الخميس، 26 فبراير 2015

المواقف المحرجة



من الحكايات الطريفة التي تروى عن العالم (ألبرت آينشتاين) صاحب النظرية النسبية أنه سئم تقديم المحاضرات بعد أن تكاثرت عليه الدعوات من الجامعات والمعاهد العلمية .. وذات يوم وبينما كان في طريقه إلى محاضرة، قال له سائق سيارته: أعلم يا سيدي أنك مللت تقديم المحاضرات وتلقي الأسئلة، فما قولك في أن أنوب عنك في محاضرة اليوم، خاصة أن شعري منكوش ومنتف مثل شعرك، وبيني وبينك شبه ليس بالبعيد، ولأنني استمعت إلى العشرات من محاضراتك فإن لدي فكرة لا بأس بها عن النظرية النسبية.
أعجب آينشتاين بالفكرة وتبادلا الملابس، فوصلا إلى قاعة المحاضرة حيث وقف السائق على المنصة وجلس العالم العبقري الذي كان يرتدي زيي السائق في الصفوف الخلفية، وسارت المحاضرة على ما يرام إلى أن وقف بروفيسور متنطع وطرح سؤالا من الوزن الثقيل وهو يحس بأنه سيحرج به آينشتاين، هنا ابتسم السائق وقال للبروفيسور: سؤالك هذا ساذج إلى درجة أنني سأكلف سائقي الذي يجلس في الصفوف الخلفية بالرد عليه .. وبالطبع فقد قدم «السائق» ردا جعل البروفيسور يتضاءل خجلاً.

إن كثيرا من الموقف المحرجة تحتاج فقط إلى بساطة في التفكير وبديهة حاضرة بلا تشنج ولا توتر فنخرج منها بأفضل حال وأجمل مآل.
المواقف المحرجة نوعان: نوع تفرضه الظروف علينا، كأن تفقد حافظة نقودك في السفر حيث الغربة وغياب الأهل والمعارف، أو تنقطع ملابسك فجأة أثناء سيرك في الطريق .. ونوع آخر نابع من سوء تقدير من الآخرين، كأن تسأل أحدهم عن أحواله فيرد: (وما شأنك أنت؟!) أو تعرض على أحدهم مساعدة فيتجاهلك ويتركك ويمضي.
والمواقف المحرجة كثيرة، ولابد أن نتوقع حدوثها وبصورة مفاجئة، ولأنها محرجة فقد تقود إلى الارتباك والتوتر وربما الغضب .. والغضب إن لم نسيطر عليه يقودنا حتما إلى سلوك غير مقبول، أو يؤدي إلى نتائج كارثية.
ولأن الغضب يدفعنا إلى أعمال قد ٍنندم عليها فيما بعد، ولأن التخلص نهائيا من المواقف المحرجة غير وارد، كما أن الانضباط خلالها لا يمكن تحققه بنسبة (100%) .. وبالتالي فإن المرء بحاجة إلى التدريب على كيفية السيطرة على هذه المواقف، والتصرف خلالها ببراعة، وعدم التسرع في رد الفعل واتخاذ قرارات إلا بعد هدوء بركان التوتر والارتباك.
أيضا لابد أن نفرق بين القدرة على حل سريع يخلصنا من الموقف المحرج، وبين حل جذري يعالج عدم تكرر هذا الموقف من قبل الآخرين، فإذا تعامل الأب – مثلاً - مع الابن المستفز وغير المنضبط بالسب والشتم والعقاب فإنه بهذا الأسلوب يحاول التخلص من الموقف المحرج الذي سببه الابن، لكنه سيكتشف فيما بعد أن المشكلة مستمرة، وأن أفضل طريقة لمنع تكرارها هو العلاج التربوي والسلوكي .. وهذا ينطبق على كافة المواقف التي نمر بها في حياتنا اليومية، في المدرسة والبيت ومكان العمل.
ويقدم علماء النفس العديد من الإرشادات المهمة التي تنفعنا كثيرا خلال المواقف المحرجة التي تمر بنا: 
·   الحكمة والاتزان: بمعنى ألا تنفعل، واحرص على هدوء أعصابك، وفكر برويه للخروج من هذا المأزق، وإن عجزت عن الخروج فحول الموقف المحرج إلى نكتة أو طرفة.
·   ربما يحدث بعض الارتباك لك، ولكن حاول بقدر الإمكان ألا تظهره للغير، وقم بتهوين الموقف المحرج وتحجيمه وتهميشه وعدم تضخيمه، وأظهر ذلك لمن حولك إما بقولك أو بفعلك.
·       اخرج من الموضوع بلباقة إلى موضوع أقرب له ولكنه مختلف السياق.
·   إذا استطعت أن تقلب الموقف المحرج على مسببه فافعل، فمثلاً: إذا تعمد أحد الرفاق إحراجك بسؤال لا تعرف الإجابة عنه، فاطلب منه أن يجيب هو عن هذا السؤال، أو أن يبحث عن الإجابة ويذكرها للحضور في اليوم التالي.
·   احرص على الخروج من الإحراج بذكاء وخفه .. عند الفشل -مثلا- في تذكر شخص ما قابلك. ابدأ بمصافحته ذاكرا اسمك وبياناتك الشخصية، عندها لن يجد الآخر مفرا من ذكر اسمه. وفي حالة تذكرك للشخص مع نسيان اسمه يمكنك التحدث عن موضوعات عامة دون ذكر أسماء، فربما تتذكره بعد القليل من الاسترسال في الكلام معه .. هذه الطرق أفضل بكثير من تقديم وابل من الاعتذارات عن ضعف الذاكرة أو مشاغل الحياة التي قلبت موازين أمورنا .. وغيرها من الحجج التي قد لا تكون مناسبة. أيضا قد تجد من يحييك داعيا إياك بغير اسمك، وفي هذه الحالة يكون أفضل تصرف هو أن تمد يدك إليه لمصافحته ذاكرا سمك، وبهذا تضرب عصفورين بحجر واحد، منها أنك ترد على تحيته، والثاني أنك تساعده على تذكر اسمك بطريقة دبلوماسية مجنبا إياه الحرج.
·   تجنب التبرير المسهب للموقف المحرج، واحرص على المرور بالموقف مروراً سريعاً وذلك لئلا تحرج نفسك كثيراً، وكذلك لكي لا تزيد من رسوخ هذا الموقف في أذهان من حولك. 
·       تجاهل أحياناً الموقف المحرج وأدر خدك، وتصنع أنك أعمى وأصم، وتجنب الرد.
·   ربما تحتاج بعض المواقف المحرجة أن تكون شجاعاً ولا تخجل أن تعترف بالخطأ أو النسيان أو عدم العلم، وتذكر قول الله تعالى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف: ٧٦].
·   اعتبر الوقوع في المواقف المحرجة أمراً طبيعياً، بل ضرورة حتمية، وتذكر دائماً أن للمواقف المحرجة فوائد جمّة، من أهمّها تنمية الفطنة والذكاء وسرعة البديهة، بالإضافة إلى توسيع المدارك وزيادة الخبرات والتجارب.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com





