لنا شيءٌ إلا هذا الإزار، وليس لنا قُوتٌ إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وقد حلَّت لنا المَيْتَةُ منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظُلِم، وأُخِذَ مالُه وقُتِل!!.
فأمر ابن المبارك بِرَدِّ أحمال القافلة، وقال لوكيله الذي معه المال: كم معك من النفقة؟. قال: ألف دينار.  فقال ابن المبارك: عُدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا للرجوع إلى مَرْو (بلدته)، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا هذا العام، ثم رجع.

 

         د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com



الصوم وأسس التربية الغذائية والصحية



«إنه شهر معظم وليس شهر الأكل» .. تلك كانت أبرز شعارات اختصاصي التغذية في بداية حديثهم عن ثقافة التغذية الرمضانية، بعدما هالهم تزايد أنماط استهلاك الأطعمة في رمضان بصورة مفرطة مع ارتفاع معدلات زيادة الوزن ومشاكل الكولسترول وتدهن الكبد وغيرها من الأزمات الصحية الموازية كخشونة المفاصل والسكري وانتهاء بالجلطات وحالات بتر القدم السكري.
لقد تغيرت عاداتنا الغذائية خلال هذا الشهر الكريم عن عادات الأجداد والأسلاف، حتى باتت النحافة أمنية غالية وعزيزة للكثيرين منا، وباتت أجسامنا ذاتها ثقيلة في العبادة التي هي مقصود الشهر وهدفه الأعظم، ففاتنا الكثير من الرحمات فضلا عن خسارة الكثير من رصيدنا الصحي، الأمر الذي يتطلب منا وقفة جادة لننعم بالعبادة الرمضانية ونخرج منه بمغفرة وحيوية تضاف إلى رصيدنا الإيماني والصحي، والمؤمن القوى خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف.

·     البداية لابد أن تكون من الرفض التام لوجبات التباهي والمفاخرة التي نعدها للأهل والأحباب خلال الضيافات الرمضانية العامرة بصنوف الأطعمة التي تحتاج إلى قبلية لتأكلها لا إلى بضعة أشخاص، وغير خفي على أحد استهجان الإسلام للتبذير والمبذرين وللرياء والمرائين، وأن من شكر النعم الحفاظ عليها لا الإفراط فيها حتى تؤول إلى صناديق القمامة، والمحك الحقيقي في هذا الأمر هو تقديم رؤية الخالق على رؤية الخلق، وفي الحديث النبوي الشريف "من فطر صائما فله مثل أجره" وليس من أتخم صائما.
جدير بالذكر أن معدة الإنسان العادي تسع 250 سم3 فقط، وأن جدار المعدة قابل للاتساع والتمدد  نتيجة التخمة إلى ما يقرب من 2500 سم3. فحجم المعدة الطبيعي لا يزيد على حجم قبضة اليد، وتظل متمركزة تحت عظمة القص أسفل الصدر وأعلى البطن، ولكن حجمها عند النهم الأكول أضعاف ذلك، حتى إنّها تسقط من مكانها المعتاد وتقع في تجويف البطن والحوض، لترتكز على عظامه فيما يعرف بالكرش القبيح المنظر.
·     الأطعمة السكرية (التمر، العصائر الطازجة ..) من أفضل ما يقدم في بداية الإفطار حيث أنها تروي العطش وتمد الجسم باحتياجاته الملحة من السكريات البسيطة وتنبه الجهاز الهضمي ولا تسبب ربكة المعدة مقارنة بالوجبات الدسمة الثقيلة، ويمكن أيضا تناول الماء الغير مثلج، أو تقديم الشوربات الدافئة، ولكن بدون قطع الدجاج أو اللحم أو بهارات أو صلصات زائدة عن الحد.
ومن الفوائد الإضافية لهذه الأطعمة أنها تبعث على الشبع وتقلل من الشهية النهمة لما لذ وطاب على موائدنا الرمضانية، مما يعني المضغ الجيد، وتجنب: التخمة وعسر الهضم والنعاس والثقل بعد وجبة الإفطار.
علما بأن من علامات اضطراب المعدة وانخفاض كمية الأحماض المعدية الهاضمة: الشعور بالامتلاء السريع بعد الأكل، انتفاخ، غازات زائدة، عسر هضم، حساسية الطعام، وجود طعام غير مهضوم بالبراز، وتقشر أو تكسر في أظافر اليد.
·     شوربة العدس من ألذ الشوربات المقدمة قبل وجبة الإفطار، وهي مفيدة ومغذية، وتتميز بقيمتها الغذائية العالية، حيث يحتوي الكوب الواحد من العدس على 35% من احتياجاتنا اليومية من الحديد، كما أنها قليلة في سعراتها الحرارية، وتهيئ الجسم للاستعداد لوجبة الطعام الرئيسية بالتدرج، وتعمل على الشعور بالشبع لفترات طويلة.
وعلى الجانب الآخر فالعدس مزعج لأمراض المصران الأعور، والحساسية، لأنه يحدث غازات بداخل الأمعاء، ويفضل عدم تناوله لهؤلاء المرضى، على أن القليل منه على فترات متقطعة يمكن أن يخفف من التأثير السيئ له على الأجهزة الهضمية عندهم، وكذلك يبتعد عنه أصحاب أمراض المياه الزرقاء.
·     «نوع واحد من البروتين يكفي» .. وجبة الإفطار الرئيسية ينبغي أن تقتصر على نوع واحد من البروتين سواء سمك أو لحوم أو طيور منزوعة الدهن .. فالبروتين الحيواني ليس هو كل القضية التغذوية كما يعتقد البعض، بل هو واحد من منظومة غذائية يحتاجها الجسم بصورة شمولية، لا يغني فيها عامل عن آخر، والجسم يحتاج فقط إلى 18 جم من البروتين يوميا، والكمية الزائدة يتخلص منها ولا يستطيع تخزينها.
·     طبق السلطة الخضراء بعصير الليمون وبدون إضافة الخل أو المايونيز، هو صديق الجهاز الهضمي والجسم لغناه البالغ بالفيتامينات والأملاح الضرورية، وهو بديل آمن ومقبل جيد بدلا من المخللات الغنية بالملح المسبب لمشاكل الضغط والكليتين. لكن ينبغي تحضير السلطات قبل موعد الإفطار بوقت قليل، وتقطيع الخضراوات لأجزاء كبيرة، وغسلها بالماء الجاري وعدم نقعها في الماء لفترات طويلة.
·     الاعتدال في تناول الأطباق الرمضانية يجنبنا الكثير من مشاكل الحموضة والقولون واضطراب مستوى السكر وغيرها من مظاهر معاناة الجهاز الهضمي خاصة والجسم عامة، ويكفي أن نعرف أن الأطباق الرمضانية (الخشاف والقطايف والكنافة الغنية بالمكسرات ..) تجمع بين محتواها العالي من السعرات الحرارية والطعم اللذيذ الذي لا يقاوم خاصة مع جوع الصيام، لذلك نحن نحتاج في التعامل معها إلى سياسة الترشيد والتنظيم.
·     من خصائص ثمار «المشمش» أن قيمتها الغذائية تتضاعف حتى في حالة أكلها مجففة (مشمشية) أو شربها كعصير (قمر الدين) الشهير الذي ترتبط به الموائد الرمضانية، فالمشمش يحتوي على عناصر تعمل على تسكين العطش وإمداد الجسم بما يفقده من معادن أثناء فترة الصيام، وثمرة المشمش المجففة تحتوي على حوالي 20% من حاجة الإنسان من فيتاميني «أ» و «ج», وهو مخزن لعنصر الحديد، ويوصف للمصابين بفقر الدم، وقد أثبتت الدراسات أن نسبة الحديد الموجودة فيه تعادل تلك الموجودة في كبد العجل. والمشمش يوصف للأشخاص الذين يبذلون مجهودا ذهنيا لاحتوائه على عناصر مهمة للمخ منها الفسفور والماغنسيوم، ولأن قيمته الغذائية عالية وسعراته منخفضة فهو ملائم لمتبعي الحمية الغذائية وأيضا الرياضيين.
وينبغي أن: يشرب عصير قمر الدين قبل الإفطار أو السحور وليس بعده. تناول بعض حبات من المشمشية قبل الإفطار يساعد على تنظيف القولون وتهيئته لاستقبال الطعام لاحتوائها على نسبة عالية من الألياف. في حالة تناول قمر الدين مطبوخا أو كمهلبية يكون بعد تناول الطعام بساعتين على الأقل أو تناوله كوجبة خفيفة في السحور. مرضى السكري لا يوجد تحذير لهم من تناول قمر الدين عصيرا أو مطبوخا ولكن من دون إضافة سكر، ويمكن استخدام بدائل التحلية الصناعية.
·     تجنب قدر المستطاع الزبد والشحوم الحيوانية واللحوم المصنعة والمدخنة (اللانشون، الهامبرجر ..) والأطعمة المقلية (بطاطس، سمك مقلي، سمبوسة ..) والتي تحتاج لكمية كبيرة من الماء أثناء هضمها مما يسبب الشعور الشديد بالعطش، أيضا من المهم تجنب السكريات الصناعية (الشكولاتة، المربى، المشروبات الغازية ..) فليس كل ما هو سائل يروي الجسم، وليس كل ما ينعش الفم ينعش البدن. ومن الأفضل استخدام زيت الزيتون كمصدر دهني آمن، علما بأنه تقل فائدته بالطبخ، ولذلك يفضل إضافته إلى الغذاء بعد الطبخ أو للسلطات.
·     إدمان المشروبات المنبهة (الشاي والقهوة والكولا) إضافة إلى التدخين، من أهم أسباب تفاقم الصداع أثناء فترات الصوم، فضلا عن أعراض التوتر والقلق والأرق، لذلك يجب الحرص على تقليل معدل تناول هذه المشروبات قبل شهر الصوم بوقت كاف، مع زيادة الفترات بين تناولها، وتجنب تناول تلك المشروبات في الصباح واستبدالها بحبات الفاكهة الطازجة (غير ذابلة) أو بكوب من عصير الفاكهة الطبيعية غير المحلاة، وحذار من بدء الإفطار بشرب سيجارة أو تناول شاي أو قهوة لما في ذلك من إثارة للحامض المعدي بشكل مؤذ يزيد من معاناتها وإصابتها بالقرح.
·     الأجبان الطازجة أفضل بكثير من الأجبان المطبوخة (الرومي والفلمنك والشيدر ..)، والبيض المسلوق أفضل من المقلي لسهولة هضمه، فضلا عن اللبن الزبادي أو الرائب، والفول المدمس مع زيت الزيتون والليمون .. كلها برفقة الخضروات الغنية بالماء كالخس والطماطم والخيار ومع الخبز الكامل (خبز الردة) من أفضل وجبات السحور الذي ينبغي أن يكون قبل أذان الفجر بوقت كاف لا يقل عن ساعة.

وأخيرا أثبتت الدراسات الطبية أن صوم رمضان بدون خمول وكسل وأكل بإسراف يخلص الجسم من قرابة عشرة كيلو جرامات من الشحوم والدهون التي تتراكم بداخله وتؤثر على الوظائف الحيوية للأعضاء والأنسجة.
فإنزيم «إذابة الدهون» لا يتم إفرازه إلا حينما يتوقف الإنسان عن الأكل لفترة تصل إلى 12 ساعة متواصلة مع تجنب الوجبات الدسمة عند العودة للأكل، وهذا الإنزيم يذيب الشحوم المتراكمة على الكبد والكليتين خاصة، وهي نفس الطريقة الموجودة لدى الجمل الذي يستطيع الاستفادة من دهون السنام لعدة أيام بعد أن يفرز هذا الأنزيم فيحولها إلى طاقة.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com




ما أحلى الدعاء في رمضان



شهر رمضان شهر الدعاء والتضرع بامتياز لاسيما وأبواب الجنان مفتحة وأبواب النيران موصدة والشياطين مصفدة ومنح الرحمن تتنزل على الصائمين، والأجواء عامرة بالطائعين والخاشعين، والقرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار، وأيادي أهل الخير تعم المساكين والمحتاجين.
قال الربيع: إنّ اللّه تعالى قضى على نفسه أنّ من آمن به هداهُ، ومن توكل عليه كفاهُ، ومن أقرضهُ جازاهُ، ومن وثق به نجّاه، ومن دعاهُ أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } [التغابن:17] {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]
وإذا سألك عبادي عني
قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وهذه الآية نزلت في وسط آيات الصيام إشارة إلى أن الدعاء في هذا الشهر من أجل العبادات، وأن الصائمين المتضرعين أرجى للقبول والحظوة عند الرب الغفور.
قال أبو حيان: ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] طلب تكبيره وشكره، بيَّن أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبته، تنبيهاً على أن يكون ولابد مسبوقاً بالثناء الجميل. (1) والمقصود أنه تعالى ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء. وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم التيمي قال: كان يقال: (إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على رجاء).
وقال البيضاوي: اعلم أنه تعالى، لما أمرهم بصوم الشهر، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقَّبه بهذه الآية الدالّة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيداً وحثّاً عليه. (2)
وقال ابن عاشور: نظم الآية مؤذنا بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقهم علي فإني قريب منهم أجيب دعوتهم، وجعل هذا الخير مرتبا على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا: هل لنا جزاء على ذلك? وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك أدبا مع الله تعالى فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ ..}.
ثم قال رحمه الله: وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.
والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عبادة غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان، لأن الخبر لا يقتضي العموم، ولا يقال: إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربطا للدعاء بالإجابة، لأنه لم يقل: إن دعوني أجبتهم. (3)
«إنها آية عجيبة .. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين .. ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين.
وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية .. يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح. {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. (4)
يوم بدر والدعاء
كانت غزوة بدر في شهر رمضان يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة، حيث أعطي النبي -صلى الله عليه وسلم- النصر في الليلة السابقة منها وفي يومها قبل أن تبدأ المعركة، وذلك عندما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلي طوال الليل، كما يروي علي رضي الله عنه قال: (ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم تحت شجرة يصلي ويبكي، ويتضرع إلى الله عز وجل).
ومن شدة دعائه واستغاثته يشفق عليه صاحبه الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ويلتزمه من خلفه، ويضع رداءه الذي سقط عنه من شدة رفع يديه في الدعا، يقول: (يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، فإن ربك منجز لك ما وعدك).
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ ردائه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] فأمده الله بالملائكة.
قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: (أقدم حيزوم) إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة» فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
دعاء المتضرعين
- التغني هو تحسين الصوت بالقراءة، وقد جاء الأمر به عند تلاوة القرآن في أحاديث عديدة، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس مِنَّا من لم يتغن بالقرآن» (5) وعلة ذلك أن التغني وتحسين الصوت والترنم في القراءة من أسباب الإقبال عليها والإنصات لها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب وإجراء الدمع". (6)
وأما التغني بالقراءة في غير تلاوة القرآن الكريم كدعاء القنوت ونحو ذلك، فرأى كثير من أهل العلم أنه لا بأس به؛ إذ مقصود التحسين حضور القلب وتأثره، ولكن ينبغي أن يكون ذلك التغني والتحسين بدون مبالغة مفرطة، أو جعله مما يشتبه بالقرآن، حتى يلتبس على السامع، هل هو قرآن أو غيره؟، كتعمد التجويد من إدغام وإخفاء ومدود حتى يظن الظان أن الداعي يتلوا آيات من الكتاب العزيز، وما هو من الكتاب، ويزداد الطين بله إذا ضمن دعاءه آياتٍ من كلام الله بحيث يعسر على العوام التفريق بينهما.
وأما كون التغني المعتدل بالدعاء لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، فالتعليل به للمنع لا يستقيم من كل وجه؛ لأن عدم النقل ليس نقلا للعدم.
- يتأكد على الإمام عدم المبالغة في رفع صوته في الدعاء، حتى يصل –أحياناً- إلى حد الصياح والصراخ المذهب للخشوع والمجلب للرياء، وربما رافقه بكاء ونحيب لتهيج مشاعر الناس. قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، فسمَّى الله سبحانه وتعالى رفع الصوت في الدعاء إعتداء، وفي الحديث: «اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّاً ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً» (7)
وقد كان -صلى الله عليه وسلم - يكتم بكاءه في صدره حتى يصبح له أزيز كأزيز المرجل [أي كغلي القدر]، قال ابن القيم: "وأما بكاؤه -صلى الله عليه وسلم- فكان من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت"، ولم يشعر ابن مسعود -رضي الله عنه- ببكائه -صلى الله عليه وسلم- لما قرأ عليه بعضا من سورة النساء، إلا بعد أن نظر إليه فوجد عينيه تذرفان، والقصة في صحيح البخاري، فمدافعة البكاء إتباعٌ للسنة ومدعاة للإخلاص.
- من التكلف في الدعاء: الإطالة المفرطة والمبالغة في السجع، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: "فانظر السجع من الدعاء، فاجتنبه فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب".
أيضا ورد النهي عن التفصيل المخل، روى أبو داود من حديث أبي نعامة عن ابن لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: (سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا. فقال: يا بني، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء» فإياك أن تكون منهم، إنك إن اعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر) (8) وعن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني، سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يكون قوم يعتدون في الدعاء», فسمى التفصيل في الدعاء اعتداءً.
وبالجملة فقد قال التوربشتي: الاعتداء في الدعاء يكون في وجوه كثيرة، والأصل فيه أن يتجاوز عن مواقف الافتقار إلى بساط الانبساط أو يميل إلى حد شقي الإفراط والتفريط في خاصة نفسه وفي غيره إذا دعا له وعليه.
الهوامش
(1)             البحر المحيط: 2/221
(2)             تفسير البيضاوي: 1/221
(3)             التحرير والتنوير، ابن عاشور: 2/176
(4)             في ظلال القرآن: 1/146
(5)             رواه البخاري (7525) من حديث الزهري عن أبي سلمة.
(6)             فتح الباري (9/72)
(7)             رواه البخاري ومسلم.
(8)             حسنه الحافظ ابن حجر.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


رمضان ربيع الطاعات


«رمضان» .. استراحة نفسية نتخفف فيها من أعبائنا وهمومنا وأحزاننا، ومنحة سماوية نفارق فيها صنوف الرتابة والملل التي غشت أيامنا، وتنطلق فيها الروح في أجواء إيمانية، وثورة نورانية نتعايش فيها أكثر مع القرآن والقيام والبر والإحسان.
«رمضان» .. ساحة السكينة، ومأوى الفضيلة، وطارد الرذيلة، ومحضن كل الأشياء الجميلة، حتى أن خلوف فم الصائم يستحيل جمالا وروعة وبهاء، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» [متفق عليه]
«رمضان» .. كم من جوائز تُذكر، ومنح ربانية لا تُنكر، ونفحات لا تُجحد .. على عملنا اليسير، وجهدنا القليل، وجسدنا النحيل .. فتبارك العلي القدير الذي وعد ووفى، وأعطى فأجزل، وغفر ورحم، ووهب في هذا الشهر الجليل رحماته للمؤمنين، وأعتقهم من مهاوي الجحيم.
قال ابن القيم: الطاعة حصن الرب تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين، فإذا فارق الحصن اجترئ عليه قطاع الطريق وغيرهم، وعلى حسب اجترائه على معاصي الله يكون اجتراء هذه الآفات والنفوس عليه، وليس شيء يرد عنه، فإن ذكر الله وطاعته والصدقة وإرشاد الجاهل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقاية ترد عن العبد، بمنزلة القوة التي ترد المرض وتقاومه، فإذا سقطت القوة غلب وارد المرض وكان الهلاك، ولابد للعبد من شيء يرد عنه فإن موجب السيئات والحسنات يتدافع ويكون الحكم للغالب كما تقدم، وكلما قوى جانب الحسنات كان الرد أقوي. [الجواب الكافي]
وعن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-: أن رجلين من بلي قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إسلامهما جميعاً، فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فَأَذِن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدثوه الحديث فقال: «من أي ذلك تعجبون» فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكث هذا بعده سنة» قالوا: بلى، قال: «وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة» قالوا: بلى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض» [رواه ابن ماجة].
والصوم تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: الصبر على ألم الجوع والعطش، والصبر على المعاصي، والصبر على الطاعات.
والصبر كله خير وكله ضياء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر» [رواه الحاكم]،  وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أفضل عيش أدركناه بالصبر". 
والصدقة في شهر رمضان شأنها أعظم وآكد ولها مزية على غيرها، وذلك لشرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه، ولأن فيها إعانة للصائمين المحتاجين على طاعاتهم، ولذلك استحق المعين لهم مثل أجرهم، فمن فطر صائماً كان له مثل أجره، ولأن الله عز وجل يجود على عباده في هذا الشهر بالرحمة والمغفرة، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل، والصوم لابد أن يقع فيه خلل أو نقص، والصدقة تجبر النقص والخلل، ولهذا أوجب الله في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، ولأن هناك علاقة خاصة بين الصيام والصدقة فالجمع بينهما من موجبات الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفا، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها؛ أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» [رواه أحمد].
 وقد تقرر بالاستقراء عند العلماء أن الأوقات الفاضـلة والأزمان المباركة أواخرها أفضل من أوائلها, فيوم الجمعة أعظم أيام الأسبوع, لكن أبرك ساعاته وأرجاه قبولاً للدعاء فيه آخر ساعة منه، وأفضل الليل ثلثه الآخر, والسحر وهو السدس الآخر من الليل منَّوهٌ بشأنه, وهكذا فليس رمضان ببدع في ذلك, فرمضان موسم إلا أن عشره الأخيرة هي صفوة الشهر, والعبرة بالخواتيم.
 وهذه العشر خاتمة الشهر ودرَّته, ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها, فكان يشوب العشرين بمنام وقيام, وأما هذه الليالي فيحييها كلها صلاة وتلاوة وذكراً, وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. [رواه مسلم].
وتصف أم المؤمنين عائشة حاله –صلى الله عليه وسلم- فتقول: كان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. ومن دقيق عنايته بها انـقطاعه فيها عن دنيا الناس للاعتكاف, فمذ هاجر إلى المدينة إلى أن توفاه الله سبحانه ما ترك الاعتكاف, بل لتأكد هذه السنة قضاها في شوال لما لم يعتكف سنة في رمضان.
أكرم برمضان ربيع الطائعين وموئل المخبتين وجنة العابدين .. محط الرحمات، ومظنة العتق من الأصفاد، والتطهر من الأدران، فاللهم تقبل منا رمضان، واكتب لنا فيه مغفرة لا نشقى بعدها أبدا.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

                                                          

السبت، 19 يوليو 2014

رمضان وسط أجواء سياسية ساخنة



يهل علينا رمضان هذا العام وسط توترات سياسية في منطقتنا العربية تعكر صفو النفس ،وتشغل الفكر، الأمر الذي يلقي بظلاله السيئة على متعة التنعم بالعبادة في هذا الشهر الكريم، فلا شك أن صفاء النفس وهدوء البال يستجلب الخشوع ويستحضر التضرع الذي هو لب العبادة ومقصودها الأعظم، لكن فداحة الخطوب التي تمر بها أمتنا أمرا ليس بالهين على كل صادق في إسلامه وسام في إيمانه من أبناء هذه الأمة المباركة.
يعز علينا أن نطالع شريط الأخبار اليومي فنجد عالما أشبه بالمستقر، ومنطقتنا العربية تغلي مراجلها بين دماء تسيل، وأشلاء تتناثر، وأبرياء تتهاوى، وصراعات سياسية طاحنة، ودعوات ماجنة بالسحق والاستئصال والإبادة، ومما يزيد الجرح ألما تضليل النخب الإعلامية، وتناثر الفتاوى الشيطانية، واختلاط الحابل بالنابل فصار لا يعرف حق من باطل ولا صالح من فاسد.
لمجرد خصام سياسي لا يتورع مشايخ في إجازة استئصال المعارضين بالقتل، الأمر الذي ينسحب بعده على هتك العرض، والتكدس في زنازين غير آدمية، والتوسع في تكميم الأفواه بغلق كل القنوات الإعلامية المعارضة والتي لا تسبح بحمد النظام.
شعب سوريا يقذف بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية التي حرم منها أعداء الأمة على مدى تاريخها المعاصر، وشعب آخر محاصر في غزة من الصهاينة منذ سنوات عديدة، وطائفية تغتال بلاد الرافدين، وديمقراطية بمصر كفر بها الليبراليون لمجرد فوز الإسلاميون بها، وليبيا وتونس واليمن تشق طريقها للاستقرار بشق الأنفس.
ومما يندى له الجبين تعليق أحد الصحفيين العرب على قصف إسرائيل لغزة في هذا الشهر الفضيل بقوله: "اللهم زد وبارك"!! .. وآخر يصف جماعة الإخوان المسلمين بأنهم خوارج العصر، وصار التخابر مع حماس جريمة تهدد أمن الأوطان، وملصق "هل صليت على النبي اليوم؟" مستفز.
ومن المضحك المبكي صدور قرار رسمي من وزارة الأوقاف المصرية بعدم الدعاء على الظالمين في صلاة التراويح!! والدعاية الإعلامية للدراما في رمضان تحت شعار «المسلسلات الرمضانية» فنسبوها لرمضان لكي يعلو كعبها ويشرف قدرها على ما فيها من مجون وعري.
بل إن جرح الأمة الواحد سواء في سورية أو مصر أو العراق أو غزة .. بات محل اعتراض بعض المحسوبين على النخبة المثقفة!!، وكأنه لم يسمع عن حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ‌[متفق عليه] وكأنه لم يعلم برمضان لحمة المسلمين في أقطاب الأرض حيث يشعر الغني بجوع الفقير ويغدق أصحاب اليسار على إخوانهم المعوذين. وحدث عن الحج ذاك المؤتمر السنوي الذي يضم مسلمين من كافة الأطياف شعارهم واحد «لبيك اللهم لبيك»، وأين الولاء والبراء الذي هو من أساس عقيدة المسلم، وقد صح في الحديث: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) [رواه أبو داوود]
ماذا دهاك يا أمتي حتى صرت إلى ما أنت فيه؟!
أين عقلائك الذين يردون الناس إلى الحق ردا جميلا؟
وأين علماؤك الذين لا يخشون في الله لومة لائم؟
وأين رجالك المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه، فمنهم من قضى نَحبهُ، ومنهم من ينتظرُ، وما بدَّلُوا تبديلا.
تغير رمضان لما تغيرنا، ولن تستقيم لنا لذة العبادة فيه حتى تستقيم أنفسنا، لكن يبقى الرجاء في الله كبير أن يكشف الغمة ويمحو المحنة ويفغر لنا تقصيرنا ويرحم ضعفنا ويتولى أمرتا، إنه ملي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونهم الوكيل.

 د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com