الثلاثاء، 23 يوليو 2013

الصوم .. حصن المؤمن


عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-:
( الصيام جنة، وهو حصن من حصون المؤمن، وكل عمل لصاحبه، إلا الصيام، يقول الله: الصيام لي و أنا أجزي به ) (1)

الصوم عبادة السادات، وعبادة السادات سادات العبادات، وأحلى أعطيات الصوم وأغلى معانيه «الإخلاص»، والإخلاص تجرد وخلاص، والصوم هو العبادة الوحيدة التي خصت بالنسبة إلى الله تعالى: (الصيام لي وأنا أجزي به)
·       الصيام جٌنة
الجنة بضم الجيم: كل ما ستر ومنه (المجن) وهو الترس، وإنما كان الصوم جنة لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات. قال ابن الأثير في النهاية: معنى كونه جنة، أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات (2)
وقال المناوي: (الصيام جنة) أي سترة بين الصائم وبين النار، أو حجاب بين الصائم وبين شهوته، لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة.
وقال أيضا: (الصيام جنة) أي ترس يدفع المعاصي أو النار عن الصائم، كما يدفع الترس السهم. (3)
وقال أيضا: (الصوم جنة) وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة وحفظ الجوارح، وفي الآخرة من النار لأنه يقمع الهوى ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان، فإن الشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه) (4) فإذا ملأ بطنه انتكست بصيرته وتشوشت فكرته وغلب عليه الكسل والنعاس فيمنعه عن وظائف العبادات، وقويت قوى البدن وكثرت المواد والفضول فينبعث غضبه وشهوته وتشتد مشقته لدفع ما زاد على ما يحتاجه بدنه فيوقعه ذلك في المحارم، قال بعض الأعلام: صوم العوام عن المفطرات، وصوم الخواص عن الغفلات، وصوم العوام جنة عن الإحراق، وصوم الخواص جنة لقلوبهم عن الحجب والافتراق. وقال صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة من عذاب الله) (5) فليس للنار عليه سبيل كما لا سبيل لها على مواضع الوضوء، لأن الصوم يغمر البدن كله فهو جنة لجميعه برحمة اللّه من النار . وقال ابن عبد: حسبك بهذا فضلا للصائم (6)
وقال القاري: الصوم ثالث أركان الإسلام، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجب لشيئين أحدهما ناشئ عن الآخر: سكون النفس الأمارة وكسر شهوتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: «إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها»، والناشئ عن هذا صفاء القلب عن الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيهما، وبصفائه تناط المصالح والدرجات. (7) 
 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال-صلى الله عليه وسلم-: (الصيام جنة، وحصن حصين من النار) (8)‌ قال المحقق أبو زرعة: من هذا الخبر أخذ جمع أن الصوم أفضل العبادات البدنية مطلقاً، لكن ذهب الشافعي إلى أن أفضلها الصلاة. (9)
وعن جابر -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (قال الله تعالى: الصيام جنة يستجن بها العبد من النار، وهو لي، وأنا أجزي به) (10) ‌قال المناوي ( … وأنا أجزي به) صاحبه بأن أضاعف له الجزاء بلا حساب، لأن فيه الإعراض عن لذات الدنيا والنفس وحظوظها، ومن أعرض عنها ابتغاء وجه اللّه لم يجعل بينه وبينه حجاب. واعلم أن الصوم من أخص أوصاف الربوبية إذ لا يتصف به على الكمال إلا اللّه تعالى، فإنه يطعم ولا يطعم، فإضافته إلى نفسه بقوله ( .. وأنا أجزي به) لكونه لا يتصف به أحد على الحقيقة إلا هو، لأنه الغني عن الأكل أبد الآبدين، ومن سواه لا بد له منه، وقد دعا الباري إلى الاتصاف بأوصافه وتعبدهم بها بعد الطاقة، والصوم من أخصها، وأصعب الأشياء على النفوس لكونه خلاف ما جبلوا عليه، لما أن وجودهم لا يقوم إلا بمادّة بخلاف الغنى عن كل شيء. (11)
الصيام حصن من حصون المؤمن
فالصوم رقة للقلب، وصيانة للجوارح، والصوم قطع لأسباب التعبد لغير الله تعالى، وهو شعار الأبرار كما صح عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يدعو ويقول: (جعل الله عليكم صلاة قوم أبرار، يقومون الليل ويصومون النهار، ليسوا بأثمة ولا فجار) (12)
قال ابن القيم رحمة الله تعالى عليه: ومن عقوبة المعاصي ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلا خائفا مرعوبا، فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا، ومن عصاه انقلبت مأمنه مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر، إن حركت الريح الباب قال: «جاء الطلب» وإن سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيرا بالعطب، يحسب كل صيحة عليه، وكل مكروه قاصد إليه، فمن خاف الله آمنه من كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء. (13)
 وقال أيضا: الطاعة حصن الرب تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين، فإذا فارق الحصن اجترئ عليه قطاع الطريق وغيرهم، وعلى حسب اجترائه على معاصي الله يكون اجتراء هذه الآفات والنفوس عليه، وليس شيء يرد عنه، فإن ذكر الله وطاعته والصدقة وإرشاد الجاهل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقاية ترد عن العبد، بمنزلة القوة التي ترد المرض وتقاومه، فإذا سقطت القوة غلب وارد المرض وكان الهلاك، ولا بد للعبد من شيء يرد عنه فإن موجب السيئات والحسنات يتدافع ويكون الحكم للغالب كما تقدم، وكلما قوى جانب الحسنات كان الرد أقوي (14)
الصيام لي
[ وفي رواية: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به … ) (15) فإضافة الصوم لله تعالى تشريفا لقدره وتعريفا بعظيم فخره، قال ابن عبد البر: كفى بقوله: (الصوم لي) فضلا للصيام على سائر العبادات (16)
فقوله تعالى في الحديث القدسي: (الصيام لي وأنا أجزي به) مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها، لأن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيرها، فإن حال الممسك شبعا مثل حال الممسك تقربا في الصورة الظاهرة. قال أبو عبيدة: إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم فعله، وإنما هو شيء في القلب، وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس.
وقال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: (يدع شهوته من أجلي) (17).
وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقل أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم.
ومعنى: (لا رياء في الصوم) أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها ] (18)
 وقال المناوي: والموجب لاختصاص الصوم بهذا الفضل أمران أحدهما :أن جميع العبادة مما يطلع عليه العباد والصوم سر بينه وبين اللّه يفعله خالصاً لوجهه ويعامله به طالما لرضاه، الثاني: أن جميع الحسنات راجعة إلى صرف المال فيما فيه رضاه، والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقص والتحول مع ما فيه من الصبر على مضض الجوع وحرقة العطش، فبينه وبينهما أمد بعيد لفراغه بغير قاطع أو لخلوصه للّه  (19)
و أنا أجزي به
قال ابن حجر في الفتح : ( … وأنا أجزي به ) أي أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. وقال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعنى رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبى صالح حيث قال: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به) أي أجازى عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] انتهى.
والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال. قلت: وسبق إلى هذا أبو عبيد في غريبه فقال: بلغني عن ابن عيينة أنه قال ذلك، واستدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات، وقد قال الله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (20)
وقال المناوي: (وأنا أجزي به) إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة الثواب، لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة اقتضى سرعة العطاء وشرفه، قال القاضي: ثواب الصائم لا يقدر قدره ولا يقدر على إحصائه إلا اللّه، فلذلك يتولى جزاءه بنفسه ولا يكله إلى ملائكته (21)

 

الهوامش والمصادر

 (1) ‌رواه الطبراني  في المعجم الكبير برقم 7608، والهيثمي في مجمع الزوائد ج: 3 ص: 180  (حسن) حديث رقم: 3881 في صحيح الجامع.السيوطي / الألباني (2) النهاية في غريب الحديث/ابن الأثير 3/586 ‌ (3) ( صحيح ) حديث 3865 في صحيح الجامع  (4) ( صحيح ) حديث 5674 في صحيح الجامع (5) ( صحيح ) حديث 3866 في صحيح الجامع (6) فيض القدير للمناوي في مواضع متعددة 2/458، 2/558، 3/256 (7) مرقاة المفاتيح / القاري 4/229 (8) رواه أحمد (حسن) حديث 3880 في صحيح الجامع (9) فيض القدير للمناوي 2/586 (10) (حسن) انظر حديث رقم: 4308 في صحيح الجامع (11) فيض القدير 1/588 (12) رواه عبد بن حميد والضياء عن أنس ( صحيح ) حديث 3097 في صحيح الجامع  (13) الجواب الكافي / ابن القيم ج:1 ص:50 (14) المصدر السابق (15) ( صحيح ) حديث 3877 في صحيح الجامع (16) سنن البيهقي 5/586 (17) ( صحيح )  انظر حديث رقم : 4538 في صحيح الجامع (18) نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان  د/ سيد العفاني ج1 ص 30 (19) فيض القدير 2/586 (20) فتح الباري ج4 / 130 (21)  فيض القدير / المناوي 4/251

 

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


الصوم بين الظاهر و الحقيقة



تقوم العبادات في الإسلام على ظواهر وحقائق لا يتم كمالها وتمامها إلا بأدائها، فالظواهر هي ما يتناوله الفقهاء بالحديث عن أركان وشروط العبادة، كوقت أدائها وكيفية الأداء والسنن والمستحبات المصاحبة لها والنواقض والبدع التي طرأت عليها.
وأما الحقائق فيقصد بها الأمور الباطنة الخاصة بروح العبادة، والمقصودة حقيقة منها كي تنال القبول عند الله تعالى ويكون عليها الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، كالإخلاص المنافي للرياء، والخشوع المنافي للغفلة.. وغيرها من الآداب والفضائل.
ونحن في حديثنا عن الظواهر والحقائق الخاصة بالعبادة لا نماثل ولا نوافق الفرق الضالة المبتدعة التي ظهرت في بعض العصور الإسلامية والتي قسمت الدين إلى ظاهر وباطن كالباطنية، أو التي قسمت الإسلام إلى شريعة وحقيقة كغلاة المتصوفة، وكان القصد خبيثا وراء تلك التقاسيم، لتفريغ الدين عن محتواه الحقيقي وتفسيره وفق أهوائهم، ونصرة آرائهم الباطلة.
بل إننا نعنى بحقيقة العبادة: تلك الآداب التي تلزم هذه العبادة كي تصل إلى درجة الكمال، وهو ما يتحدث عنه علماء السلوك والزهد والرقائق معتمدين في حديثهم على الفهم الصحيح للآيات القرآنية والسنة النبوية الثابتة عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
وحاجة العبادات لصلاح الظاهر والباطن أمرا معلوما من الدين بالضرورة، نجد له شواهد عديدة في الكتاب الجليل والسنة الصحيحة.
ففي الدعوة للإخلاص يقول تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة و ذلك دين القيمة } [البينة:5]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عند تلبيته بالحج: «اللهم حجه لا رياء فيها ولا سمعه»(1)
وفي الدعوة للخشوع يقول صلى الله عليه وسلم: «رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر»(2)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» (3) 
 وهذا الأمر يشمل الصيام أيضاً باعتباره من أجل العبادات، فالفقهاء عرفوا الصيام بأنه: «إمساك المكلف بالنية عن تناول المطعم والمشرب والاستمناء والاستقاء من الفجر إلى المغرب». وقسموه ثلاثة أقسام: واجب للزمان وهو صوم شهر رمضان، وواجب لعله وهو صوم الكفارات، وواجب بإيجاب الإنسان على نفسه وهو صوم النذور.
وكتب الفقه الإسلامي مملوءة بالعديد من الضوابط والأحكام الخاصة بالصوم كأركان الصيام ونوا قضه والقضاء والفدية والكفارات إلى غير ذلك من الأحكام.
وأما عن حقيقة الصيام فهناك العديد من الآداب التي لابد لها وأن تلازم الصائم كي يتم له صومه الحقيقي المتقبل عند الله تعالى، ولا يكون كمن قال فيه صلى الله عليه وسلم: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع»(4)
يقول الإمام الغزالي: «اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية، فهو إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه»(5).
وقال البيضاوى: «ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول».
ولا يتم الصوم الحقيقي إلا بالعديد من الآداب التي لابد أن يتحلى بها الصائم، نذكر منها:
·   الإخلاص: هو إفراد الله عز وجل بالقصد في الطاعات، فلا تؤدى إلا ابتغاء رضاه، لا من أجل مدح مادح، ولا لتحصيل منفعة دنيوية، قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعباده ربه أحداً} [الكهف:110] وعن أبى أمامه رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له» فأعادها ثلاث مرات، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا شيء له» ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً و ابتغى به وجهه» (6)
وقد يقدم بعض المسلمين على الصوم في رمضان حياء من الناس لا من الله، أو رغبة في منفعة شخصية لا ربانية، كحرج رب الأسرة أن يكون مفطراً وأولاده وزوجته صائمون، أو الخشية من تجريح وملامة الناس له على فطره، أو يجد البعض الصوم فرصة سانحة لتقليل الوزن، أو الراحة من آلام بالمعدة والقولون فيفضلون الصوم طلبا للصحة، أو مجرد التشاؤم من الفطر في هذا الشهر الكريم... أو غير ذلك من الأسباب. فلا يسعنا إلا أن نقول لمثل هؤلاء: صومكم فقد الإخلاص، الذي هو روحه وشرطا من شروطه الأساسية، وليس مقبولا عند الله تعالى بشهادة الله وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كانت له خالصة وابتغى بها وجهه. 
·   صوم القلب: وهو واجب في رمضان وغيره، ومتأكد في هذا الشهر الكريم العظيم لعظم حرمته ويكون بصون القلب عن الشركيات المهلكة والاعتقادات الباطلة والوساوس السيئة والنوايا الخبيثة والخطرات الموحشة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب»(7)                     
فرحم الله عبداً امتلأ قلبه إيماناً ويقيناً فانعكس ذلك على جوارحه فطلبت كل خير وابتعدت عن كل شر، والمؤمن الحريص على سلامه قلبه عليه أن يحذر وساوس ومداخل الشيطان إلى نفسه ومن أعظمها الغضب والشهوة والحسد والحرص والبخل والتعصب للمذاهب والأهواء.
وأمراض القلوب تجمعها أمراض الشهوات وأمراض الشبهات والقرآن شفاء للنوعين، وهذا الشهر المبارك هو شهر القرآن فأحرى بالمسلمين الإقبال على كتاب الله بتدبر وخشوع حتى تصح قلوبهم التي لا نجاه إلا لصاحبها يوم القيامة، قال تعالى: {يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:88]  وقال تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن:11] وهداية القلب أساس كل هداية ومبدأ كل توفيق.
·   صوم البصر: وذلك بغض البصر عن كل ما يحرم النظر إليه، قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } الآيات من سورة النور 30 31، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟ فقال: «اصرف بصرك»(8)، وكان عيسى بن مريم يقول: «النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة».
فالعين كما هو معلوم منفذ للقلب، وباب للروح فإذا خربت العين خرب القلب، وهي تزني وزناها النظر، والنظرة بريد الزنا وهي سهم مسمومة من سهام إبليس. قال شاة الكرمانى: «من غض البصر عن الحرام، وعمر باطنه بالتقوى، وظاهرة بإتباع السنة لم تخطئ له فراسة» وتلا قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر: 75]، فإطلاق البصر إلى ما لا يحل يحرك في المرء الشهوة الكامنة، ويوقع العبد في الغفلة وإتباع الهوى، ويطفئ نور الإيمان والبصيرة في القلب، ويستحكم الشيطان على المرء فيقوده للمعصية تلو الأخرى.
·   صوم اللسان: وذلك بحفظه عن الخوض في الباطل كالغيبة والنميمة والفحش والبذاء واللعن والسخرية من الخلق.. وغيرها من آفات اللسان المهلكة. قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه»(9). وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم»(10)
والمؤمن الصادق الإيمان لا يخوض في الباطل بأي حال من الأحوال، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»(11). وحفظ اللسان من الآداب الكريمة المؤكدة في حق الصائم. وصدق والله الحسن البصري في قوله: «ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه». وكيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة»(12)، وفصل الخطاب قوله صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا»(13)
فإلى الذين يبحثون عن التسلية في نهار رمضان، ويجلسون يقعون في هذا وفي هذا، ويخوضون في ما لا يرضى الله، نقول لهم : عليكم بكتاب الله تلاوة وتدبراً فإن فيه طهارة ألسنتكم وقلوبكم وجدير بمن صام لربه حقاً أن يقبل على كلامه، فيكون نوراً على نور وشفاءً على شفاء.
·   صوم الأذن: وذلك بكف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه كالغناء والفحش والبذاء، لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} [المائدة:63] والمؤمنون الصادقون هم الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فأجدر بالصائم سماع آيات كتاب الله والإقبال في هذا الشهر على سماع دروس العلم والمواعظ الحسنه، وتلك من كمالات الصيام الحق. قال تعالى {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص:55]
·   أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار: بحيث يمتلئ جوفه، وكيف يستفاد من الصوم في قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطرة ما فاته ضحوة نهاره، فرقه القلب وصفاؤه إنما تكون بترك الشبع، قال الجنيد: «يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة». فحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، ومن أكل كثيراً نام كثيراً فخسر كثيراً. قال الحسن: «حتى إذا أخذته الكظة، ونزلت به البطنة، قال: يا غلام، ائتني بشيء أهضم به طعامي، يا لكع أطعامـك تهضم؟ إنما تهضم دينك».
وأخيرا نقول للذين لا يراعون آداب الصوم: كفاكم جوعـاً وعطشاً، وأقبلوا على الله قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، إنه خير مسئول، وهو البر الرحيم ذو القوة المتين. وحسبكم هذه المقولة الرائعة لسيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه حيث يقول: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينه يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء».

الهوامش والمصادر
(1)رواه ابن ماجة عن أنس ( صحيح ) 1302 في صحيح الجامع (2) رواه ابن ماجة عن أبي هريرة ( صحيح ) 3488 في صحيح الجامع. ‌(3) رواه أحمد عن عمار بن ياسر ( صحيح ) 1626 في صحيح الجامع  (4) رواه ابن ماجة عن أبي هريرة   ( صحيح ) 3488 في صحيح الجامع  (5) إحياء علوم الدين 1 /277 (6) رواه النسائي عن أبي أمامة  ( حسن ) 1856 في صحيح الجامع  (7) رواه البخاري عن النعمان بن بشير – كتاب الإيمان رقم 50، ومسلم  كتاب المساقاة رقم 2996 (8) رواه أبو داود – كتاب النكاح رقم 1836 (9) رواه البخاري عن أبي هريرة – كتاب الصوم رقم 1770 (10) رواه مسلم عن أبي هريرة – كتاب الصوم رقم 1941   (11) رواه مسلم عن أبي هريرة – كتاب الإيمان رقم 67 (12) رواه مالك وأحمد عن بلال بن الحارث  ( صحيح ) 1619 في صحيح الجامع (13) رواه أحمد والترمذي عن ابن عمرو ( صحيح )  6367 في صحيح الجامع. ‌
-         نداء الريان       فقه الصوم    د / سيد العفانى – دار العلم ط الثانية
-         البحر الرائق        / أحمد فريد – مكتبة الإيمان – الإسكندرية
-         مجالس شهر رمضان /  العثيمين – مكتبة آل ياسر      - دروس الزمان  / سعيد عبد العظيم - مكتبة الإيمان – الإسكندرية

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


الاثنين، 22 يوليو 2013

صلاة التراويح.. وقفات فقهية (2)



صلاة التراويح من العبادات التي تحمل الكثير من الذكريات الرمضانية الجميلة حيث الاجتماع والوحدة وسماع القرآن بأصوات ندية والدعاء والتضرع والقنوت.. وكثير من العبادات الروحانية والإيمانية الرائعة.
ولما كان مقصد العبادة الأعظم القبول عند الرحمن والتطلع إلى خير جزاء في رحاب الجنان تحتم على كل مخلص أن يلم بأحكامها وآدابها رجاء نيل بركتها وعظيم ثوابها غير منقوص، وتخليصها من البدع والآفات التي ربما تعصف بها بالكلية ويصير تعبنا هباء منثورا.
لذلك رأيت أن أجمع من دقيق المسائل وغوامض الأسرار الفقهية ما تمس إليه الحاجة راجيا النفع لي ولعموم المسلمين، والله المستعان وعليه التكلان.

- الكلمة التي  يلقيها بعض الأئمة والوعاظ بين ركعات صلاة التراويح لا بأس به إن شاء الله، والأحسن أن لا يداوَم عليه، خشية أن يعتقد الناس أنه جزء من الصلاة، وخشية من اعتقادهم وجوبه حتى إنهم قد ينكرون على من لم يفعله.

- قال ابن عثينين: وارتياد الإنسان المسجد من أجل حسن القراءة، واستعانته بحسن قراءة إمامه على القيام لا بأس به، اللهم إلا إذا خشي من ذلك فتنة، أو خشي من ذلك إهانة للإمام الذي حوله، مثل أن يكون هذا الرجل من كبراء القوم، وانصرافه عن مسجده إلى مسجد آخر يكون فيه شيء من القدح في الإمام، فهنا قد نقول: إنه ينبغي أن يراعي هذه المفسدة فيتجنبها. [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (14/241، 242)]

- صلاة التراويح أربع ركعات أو أكثر بتسليمة واحدة دون الجلوس بين الركعتين ليس من السنة، قال الشيخ ابن باز:
"هذا العمل غير مشروع، بل مكروه أو محرم عند أكثر أهل العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشر ركعة، يسلم من كل اثنتين، ويوتر بواحدة) متفق على صحته والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وأما حديث عائشة المشهور: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن).. الحديث متفق عليه، فمرادها: أنه يسلم من كل اثنتين، وليس مرادها أنه يسرد الأربع بسلام واحد، لحديثها السابق، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) كما تقدم، والأحاديث يصدق بعضها بعضاً، فالواجب على المسلم أن يأخذ بها كلها، وأن يفسر المجمل بالمبين. [فتاوى إسلامية (2/156)].

- صلاة الوتر هي من صلاة الليل، ومع ذلك فهناك فرق بينهما.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " الوتر من صلاة الليل، وهو سنة، وهو ختامها، ركعة واحدة يختم بها صلاة الليل في آخر الليل، أو في وسط الليل، أو في أول الليل بعد صلاة العشاء، يصلي ما تيسر ثم يختم بواحدة ". [فتاوى ابن باز (11/309)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " والسنة قولاً وفعلاً قد فرقت بين صلاة الليل وبين الوتر، وكذلك أهل العلم فرقوا بينهما حكماً، وكيفية:
أما تفريق السنة بينهما قولاً: ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سال النبي صلى الله عليه وسلم كيف صلاة الليل ؟ قال: ( مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ) [رواه البخاري].
وأما تفريق السنة بينهما فعلاً: ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوتر. [رواه البخاري]، ورواه مسلم (1/51) بلفظ: ( كان يصلي صلاته بالليل وأنا معترضة بين يديه فإذا بقي الوتر أيقظها فأوترت ). وروى (1/508) عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها ). وروى (1/513) عنها حين قال لها سعد بن هشام بن عامر: أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: ( ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا ).
وأما تفريق العلماء بين الوتر وصلاة الليل حكماً: فإن العلماء اختلفوا في وجوب الوتر، فذهب أبو حنيفة إلى وجوبه، وهو رواية عن أحمد ذكرها في "الإنصاف" و "الفروع"، قال أحمد: من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل له شهادة. والمشهور من المذهب أن الوتر سنة، وهو مذهب مالك والشافعي.
وأما صلاة الليل فليس فيها هذا الخلاف، ففي "فتح الباري" (3/27): "ولم أر النقل في القول بإيجابه إلا عن بعض التابعين. قال ابن عبد البر: شذ بعض التابعين فأوجب قيام الليل ولو قدر حلب شاة، والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه ".
وأما تفريق العلماء بين الوتر وصلاة الليل في الكيفية: فقد صرح فقهاؤنا الحنابلة بالتفريق بينهما فقالوا: صلاة الليل مثنى مثنى، وقالوا في الوتر: إن أوتر بخمس، أو سبع لم يجلس إلا في آخرها، وإن أوتر بتسع جلس عقب الثامنة فتشهد، ثم قام قبل أن يسلم فيصلي التاسعة، ثم يتشهد ويسلم، هذا ما قاله صاحب "زاد المستقنع". [مجموع فتاوى ابن عثيمين (13/262-264)].
وبهذا يتبين أن صلاة الوتر من صلاة الليل، ولكنها تخالف صلاة الليل في بعض الفروقات، منها: الكيفية.
الأفضل في صلاة التراويح أن تُصلى إحدى عشرة ركعة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان وغيره، فيصلي ركعتين ركعتين.. ثم يوتر بثلاث، ولو زاد المصلي عن إحدى عشر أو نقص فلا حرج عليه.
وأما الصفة المسئول عنها فهي إحدى صفات صلاة الوتر، فعن عائشة رضي الله عنها – وسئلت عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان َيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لا يَجْلِسُ فِيهَا إِلا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّ التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ) [رواه مسلم ( 746 )].
قال ابن القيم – في بيان أنواع قيام ووتر النبي صلى الله عليه وسلم -:
" النوع الخامس: تسع ركعات يسرد منهن ثمانيا لا يجلس في شيء منهن إلا في الثامنة، يجلس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ثم يقعد ويتشهد ويسلم ثم يصلي ركعتين جالسا بعدما يسلم ". [زاد المعاد ( 1 / 317 )].
وقد ظن بعض الناس أن هذه الأحاديث معارضة لما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم ( صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ) وليس الأمر كذلك؛ لأن هذا الحديث وارد في صلاة قيام الليل، والصورة التي ذكرناها والواردة في السؤال إنما هي في صلاة الوتر.
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق أحاديث في أنواع وتره صلى الله عليه وسلم:
" وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها، فَرُدَّتْ هذه بقوله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الليل مثنى مثنى ) وهو حديث صحيح، ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالتسع والسبع والخمس، وسننه كلها حق يصدق بعضها بعضا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها ( مَثْنَى مَثْنَى ) ولم يسأله عن الوتر، وأما السبع والخمس والتسع والواحدة: فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة كان الوتر اسما للركعة المفصولة وحدها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَهُ مَا صَلَّى ) فاتفق فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، وصدَّق بعضُه بعضاً ". [إعلام الموقعين ( 2 / 424، 425 )].
وعلى هذا، فصلاة التراويح لا تصلى تسع ركعات متصلة بتشهدين وسلام واحد، وإنما الذي يُصلى كذلك هو صلاة الوتر.

- من السنة أن يقرأ في الركعة الأولى من ثلاث الوتر: ( سبح اسم ربك الأعلى )، وفي الثانية: ( قل يا أيها الكافرون )، وفي الثالثة: ( قل هو الله أحد ) ويضيف إليها أحياناُ: ( قل أعوذ برب الفلق ) و ( قل أعوذ برب الناس ).
وله أن يصلي ركعتين ( بعد الوتر إن شاء )، لثبوتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً بل قال –صلى الله عليه وسلم-: " إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم، فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له ". والسنة أن يقرأ فيهما: {إذا زلزلت الأرض} و {قل يا أيها الكافرون}.
وثبت في صحيح مسلم (738) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعد الوتر وَهُوَ جَالِسٌ. قال النووي رحمه الله: الصَّوَاب: أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَهُمَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد الْوِتْر جَالِسًا; لِبَيَانِ جَوَاز الصَّلَاة بَعْد الْوِتْر، وَبَيَان جَوَاز النَّفْل جَالِسًا، وَلَمْ يُوَاظِب عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فَعَلَهُ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّات قَلِيلَة.
وقال الشيخ ابن باز أيضاً في بيان الحكمة من صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين بعد الوتر ما نصه: والحكمة في ذلك – والله أعلم- أن يبين للناس جواز الصلاة بعد الوتر.

- إذا كنت إماما وتريد أن تصلي التهجد بالليل، فإنه يجوز لك أن تصلي الوتر بالجماعة ثم تصلي بعد ذلك ما شئت من الركعات ركعتين ركعتين، ولا تعيد الوتر. ولك أن لا تصلي الوتر مع الجماعة، وتؤخر الوتر حتى يكون آخر صلاتك بالليل. وعليك في هذا مراعاة الجماعة الذين يصلون معك، فإن كان لا يوجد أحد يصلي بهم الوتر غيرك، وعدم صلاتك بهم سيؤدي إلى تركهم للوتر أو لا يحسنون صلاته، فصلّ بهم الوتر.