الجمعة، 20 فبراير 2015

خزانة الأسرار الزوجية




حفظ الأسرار أدب إسلامي وأخلاقي عام، والأسرار الزوجية أشد خصوصية عن أي أسرار أخرى، سواء كانت تلك الأسرار خاصة بالعلاقة الزوجية أو بمشكلات البيت، وإفشاء الأسرار بدون دافع قهري من شأنه أن يجهض الولاء للأسرة عامة وللحياة الزوجية خاصة ويزرع الشكوك والظنون وانعدام الثقة، كما أن طيران المشكلة خارج البيت يعني استمرارها واشتعال أوارها، خصوصاً إذا وصلت إلى أهل أحد الزوجين فلن يكون الحكم عادلاً في الغالب لأنهم يسمعون من طرف واحد، وقد تأخذهم الحمية تجاه ابنهم أو ابنتهم.
قال تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء:34] هذا كله خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج. فقوله تعالى (فالصالحات) أي من النساء التي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام  (قانتات) أي مطيعات لله في أزواجهن (حافظات للغيب) الغيب: خلاف الشهادة، أي حافظات لمواجب الغيب، إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والأموال والبيوت (بما حفظ الله) أي بحفظ الله إياهن وعصمتهن بالتوفيق لحفظ الغيب فالمحفوظ من حفظه الله، أي لا يتيسر لهن الحفظ إلا بتوفيق الله. أو المعنى: بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال، أي عليهن إن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله لهن حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله بما حفظ الله يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي في مقابلته، وجعل المهايمي الباء للاستعانة حيث قال: مستعينات بحفظه مخافة أن يغلبن عليهن نفوسهن وإن بلغن من الصلاح ما بلغن. وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمنا وذلك أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها (1)
وفي الحديث الشريف قال –صلى الله عليه وسلم-: ( خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك ) (2) ‌قال المناوي: ومن فاز بهذه فقد وقع على أعظم متاع الدنيا وعنها قال في التنزيل {قانتات حافظات للغيب} قال داود عليه السلام: "مثل المرأة الصالحة لبعلها كالملك المتوج بالتاج المخوص بالذهب كلما رآها قرت بها عيناه، ومثل المرأة السوء لبعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير". ومن حفظها لغيبته أن لا تفشو سره، فإن سر الزوج قلما سلم من حكاية ما يقع له لزوجته لأنها قعيدته وخليلته (3)
وقال –صلى الله عليه وسلم-: ( إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت الجنة ) (4)
ومن حفظ السر عدم نشر ما يكون بين الزوجين متعلقا بأمور الجماع ونحوه، وقد ثبتت أحاديث في تحريم ذلك منها قوله –صلى الله عليه وسلم-: ( إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها ) (5) وقوله –صلى الله عليه وسلم-: ( هل منكم رجل إذ أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم. قال: ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا فعلت كذا فسكتوا ثم أقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث؟ فسكتن. فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليراها ويسمع كلامها فقالت: يا رسول الله! إنهم ليحدثون وإنهن ليحدثن فقال: هل تدرون ما مثل ذلك؟ إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطانا في السكة فقضى حاجته والناس ينظرون إليه) (6) ‌
وقد نقل الغزالي رحمه الله رواية عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق زوجته، فقيل له: ما الذي يريبك فيها؟
فقال: العاقل لا يهتك سر امرأته، فلما طلقها قيل له: لم طلقتها ؟ فقال: مالي وامرأة غيري.
وقال جرير يرثِي امرأته في عفافها ومحافظتها على حديثه:
كانَت إذا هَجَرَ الخَليل فِرَاشَهَا         خَزْنَ الحَدِيثِ وعفَّت الأسرارِ (7)
دوافع وأسباب
الحامل لأحد الزوجين على ذكر أمور الجماع ومتعلقاته قد يكون أحد الأسباب الآتية:
ضعف وازع الحياء. الفراغ. مخالطة قرينات السوء. كثرة الاجتماعات النسائية سواء بسبب الوظائف أو سمر الجلسات العائلية الخاصة. الجهل بالحكم الشرعي. الغفلة عن الآثار السلبية المترتبة على هذا الأمر. القنوات الفضائية التي كانت سبباً مباشراً في بث الجرأة لدي الكثير مما يعرض فيها من مشاهد ساقطة وأغان وكلمات بذيئة. حب الاستطلاع لدى البعض. ظن بعض النساء أنهن بخوضهن في هذا الموضوع يكتسبن قلوب من حولهن ممن لديهن ميل إليه. اعتقاد البعض أنه مجال مفتوح للحصول على ما تود من معلومات وحقائق تخص الموضوع. قلة الإنكار وضعف جانبه من قبل الحاضرات غير المحبذات له. عدم طرح المواضيع الهادفة والمسابقات المتنوعة وتوجيه كلمات النصح وغيرها من وسائل الدعوة في مجالس النساء.
آثار سلبية
الوقوع في المحظور الشرعي إذا كان الحديث شخصياً صريحاً. تشجيع النفوس المريضة على متابعة الأفلام الهابطة والأغاني الماجنة. إشغال المجالس بسفاسف الأمور. الكذب والتلبيس بسبب كثرة الكلام في الموضوع والتمادي فيه. خسارة الأموال التي تدفع كأجرة لرسائل الجوالات التي يكثر تداولها. تضييع الوقت فيما لا ينفع ولا يفيد، بل ضرره أكثر من نفعه. إيقاد نار الغيرة في قلوب المستمعات، وربما أدى ذلك إلى إثارة المشاكل الزوجية. جرح مشاعر المرأة التي ليس لديها زوج (الأرملة، المطلقة، العزباء). انتشار النصائح الخاصة التي قد لا تصلح للكل مما يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. الخوف من الإصابة بالعين إذا كان الحديث شخصياً. الخشية من وصول كلام الزوجة إلى زوجها مما يؤدي إلى إثارة حنقه عليها. سقوط هيبة المتحدثة في هذه الأمور المنافية للحياء. تأثر الفتيات إما بكره الزواج والخوف من مسئولياته أو أن ينزع الحياء منهن. تأثر الأطفال بما يسمعون وذلك أن البعض يخوض في الموضوع بحضرتهن وربما دفعهم ذلك لأمور سيئة.
الضرورة تقدر بقدرها
يجوز إفشاء أسرار الزوجية في حالات الضرورة كالاستفتاء والعلاج، وكل يقدر بقدره، وفي الأمر تفصيل فإفشاء أسرار الزوجية على أقسام:
·   ( القسم الأول ) أن تكون هذه الأسرار فيما يتعلق بأمور الاستمتاع بين الزوجين, ووصف التفاصيل الراجعة إلى الجماع وإفشاء ما يجري من المرأة من قول أو فعل حالة الوقاع. فهذا الحديث فيه حالتين:
- الحالة الأولى: إذا كان الحديث بلا حاجة فلا يجوز الكلام فيها في المجالس للأحاديث السابقة، قال الإمام النووي معلقا: " وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم يكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة " (8)
- النوع الثاني: إن كان الحديث فيها لإثبات حق أو رفع ظلم .. كأن تكون أمام القاضي أو من اتفقا على أن يكون المصلح بينهما فتنكر المرأة نكاح الزوج لها وتدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فهذا لا بأس بالحديث فيه لما روي أن رجلاً ادعت عليه امرأته العنة فقال: والله يا رسول الله إني لأنقضها نقض الأديم ولكنها ناشز تريد رفاعة ولم ينكر عليه –صلى الله عليه وسلم- (9) وروى أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لأبي طلحة: (أعرستم الليلة ) (10)
·       ( القسم الثاني ) إن كانت الأسرار فيما عدا ذلك فهو أيضاً على أحوال:
- الحالة الأولى: إن كان الحديث في وصف الأزواج خِلقياً فلا يجوز لقوله –صلى الله عليه وسلم-: ( لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها ) (11) والمحذور نفسه موجود عند النساء فإذا استغرقت المرأة في وصف زوجها وجماله وبهائه قد يحدث في نفوس الحاضرات ما لا تحمد عقباه من الحسد ونحوه.
- الحالة الثانية: إن كان الحديث في وصف الأزواج خُلقياً فهو بين أمرين: الأول: إن كان الحديث ذماً: كوصفه بالبخل أو الجهل أو الغلظة فهذا لا يجوز إلا إذا كان على سبيل الشكاية لمن يريد الإصلاح كالقاضي ونحوه لأنها من الغيبة والغيبة كما هو معلوم ذكرك أخاك بما يكره وهي محرمة.
الثاني: إن كان الحديث مدحاً: فهذا على حسب المصلحة إن كان في الحديث عن صفاته منفعة فلا بأس وإلا فلا خوفاً من ترتب المفاسد.
فإن قال قائل: حديث أم زرع وكلام النسوة في أزواجهن فقد دار حديثين مدحاً وذماً في الأزواج والنبي –صلى الله عليه وسلم- لم ينكر ذلك مما يدل على جواز الحديث في مثل هذه الموضوعات؟
والجواب من وجوه:
أولاً: أن الحديث جاء على هيئة الخبر، فالنبي –صلى الله عليه وسلم- كان يسمع ما تقول عائشة –رضي الله عنها- عن حال هؤلاء النسوة المجهولات وما دار بينهن من الحديث.
ثانياً: القاعدة تقول «لا غيبة لمجهول» فالنساء لا يُعرفن وكذا الأزواج لا يُعرفون فهنا انتفى المحذور. ذكر النووي في شرح مسلم: قال " قال المازري: قال بعضهم: وفيه أن هؤلاء النسوة ذكر بعضهم أزواجهن بما يكره، ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم أو أسمائهم، وإنما الغيبة المحرمة أن يذكر إنساناً بعينه، أو جماعة بأعيانهم، قال المازري وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان النبي –صلى الله عليه وسلم- سمع امرأة تغتاب زوجها وهو مجهول فأقر على ذلك .. وأما هذه القضية فإنما حكتها عائشة عن نسوة مجهولات غائبات، لكن لو وصفت اليوم امرأة زوجها بما يكرهه، وهو معروف عند السامعين كان غيبة محرمة فإن كان مجهولا لا يعرف بعد البحث فهذا لا حرج فيه عند بعضهم (12)

