الجمعة، 24 مايو 2013

ولا تكونوا أمثالهم (4)


بسم الله الرحمن الرحيم

ولا تكونوا أمثالهم (4)

الغدر ردة إيمانية وأخلاقية

قال تعالى:

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل:91-92]

 

{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها}، وهي امرأة بمكة حمقاء تغزل ثم تنكث غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه، فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} أي إفساداً وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة اخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي جماعة أكثر من جماعة رجالاً وسلاحاً أو مالاً ومنافع. {إنما يبلوبكم الله به} أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أو لا تفعلوا إيثاراً للدنيا عن الآخرة، {وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (1)

والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غزل، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل: 92] واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]

والأنكاث - بفتح الهمزة -: جمع نكث بكسر النون وسكون الكاف أي منكوث، أي منقوض، ونظيره نقض وأنقاض. والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلا واحدا جعلته منقوضا، أي خيوطا عديدة. وذلك بأن صيرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطا ذات عدد.

والدخل - بفتحتين -: الفساد، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها .. والدخل أيضا: الشيء الفاسد. ومن كلام العرب: ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل. "سكن الخاء لغة أو للضرورة إن كان نظما، أو للسجع إن كان نثرا"، أي ما يدريك ما فيهم من فساد. والمعنى: تجعلون أيمانكم الحقيقة بأن تكون معظمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة، فيكون وصف الأيمان بالدخل حقيقة عقلية؛ أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدخل مجازا عقليا.

ووجه الفساد أنها تقتضي اطمئنان المتحالفين فإذا نقضها أحد الجانبين فقد تسبب في الخصام والحقد. وهذا تحذير لهم وتخويف من سوء عاقبة نقض اليمين، وليس بمقتض أن نقضا حدث فيهم.

و{أَرْبَى}: أزيد، وهو اسم تفضيل من الربو بوزن العلو، أي الزيادة، يحتمل الحقيقة أعني كثرة العدد. والمجاز أعني رفاهية الحال وحسن العيش. وكلمة {أَرْبَى} تعطي هذه المعاني كلها فلا تعدلها كلمة أخرى تصلح لجميع هذه المعاني، فوقعها هنا من مقتضى الإعجاز. والمعنى: لا يبعثكم على نقض الأيمان كون أمة أحسن من أمة.

ومعلوم أن الأمة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمة المفضولة هي المنفصل عنها، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عددا وأموالا من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفعال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفار.

وجملة {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا للتعليل بما يقتضي الحكمة. وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165].

والقصر المستفاد من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} قصر موصوف على صفة. والتقدير: ما ذلك الربو إلا بلوى لكم.

ثم عطف عليه تأكيد أنه سيبين لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشاة بزخارف الشهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها، فيومئذ تعلمون أن الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شر محض. وأكد هذا الوعد بمؤكدين القسم الذي دلت عليه اللام ونون التوكيد. (2)

وهاتان الآيتان تدلان على أساس العلاقات بين المسلمين وغيرهم، مع العدالة والوفاء بالعهد، وأن العلاقات الدولية لا تنظَّم الا بالوفاء بالعهود، وأن الدول الإسلامية إذا عقدت عهداً فإنما تعقده باسم الله فهو يتضمن يمين الله وكفالته، وفيهما ثلاثة معان لو نفَّذتها الدولُ لساد السلم العالم.

- أولها: أنه لا يصح أن تكون المعاهدات سبيلاً للخديعة وإلا كانت غشّاً، والغش غير جائز في الاسلام وفي العلاقات الانسانية سواء كانت بين الأفراد أو الجماعات والدول.

- ثانيها: أن الوفاء بالعهد قوةٌ في ذاته، وأن من ينقض عهده يكون كمن نقض ما بناه من أسباب القوة، مثلَ تلك الحمقاء التي نقضت غَزْلها بعد أن أحكمته.

- ثالثها: أنه لا يصح أن يكون الباعث على نكث العهد الرغبة في القوة أو الزيادة في رقعة الأرض أو نحو ذلك، كما تفعل إسرائيل، وكانت من ورائها بريطانيا، واليوم أمريكا.

هذه المبادئ لم تكن معمولاً بها قبل الإسلام، وقد رأينا دولاً عظمى لم تفِ بالعهد وكذبت في عهودها فبدّد الله شملَها وعادت من الدول الفقيرة الحقيرة. (3)

وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»، حتى بالغ في ذلك -صلى الله عليه وسلم- فقال: «والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني» وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما، ويخصّ أيضاً من هذا العموم يمين اللغو، لقوله سبحانه: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم} [البقرة:225] (4)

يقول سيد قطب –رحمه الله-: وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبداً، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به. وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعاً منكوثة ومحلولة! وكل جزئية من جزيئات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود. وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه!

وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن محمداً ومن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية. فنبههم إلى أن هذا ليس مبرراً لأن يتخذوا أقسامهم غشاً وخديعة فيتخلوا عنها: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي بسبب كون أمة أكثر عدداً وقوة من أمة. وطلباً للمصلحة مع الأمة الأربى.

ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقاً لما يسمى الآن «مصلحة الدولة» فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقاً «لمصلحة الدولة»! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهداً ولا تعاوناً على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب .. وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام.

والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر، وينبه الى قيام مثل هذه الحالة: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه: {إنما يبلوكم الله به}

ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه: {وليبيِّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة. (5)

 

الهوامش

(1)      أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري:2/320

(2)      التحرير والتنوير:13/214 بتصرف

(3)      تيسير التفسير للقطان:2/329

(4)      فتح القدير للشوكاني:4/258

(5)      في ظلال القرآن:4/486

 


د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق