الأربعاء، 29 مايو 2013

الإسراء والمعراج


بسم الله الرحمن الرحيم
الإسراء والمعراج

الإلغاء الأبدي والطي السرمدي لصفحة بني إسرائيل

 


ظلت النبوات دهورا طويلة وهي وقف على بني إسرائيل، وظل بيت المقدس مهبط الوحي ومشرق أنواره على الأرض وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار، فلما أهدر اليهود كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السماء حلت بهم لعنة الله، وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد، ومن ثم كان مجيء الرسالة إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- انتقالا بالقيادة الروحية في العالم من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل، وكان الإسراء والمعراج إعلانا عالميا بالإلغاء الأبدي والطي السرمدي لصفحة بني إسرائيل من التفضيل والاصطفاء.



تاريخ أسود ولعنة أبدية


كم حدثنا التاريخ عن التواءات بني إسرائيل وانحرافاتهم وانحلالاتهم وجهالاتهم، إنها جبلات ثقيلة أخلدت إلى الأرض طويلا حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي ألفت التمرغ فيه وطبيعة نفوس مخلخلة العزيمة ضعيفة الروح ما تكاد تهتدي حتى تضل وما تكاد ترتفع حتى تنحط وما تكاد تمضي في الشعور المستقيم حتى ترتكس وتنتكس .. ذلك لغلظ في الكبد وتصلب عن الحق وقساوة في الحس والشعور.

فأولى محطات وقاحتهم كانت مع الله: فلم يستطع بنو إسرائيل في أي فترة من فترات تاريخهم أن يستقروا على عبادة الله الواحد الأحد الذي دعا له الأنبياء، وكان اتجاههم إلى التجسيم والتعدد والنفعية واضحا في جميع مراحل تاريخهم وتعد كثرة أنبيائهم دليلا على تجدد الشرك فيهم وبالتالي تجدد الحاجة إلى أنبياء يجددون الدعوة للتوحيد وكانت هذه الدعوى قليلة الجدوى على أي حال، ولقد اضطربت الفكرة التي رسمتها الأسفار عن الله (يهوه) فالوصية الثانية من الوصايا العشر تسمو بالله عن الإحاطة والحصر إذ تقول ( لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت .. ) (1) ولكن على الرغم من ذلك ترسم أسفار التوراة الخمسة صورة بشرية محضة لله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

فيهوه ليس معصوما وكثيرا ما يقع في الخطأ ثم يندم على ما فعل ( فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه ) (2)، ويهوه إله قاس مدمر متعصب لشعبه لأنه ليس إله كل الشعوب بل إله بني إسرائيل فقط وهو بهذا عدو للآلهة الآخرين كما أن شعبه عدو للشعوب الأخرى (3)، ومن الأوصاف الحسية ليهوه أنه كان يسير أمام جماعة بني إسرائيل في عمود سحاب ( وارتحلوا من سكوت ونزلوا في إيثام طرف البرية وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلا في عمود نار يضئ لهم ) (4)

بل سجل القرآن طرفا من وقاحتهم فقال جل ذكره: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } [آل عمران:181] وقال تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } [المائدة:64]

طعنهم في الأنبياء ونسبة القبائح إليهم

فمن ذلك أن نبي الله هارون صنع عجلا وعبده مع بني إسرائيل ( سفر الخروج إصحاح 32 عدد1) وأن إبراهيم عليه السلام قدم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها ( تكوين 12 :14 ) وأن لوطا عليه السلام شرب خمرا حتى سكر ثم قام على ابنتيه فزنى بهما ( تكوين 19 :30) وأن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه ثم دبر حيلة لقتل الرجل ولما قتل أخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه فولدت له سليمان ( سفر صموئيل الثاني إصحاح 11 عدد1) وأن سليمان ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد ( سفر الملوك الأول 11:5)

بل كان قتل الأنبياء عادة شيطانية متأصلة فيهم، فقال تعالى: { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون } [المائدة:70]، فقتلوا من الأنبياء حزقيال وأشعيا وأرميا ويحيى وزكريا وحاولوا قتل عيسى عيه السلام فنجاه الله تعالى منهم ورفعه إلى السماء، ومخاليق تقتل الأنبياء وتذبحهم وتنشرهم بالمناشير لا ينتظر منها إلا استباحة دماء البشر واستباحة كل وسيلة قذرة تنفس عن أحقادهم وفسقهم.  

صفات نفسية خبيثة

منها النفاق فلقد أتقنوا صناعة الرياء وملق الأقوياء والنفاق، وأن يكون للقول ميدان وللعمل ميدان، ولقد أشاعوا النفاق في الأرض حتى توهم الناس أن من لا ينافق ليس بكيس، ومن لا يتملق لم يؤت الحكمة، ومن لم يداهن فهو أحمق .. لقد نشروا النفاق في الأرض كلها وبثوا له الدعاية بأسماء مختلفة، فمرة بأنه الحكمة، ومرة بأنه الكيس، وثالثة بأنه السياسة الناجحة، قال تعالى: { وإذا جاءوكم قالوا أمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون } [المائدة:61]

ومنها الحقد والكراهية والحسد: فجاء في التلمود أن الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وأن اليهودي جزء من الله –تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- فإذا ضرب أمي إسرائيليا فكأنه ضرب العزة الإلهية، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق بين اليهود وغير اليهود، ولليهودي في الأعياد أن يطعم الكلب وليس له أن يطعم غير اليهودي، والشعب المختار هم اليهود أما باقي الشعوب فهم حيوانات، ويعتبر اليهود غير اليهود أعداء لهم ولا يجيز التلمود أن يشفق اليهود على أعدائهم، ويلزم التلمود بني إسرائيل أن يغشوا من سواهم فقد جاء فيه ( يلزم أن تكون طاهرا مع الطاهرين ودنسا مع الدنسين ) والمقصود بالطاهرين اليهود، ويمنع التلمود اليهود أن يحبوا غير اليهود ما لم يخشوا شرهم ويجيز التلمود استعمال النفاق مع غير اليهود، ولا يجيز أن يقدم اليهود صدقة لغير اليهود (5)

صفات عملية قبيحة

منها حب المال وعبادة الذهب والجشع وأكلهم الربا: فلما كان التلمود يقرر أن اليهود أجزاء من الله فإن اليهود يعتبرون أنفسهم مالكين لكل ما في الأرض من ثراء بالنيابة عن الله، وقد جاء في وصايا موسى ( لا تسرق مال القريب ) وفسر علماء التلمود هذه الوصية بجواز أن يسرق اليهودي مال الغريب أي غير اليهودي فسلب ماله ليس مخالفا للوصايا بل هو استرداد لأموال من سالبيها، ومن الوسائل التي يصطنعها اليهود ليستولوا على ثروات العالم الغش  الذي أجاز التلمود استعماله مع غير اليهود في البيع والشراء وقال الحاخام رشى: ( مصرح لليهودي أن يغش غير اليهودي ويحلف له أيمانا كاذبة )، ومن الوسائل كذلك عدم رد الأشياء المفقودة فقد جاء في التلمود ( إن الله لا يغفر ذنبا ليهودي يرد للأممي ماله المفقود )، ومن الوسائل كذلك الربا الذي أجاز التلمود استعماله مع غير اليهودي فجاء فيه ( غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بربا ) (6)

وجاء في بروتوكولاتهم ( بمعاونة الذهب وكله في أيدينا سنقوم بعمل الأزمات الاقتصادية العالمية ونصيب الصناعات بالتوقف وننشئ احتكارات ضخمة ) (7) وقال تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } [النساء:160-161] وقال جل شأنه: { سماعون للكذب أكالون للسحت } [المائدة:42]

ومنها سعيهم في الأرض فسادا وإفسادا: والمتتبع لمعظم مراكز الفساد الفكري والسلوكي والنفسي في العالم يلاحظ أنها مؤسسات يهودية تدار بأفكار ونفوس وأموال يهودية وتستثمر لمصالح يهودية، قال تعالى: { ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين } [المائدة:64] فبمخططات شيطانية عمل اليهود على شقاء البشرية وإفساد العالم، وصدق قول أوسكار ليفي ( نحن اليهود لسنا إلا مفسدي العالم ومحركي الفتن وجلاديه ) وقول موريس صموئيل ( نحن اليهود .. نحن المدمرون لكل شيء .. ولسوف نبقى مدمرين إلى الأبد ) (8)

نهاية محتومة


هذا الركام الضخم من الدنس وكفران نعمة الاصطفاء والفشل في تحمل أعباء الرسالة عبر هذه القرون السحيقة جعل اللعنة الإلهية التي حاقت باليهود عدلا ربانيا ونتيجة محتومة، وتحتم تحويل قيادة قافلة الإيمان إلى قوم أجدر بها فكان الإسراء والمعراج مسرح لعملية التحويل الكبرى ليتسلم النبي العربي القيادة ويكون الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى البشر، قال تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } [الإسراء:1]

قال سيد قطب -رحمه الله تعالى-: والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعا (9)      

جمع الله الأنبياء والرسل السابقين لمحمد -صلى الله عليه وسلم- في ليلة الإسراء في المسجد الأقصى _ ومنهم أنبياء ورسل بني إسرائيل _ فصلى بهم -صلى الله عليه وسلم- إماما اعترافا من هؤلاء الرسل بفضله ومنزلته -صلى الله عليه وسلم-، وتسليما منهم بأنه أفضل الخلق وأكرمهم وأقربهم إلى الله سبحانه فهو إمام الخلق أجمعين وإمام الأنبياء والمرسلين، كما أنه إقرار بختم النبوة والرسالة بنبوته ورسالته -صلى الله عليه وسلم- وإقرار بنسخ رسالاتهم برسالته ونسخ كتبهم بكتابه ودعوة هؤلاء الأنبياء والمرسلين _ وبخاصة أنبياء بني إسرائيل _ لأقوامهم وأتباعهم بالدخول في الإسلام والإيمان بالقرآن، وأخيرا كان هذا تسليما من هؤلاء الأنبياء والمرسلين لمفاتيح الأرض المقدسة إلى النبي محمد العربي -صلى الله عليه وسلم-  وأمته فمعظم هؤلاء عاشوا على الأرض المقدسة، وكانوا هم المسئولون عنها والراعون لها والخلفاء عليها وأنوار رسالاتهم انتشرت عليها وبقيت حلقات النبوة والرسالة والخلافة تتابع على الأرض المقدسة إلى أن ختمت هذه الحلقات بنبوة ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- الدائمة حتى قيام الساعة، وفي ليلة الإسراء جاء الأنبياء وسلموا محمد -صلى الله عليه وسلم- المسؤولية والخلافة والأمانة والعهد وأوكلوا له ولأمته من بعده مهمة الأرض المقدسة ورعايتها وحمايتها والخلافة فيها واستمرار الإيمان عليها حتى قيام الساعة، ولقد كان هذا إعلانا عالميا بانتهاء استخلاف أقوامهم من اليهود والنصارى وانتهاء مسؤولية هؤلاء الأقوام على الأرض المقدسة وتحويل هذه الخلافة والمسؤولية لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-  حتى قيام الساعة.

وجعلت الصلاة ميدانا ومجالا لهذا الانتقال وجوا مناسبا للتسليم والتسلم ليعطي دلالة واضحة على أهمية الصلاة والعبادة ووجوب تعمقه في أمة الإمامة والخلافة التي تناط بها مسؤولية الإشراف على الأرض المقدسة.

إن الأقوام السابقين من اليهود والنصارى ليسوا مصلين لله صدقا ولا عابدين له حقا ولذلك انتزع الله منهم هذه الخلافة والإمامة وجعلها في أمة العبادة والصلاة وتسلم رسولها محمد e هذه المهمة والمسؤولية من إخوانه الأنبياء في الصلاة (10)

 

الهوامش والمصادر

(1) سفر الخروج 20 :4   (2) سفر الخروج 32 :14  (3) خروج 12:12  (4) خروج13: 20-21  (5) الكنز المرصود في قواعد التلمود، روهلنج ص 51-55، التلمود شريعة إسرائيل ص25  (6) اليهودية، د. أحمد شلبي ص 274  (7) بروتوكولات حكماء صهيون ص137(8) أخلاق اليهود ص98  (9) في ظلال القرآن، سيد قطب أول سورة الإسراء ج4 ص 2212 (10) واقدساه، د. سيد العفاني ج1 ص 134- 137 عن د/ صلاح الخالدي

 


د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

 

الاثنين، 27 مايو 2013

أخطاء تقع في رجب


فضّل الله تعالى بعض الأيام والليالي والشهور على بعض، حسبما اقتضته حكمته البالغة؛ ليجدّ العباد في وجوه البر، ويكثروا فيها من الأعمال الصالحة، ولكن شياطين الإنس والجن عملوا على صد الناس عن سواء السبيل، وقعدوا لهم كل مرصد؛ ليحولوا بينهم وبين الخير، فزينوا لطائفة من الناس أن مواسم الفضل والرحمة مجال للهو والراحة، وميدان لتعاطي اللذات والشهوات، وحرّضوا طوائف أخرى سواء أكانوا ممن قد يملكون نوايا طيبة ولكن غلب عليهم الجهل بأحكام الدين أو من ذوي المصالح والرياسات الدينية أو الدنيوية الخائفين على مصالحهم وزوال مواقعهم .. حرضوهم على المبالغة في الاحتفال بمواسم الخير والسّنّة، بل واختلاق مواسم مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان.

ولما كان شأن البدعة عظيم، وأمر العبادة لا يسوغ من مجرد التقليد، وللزوم السنة والاتباع فضل من الله عظيم، ولخطورة البدع ما ظهر منها وما بطن، حذر الأئمة الأعلام من ضلالات الشيطان. فيقول الإمام مالك: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خان الدين.

ويقول سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.

وقال حسان بن عطية: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ولا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة.

وقال أيوب السختياني: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا زاد من الله بعدا. [الحلية:6/73]

لقد صار شهر رجب في كثير من البلدان من أبرز المواسم البدعية بسبب تلك الشرذمة التي ألفت البدع وأنفت من عرض أفعالها على نصوص الشريعة وكلام أهل العلم، فهل لهم من عودة إلى نور الكتاب والسنة الصحيحة الذي هو أعظم السبل هداية لقلوب قاسية، وتفتيحاً لعيونٍ وآذانٍ عاشت في ظلمات البدع وتخبطات الجهل.

قال ابن حجر:لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه، حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره. (1)

وقال أيضاً: وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيامه،أو صيام شيء منه صريحة، فهي على قسمين: ضعيفة، وموضوعة، ونحن نسوق الضعيفة، ونشير إلى الموضوعة إشارة مفهمة (2)، ثم شرع في سوقها، وهو منشأ المثل الشائع عند العامة اليوم حيث يقولون: «لا يعجبه عجب، ولا الصيام في رجب» مما يوحى بشدة فضيلة ذلك، وهو مما لا دليل عليه ولا أصل ثابت له.            

صلاة الرغائب

وردت صفتها في حديث موضوع عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ما من أحد يصوم يوم الخميس ( أول خميس من رجب) ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة، يعني ليلة الجمعة، اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة و{إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} ثلاث مرات، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى عليّ سبعين، ويقول في سجوده سبعين مرة: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت العزيز الأعظم، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى حاجته، فإنها تقضى .. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( والذي نفسي بيده، ما من عبد ولا أَمَة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر وعدد الرمل ووزن الجبال وورق الأشجار، ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار ) (3)

وصلاة الرغائب شاعت بعد القرون المفضلة، وبخاصة في المائة الرابعة، وقد اختلقها بعض الكذابين، قال النووي: هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها (4)

وقال ابن النحاس: وهي بدعة والحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين (5)

وقال ابن تيمية: وأما صلاة الرغائب، فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب، لا جماعة ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام، والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً (6)

وقد أبان الطرطوشي بداية وضعها فقال: وأخبرني أبو محمد المقدسي قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قدم علينا في بيت المقدس رجل من نابلس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان ... إلى أن قال: وأما صلاة رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربعمائة، وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك (7)

وقد جزم بوضع حديثها: ابن الجوزي في الموضوعات، والحافظ أبو الخطاب، وأبو شامة (8)، كما جزم ببدعيتها: ابن الحاج (9)

وقال العلامة ابن رجب: فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ: أبو إسماعيل الأنصاري، وأبو بكر بن السمعاني، وأبو الفضل ابن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزي .. وغيرهم، وإنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم، وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها (10)

قال أبو شامة: وكم من إمام قال لي: إنه لا يصليها إلا حفظاً لقلوب العوام عليه، وتمسكاً بمسجده خوفاً من انتزاعه منه (!)، وفي هذا دخول منهم في الصلاة بغير نية صحيحة، وامتهان الوقوف بين يدي الله تعالى، ولو لم يكن في هذه البدعة سوى هذا لكفى، وكل من آمن بهذه الصلاة أو حسنها فهو متسبب في ذلك، مغرٍ للعوام بما اعتقدوه منها، كاذبين على الشرع بسببها، ولو بُصِّروا وعُرِّفوا هذا سَنَةً بعد سَنَةٍ لأقعلوا عن ذلك وألغوه، لكن تزول رئاسة محبي البدع ومحييها، والله الموفق.

وقد كان الرؤساء من أهل الكتاب يمنعهم الإسلام خوف زوال رئاستهم، وفيهم نزل {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] (11)

صيام رجب والاعتكاف فيه

قال ابن رجب: وأما الصيام: فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه (12)

وقال ابن تيمية: وأما صوم رجب بخصوصه: فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات .. وقد روى ابن ماجة في سننه، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن صوم رجب، وفي إسناده نظر، لكن صح أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الناس؛ ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب ويقول: لا تشبهوه برمضان، وفي رواية قال: ما رجب؟ إن رجبا كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام ترك، وأما تخصيصها بالاعتكاف الثلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان فلا أعلم فيه أمراً، بل كل من صام صوماً مشروعاً وأراد أن يعتكف من صيامه، كان ذلك جائزاً بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران لأهل العلم. (13)

وعن أبي بكرة أنه رأى أهله يتهيئون لصيام رجب فقال لهم: أجعلتم رجبا كرمضان وألقى السلال وكسر الكيزان، وعن ابن عباس أنه كره أن يصام رجب كله، وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياما، وقال الشافعي في (القديم) أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان واحتج بحديث عائشة -رضي الله عنها-: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل شهرا قط إلا رمضان. (14) قال الشافعي: وإنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب وإن فعل فحسن (15)

قال العلامة ابن رجب: وتزول كراهة إفراد رجب بالصوم بأن يصوم معه شهرا آخر تطوعا عند بعض أصحابنا، مثل أن يصوم الأشهر الحرم أو يصوم رجب وشعبان، وقد تقدم عن ابن عمر وغيره صيام الأشهر الحرم، والمنصوص عن أحمد أنه لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر، وروي عن ابن عمر ما يدل عليه فإنه بلغه أن قوما أنكروا عليه أنه حرم صوم رجب، فقال: كيف بمن يصوم الدهر؟ وهذا يدل على أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر (16)   

 وكونه لم يرد في فضل صيام رجب بخصوصه شيء لا يعني أنه لا صيام تطوع فيه مما وردت النصوص عامة فيه وفي غيره، كالاثنين، والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم وإفطار آخر، وإنما الذي يكره كما ذكر الطرطوشي صومه على أحد ثلاثة أوجه:

1 ـ إذا خصه المسلمون في كل عام حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة، مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان.

اعتقاد أن صومه سنّة ثابتة خصه الرسول -صلى الله عليه وسلم-  بالصوم كالسنن الراتبة.

3 ـ  اعتقاد أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام سائر الشهور، وأنه جارٍ مجرى عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان كذلك لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم-  أو فعله ولو مرة في العمر، ولما لم يفعل بطل كونه مخصوصاً بالفضل (17)

الزكاة في رجب

اعتاد بعض أهل البلدان تخصيص رجب بإخراج الزكاة، قال ابن رجب: ولا أصل لذلك في السُنّة، ولا عُرِف عن أحد من السلف.

وبكل حال فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب، فكل أحدٍ له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب، فإذا تم حوله وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان، ثم ذكر جواز تعجيل إخراج الزكاة لاغتنام زمان فاضل كرمضان، أو لاغتنام الصدقة على من لا يوجد مثله في الحاجة عند تمام الحول ونحو ذلك (18)

وقال ابن العطار: وما يفعله الناس في هذه الأزمان من إخراج زكاة أموالهم في رجب دون غيره من الأزمان لا أصل له، بل حكم الشرع أنه يجب إخراج زكاة الأموال عند حولان حولها بشرطه سواء كان رجباً أو غيره. (19)

عمرة رجب

يحرص بعض الناس على الاعتمار في رجب، اعتقاداً منهم أن للعمرة فيه مزيد مزية، وهذا لا أصل له، فقد روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت ( أي عائشة): يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهِدُه، وما اعتمر في رجب قط (20)

قال ابن العطار: ومما بلغني عن أهل مكة -زادها الله تشريفاً- اعتيادهم كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلاً. (21)

وقد نص العلامة ابن باز: على أن أفضل زمان تؤدى فيه العمرة: شهر رمضان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ( عمرة في رمضان تعدل حجة )(22)، ثم بعد ذلك: العمرة في ذي القعدة؛ لأن عُمَرَه كلها وقعت في ذي القعدة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21] (23)
 

الهوامش والمصادر

 (1) تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب، لابن حجر، ص6، وانظر: السنن والمبتدعات للشقيري، ص125.   (2) المصدر السابق، ص 8  (3) انظر: إحياء علوم الدين، للغزالي، 1/202، وتبيين العجب فيما ورد في فضل رجب، ص 22، 24  (4) فتاوى الإمام النووي، ص 57  (5)  تنبيه الغافلين، ص 496  (6) الفتاوى لابن تيمية، 23/132، وانظر: الفتاوى، 23/134 135.    (7) الحوادث والبدع، ص103   (8) انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 61 67. (9)  المدخل، 1/211.   (10) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 207 ط المكتبة التوفيقية ـ مصر  (11) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 105.  (12) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 207 ط المكتبة التوفيقية ـ مصر   (13)  الفتاوى: 25/290 292 بتصريف وزيادة يسيرة  (14) رواه البخاري 1969 كتاب الصوم باب صوم شعبان (15) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 210ط المكتبة التوفيقية ـ مصر  (16) المصدر السابق (17)  البدع والحوادث، ص110 111، وانظر (تبيين العجب..) لابن حجر، ص 37 38.  (18) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 211  (19) المساجلة بين العز وابن الصلاح، ص 55  (20) صحيح البخاري، ح/1776   (21) المساجلة بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، ص 56، وانظر: فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم، 6/131   (22) ( صحيح )  انظر حديث رقم :  4097 في صحيح الجامع  (23) انظر: فتاوى إسلامية، جمع الأستاذ/ محمد المسند، 2/303 304

 

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

 

 

الأحد، 26 مايو 2013

رجب شهر الله


لله تبارك وتعالى منح وعطايا ومواهب يمنحها لعباده ويهبها لهم في كل حين.. يمحو بها الخطايا ويكفر بها السيئات ويرفع الدرجات ويقيل العثرات. فقد شرع لنا جل وعلا شهراً نصوم فيه، وشهراً نحج فيه، ويوماً أو يومين من بعض الشهور نصومها, وشرع كذلك قيام الليل وصلاة الوتر والأضحية والعقيقة وغير ذلك من أنواع العبادات المختلفة المتنوعة، كل ذلك منه جل وعلا تنويعاً لسبل الخير والطاعات وتنشيطاً للنفس عندما تنتقل من نوع من الطاعات إلى نوع آخر فلا يمل الإنسان ولا يكل من طاعة الله، وتلك نعمة من نعم الله علينا وذلك فضله سبحانه وتعالى. (1)

فالحمد لله القائل في كتابه العزيز: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص:68]، والاختيار هو الاجتباء والاصطفاء الدال على ربوبيته ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته. ومن اختياره وتفضيله اختياره بعض الأيام والشهور وتفضيلها على بعض، وقد اختار الله من بين الشهور أربعة حُرما، قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة:36] وهي مقدرة بسير القمر وطلوعه لا بسير الشمس وانتقالها كشأن الأمم الأخرى، والأشهر الحرم وردت في الآية مبهمة ولم تحدد أسماؤها وجاءت السُنة بذكرها.

فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب في حجة الوداع وقال في خطبته: ( إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القَعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ( (2)  

والأربعة أشهر الحرم حرمها العرب في الجاهلية، وسبب تحريمهم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم هو أداء شعيرة الحج، فكانوا يحرمون قبله شهراً ليتمكنوا من السير إلى الحج ويسمونه ذي القعدة لقعودهم عن القتال فيه، ثم يحرمون ذا الحجة وفيه أداء مناسكهم وأسواقهم، ثم يحرمون بعده شهراً ليعودوا إلى ديارهم. وحرموا شهر رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار، فيأمن قاصد البيت الغارة فيه. (3)

وسمي رجب رجبا لأنه كان يرجب أي يعظم، يقال في اللغة (رَجَبَ) فلانا أي خافه، وهابه، وعظمه، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (4): (رجب) الراء والجيم والباء أصلٌ يدل على دعم شيء بشيء وتقويته... ومن هذا الباب : رجبت الشيء أي عظّمته .. فسمي رجبا لأنهم كانوا يعظّمونه وقد عظمته الشريعة أيضا.

وأما إضافته إلى مضر لأن مضر كانت لا تغيره بل توقعه في وقته بخلاف باقي العرب الذين كانوا يغيّرون ويبدلون في الشهور بحسب حالة الحرب عندهم، وهو النسيء المذكور في قوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } [التوبة:37]

وقيل أن سبب نسبته إلى مضر أنها كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك. فلقد كانوا يُحرِّمون فيه القتال، حتى أنهم كانوا يُسمُّون الحرب التي تقع في هذا الشهر «حرب الفجار» !!. وكانوا يتحرَّون الدعاء في اليوم العاشر منه على الظالم، وكان يُستجاب لهم!وقد ذُكر ذلك لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: إنَّ الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض، وإنَّ الله جعل الساعة موعدهم، والساعةُ أدهى وأمرّ. وكانوا يذبحون ذبيحةً تُسمَّى (العَتِيرة)، وهي شاة يذبحونها لأصنامهم، فكان يُصبُّ الدم على رأسها! وأكثر العلماء على أنَّ الإسلام أبطلها، لحديث الصحيحين: ( لا فرْع ولا عَتيرة ) (5)

وذكر بعضهم أن لشهر رجب أربعة عشر اسما: شهر الله، ورجب، ورجب مضر، ومنصل الأسنة، والأصم، والأصب، ومنفس، ومطهر، ومعلى، ومقيم، وهرم، ومقشقش، ومبرئ، وفرد (6)

وقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر رجب مُنصّل الأسنّة كما جاء عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة (كوم من تراب) ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا مُنصّل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه في شهر رجب. (7)

قال البيهقي: كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر الحرم، وخاصة شهرَ رجب فكانوا لا يقاتلون فيه. وكانوا يسمونه أيضا «رجب الأصم» لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه (8)

وللأشهر الحرم مكانةً عظيمة، ومنها شهر رجب بالطبع، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } [المائدة:2] أي لا تحلوا محرماته التي أمركم الله بتعظيمها ونهاكم عن ارتكابها فالنهي يشمل فعل القبيح ويشمل اعتقاده.

وقال تعالى: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } [التوبة:36] أي في هذه الأشهر المحرمة. والضمير في الآية عائد إلى هذه الأربعة الأشهر على ما قرره إمام المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - فينبغي مراعاة حرمة هذه الأشهر لما خصها الله به من المنزلة والحذر من الوقوع في المعاصي والآثام تقديرا لما لها من حرمة، ولأن المعاصي تعظم بسبب شرف الزمان الذي حرّمه الله؛ ولذلك حذرنا الله في الآية السابقة من ظلم النفس فيها مع أنه - أي ظلم النفس ويشمل المعاصي- يحرم في جميع الشهور.

قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً.

وقال ابن عباس: يريد استحلال الحرام والغارة فيهن.

وقال محمد بن إسحاق: لا تجعلوا حلالها حراماً، ولا حرامها حلالاً كفعل أهل الشرك، وهو النسيء.

وقال القرطبي -رحمه الله-: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب لأن الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس كثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [الأحزاب:30] (9)

ويقول الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله: لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء معين منه, ولا في قيام ليلة مخصوصة منه حديث صحيح يصلح للحجة، وقال: الأحاديث الواردة في فضل شهر رجب على قسمين: ضعيفة وموضوعة. (10)

وقال ابن دحية -رحمه الله-: وفي هذا الشهر أحاديث كثيرة من رواية جماعة من الوضاعين، وكان شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي لا يصوم رجباً وينهى عن ذلك، ويقول: ما صح في فضل رجب ولا في صيامه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء.  (11)

 

الهوامش والمصادر

(1) بدع رجب، سعيد عبد الباري بن عوض (2) رواه البخاري رقم (1741) في الحج باب الخطبة أيام منى، ورواه مسلم رقم (1679) في القسامة باب تحريم الدماء (3) تفسير القرآن العظيم (4/89) (4) معجم مقاييس اللغة، ص445، ابن فارس (5) رواه البخاري 5473 في كتاب العقيقة باب الفرع، ومسلم 1976 في كتاب الأضاحي باب الفرع والعتيرة عن أبي هريرة  (6) لطائف المعارف، ابن رجب الحنبلي ص 204، المكتبة التوفيقية، مصر  (7) رواه البخاري3464 بقية كتاب المغازي  (8) تفسير الطبري: 4/300 ـ شاكر  (9) تفسير القرطبي، سورة التوبة ج4 ص 234  (10) تبيين العجب بما ورد في فضل رجب ص23 (11) أداء ما وجب ص 104-112.

 

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com