الهوامش
(1) تفسير القاسمي محاسن التأويل 5 /131 والقرطبي 2/1835 وأيسر التفاسير لأبو بكر الجزائري 1/473 (2) رواه الطبراني عن عبد الله بن سلام (صحيح) انظر حديث رقم: 3299 في صحيح الجامع السيوطي / الألباني (3) فيض القدير للمناوي 2/154 (4) رواه البزار عن أنس وأحمد عن عبد الرحمن الزهري (صحيح) انظر حديث رقم: 661 في صحيح الجامع.‌ (5) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ــ كتاب النكاح ــ باب تحريم إفشاء سر المرأة رقم 2597 (6) رواه أبو داود عن أبي هريرة (صحيح) انظر حديث رقم: 7037 في صحيح الجامع. (7) ديوان جرير، شرح: محمد بن حبيب، تحقيق: د. نعمان طه، ص 865 (8) مسلم بشرح النووي ج5 ص 262 ط دار الحديث القاهرة  (9) البخاري ــ كتاب اللباس ــ باب ثياب الخضر رقم 5377 (10) البخاري ــ كتاب العقيقة رقم 5048 ومسلم ــ كتاب الآداب رقم 3996 (11) رواه البخاري ــ كتاب النكاح رقم 4839 (12) مسلم بشرح النووي ج8 ص 238 ط دار الحديث القاهرة.

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

الأحد، 8 فبراير 2015

الموت العذب




أوردت جريدة «الحياة» اللندنية (الثلاثاء 26/11/2013) خبر: عُثر على جثماني زوجين مسنين جديدين في العاصمة الفرنسية باريس، وذلك بعد أربعة أيام من انتحار زوجين آخرين في الثمانين من عمرهما داخل أحد الفنادق.
وأشارت صحيفة «لو باريزيان» الفرنسية اليوم (الثلاثاء) إلى أنه عثر على جثماني الزوجين البالغين من العمر 84 و81 عاماً أمس (الاثنين) في منزلهما، من قبل العاملة في المكان التي قالت إنهما تركا ورقة على باب حجرتهما أبلغاها فيها بأنها ستجدهما متوفين.
وكانت الصحيفة كشفت أمس عن مصرع مسنين في الـ 86 من عمرهما الجمعة الماضي وهما متشابكي الأيدي، على فراش في فندق في وسط باريس، وإلى جوارهما خطاب يؤكدان فيه على حقهما في «موت عذب» !!

تلك هي الحضارة الغربية المادية بمرها الذي يحاول بعض المفتونين التغاضي عنه، وتلك هي حال الإنسان عندما يفتقد الهدى الرباني والدليل الإيماني فيتخبط في ظلمات الضلال وهوس الأفكار الشاذة حيث يستعذب الموت الذي سماه الله تعالى مصيبة {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] وأن له غمرات وسكرات {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] وأن الموت مر تفر منه النفوس حيث لا مفر {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]
إن عشت تفجع بالأحبة كلهم *** ولفقد نفسك لا أبالك أفجع
أخرج ابن عساكر أن عمرو بن العاص كان يقول: عجباً لمن ينزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به ذكره ابنه عبد الله، وقال: صفه لنا. قال: الموت أجل من أن يوصف لكني سأصف لك منه شيئاً، كأن على عنقي جبال رضوى، وفي جوفي الشوك، وكأن نفسي تخرج من ثقب إبرة.
وخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يتمنَّى أحدُكم الموت، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يَستَعتِب)، وفي لفظ مسلم: (لا يتمنَّى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عملُه، وإنه لا يزيد المؤمنَ عُمُرُه إلا خيرًا)، ومعنى: "يَستَعتِب"؛ أي: يسترضي الله بالإقلاع والاستغفار، وقيل: "يَستَعتِب"؛ أي: يرجع عن موجب العتب عليه؛ أي: يرجع عن الإساءة.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا). [متفق عليه] ‌
الموت العذب
المؤمن يستعذب الموت في مواطن الجهاد، حيث نصرة الدين وإعلاء كلمة رب العالمين .. مواطن التضحية والفداء التي تبذل فيها الدماء رخيصة من أجل حياة الأمة كلها.
يجودُ بالنَّفسِ أّنْ ضنَّ الجبانُ بها *** والجودُ بالنَّفس أقْصَى غايةُ الجُودِ
روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ، يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل في سبيل الله من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد) [رواه أحمد]
قال ابن تيمية عن الجهاد: "لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها، مثل ما ورد فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره، في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة".
كما يستعذب المؤمن نزول الموت عند خوف الفتنة إيثارا للتمسك بالعقيدة الصحيحة والمبادئ النبيلة، وانظر كيف أتحف الله بلطفه سحرة فرعون حيث ثبتهم فاختاروا الموت على الكفر حين قال فرعون لأقطعن أيديكم {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء:50]
ويستعذب المؤمن الموت حين يزود عن حياضه فلا يرضى الضيم ولا يقبل الهوان .. قال -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد). [رواه أحمد] .. وفي رواية: (من أتي عند ماله فقوتل فقاتل فقتل فهو شهيد) [ابن ماجة] .. وفي رواية: (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد) [صحيح الجامع:6011] .. وفي رواية: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد) [صحيح الجامع:6447]
قال ابن جرير: هذا أبين بيان وأوضح برهان على الإذن لمن أريد ماله ظلماً في قتال ظالمه والحث عليه كائناً من كان لأن مقام الشهادة عظيم، فقتال اللصوص والقطاع مطلوب، فتركه من ترك النهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلماً. 
ويستعذب المؤمن نزول الموت رضا بقضاء الله وقدرة، صابرا محتسبا، دون تسخط ولا تزمر .. قال -صلى الله عليه وسلم-: (خمس من قبض في شيء منهن فهو شهيد: المقتول في سبيل الله شهيد، والغريق في سبيل الله شهيد، والمبطون في سبيل الله شهيد، والمطعون في سبيل الله شهيد، والنفساء في سبيل الله شهيدة) [رواه النسائي]
وفي رواية: (الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المقتول في سبيل الله شهيد، والمطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة) [رواه أبو داود] .. قوله: (وصاحب ذات الجنب) مرض حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع. قال ابن الأثير: ذو الجنب الذي يشتكي جنبه لسبب الدبيلة ونحوها إلا أن ذو للمذكر وذات للمؤنث، وصارت ذات الجنب علماً لها وإن كانت في الأصل صفة مضافة .. وقوله (والمرأة تموت بجمع) أي تموت وفي بطنها ولد أو تموت من الولادة يقال ماتت بجمع أي حاملاً أو غير مطموثة.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد) [البخاري]
قال ابن حجر: ويؤخذ منه أن من لم يتصف بذلك لا يكون شهيداً وإن مات بالطاعون، وذلك ينشأ من شؤم الاعتراض الناشئ عن الضجر والسخط للقدر.   
اللهم خفِّف علينا الموت وسكرته، وأَمِتْنا على دين نبيِّك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - غيرَ خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com