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


الأربعاء، 17 يوليو 2013

صلاة التراويح.. وقفات فقهية (1)



صلاة التراويح من العبادات التي تحمل الكثير من الذكريات الرمضانية الجميلة حيث الاجتماع والوحدة وسماع القرآن بأصوات ندية والدعاء والتضرع والقنوت.. وكثير من العبادات الروحانية والإيمانية الرائعة.
ولما كان مقصد العبادة الأعظم القبول عند الرحمن والتطلع إلى خير جزاء في رحاب الجنان تحتم على كل مخلص أن يلم بأحكامها وآدابها رجاء نيل بركتها وعظيم ثوابها غير منقوص، وتخليصها من البدع والآفات التي ربما تعصف بها بالكلية ويصير تعبنا هباء منثورا.
لذلك رأيت أن أجمع من دقيق المسائل وغوامض الأسرار الفقهية ما تمس إليه الحاجة راجيا النفع لي ولعموم المسلمين، والله المستعان وعليه التكلان.

- عن جابر رضي الله عنهما لما ذكر مواقيت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والعشاء أحياناً يؤخرها، وأحياناً يعجل، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر " [البخاري 1/141 ومسلم 646] وقد اعتاد الناس في بعض البلاد تأخير صلاة العشاء في رمضان نصف ساعة أو نحواً من هذا عن أول وقتها، حتى يفطر الناس على مهل ويستعدوا لصلاة العشاء والتراويح. وهذا العمل لا بأس به، بشرط ألا يؤخر الإمام الصلاة إلى حد يشق على المأمومين. والأولى في هذا الرجوع إلى أهل المسجد، والاتفاق معهم على وقت الصلاة، فهم أعلم بما يناسبهم.

- سميّ قيام الليل في رمضان بصلاة التراويح لأنّ السّلف رحمهم الله كانوا إذا صلّوها استراحوا بعد كلّ ركعتين أو أربع من اجتهادهم في تطويل الصلاة اغتناما لموسم الأجر العظيم وحرصا على الأجر المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) [رواه البخاري]

- إذا دار أمر صلاة التراويح بين الصلاة أول الليل مع الجماعة، وبين الصلاة آخر الليل منفرداً، فالصلاة مع الجماعة أفضل، لأنه يحسب له قيام ليلة تامة. قال البهوتي في "دقائق أولي النهى" (1/2245):
وَالتَّرَاوِيحُ بِمَسْجِدٍ أَفْضَلُ مِنْهَا بِبَيْتٍ، لأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَةً، كَمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ، وقال صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ).

- ينبغي التنبيه على أن من قال من الأئمة بأن الإنفراد في صلاة التراويح في البيت أفضل من الجماعة في المسجد إنما هو لمن كان يحفظ شيئاً من القرآن – أو القرآن كله – ويقوى على الصلاة في البيت ولا يخاف الكسل فتضيع عليه الصلاة، وأن لا تنقطع الجماعة في المسجد بانقطاعه، وهذا الشروط إن لم تتحقق فلا شك أن صلاة التراويح في المسجد جماعة أفضل عندهم. وهناك شرط خاص وهو أن يكون المصلي في بيته منفرداً - مفضِّلاً له على الصلاة في الحرمين - من أهل الحرمين ؛ فالقادم للحرم المكي – ومثله القادم للمدينة للصلاة في المسجد النبوي - لأداء العمرة لا ينطبق عليه أفضلية صلاة التراويح في بيته.
 قال محمد الدسوقي المالكي – رحمه الله -: "ندْب فعلِها في البيوت مشروط بشروط ثلاثة: أن لا تُعطل المساجد، وأن يَنشط لفعلها في بيته، وأن يكون غير آفاقي بالحرمين، فإن تخلف منها شرط: كان فعلُها في المسجد أفضل"[حاشية الدسوقي ( 1 / 315 )]

- إذا فاتتك صلاة العشاء، وجئت والإمام يصلي التراويح، فالأولى أن تدخل خلفه بنية العشاء، فإذا سلم أتممت صلاتك، ولا تصل منفردا، ولا مع جماعة أخرى، حتى لا تقام جماعتان في وقت واحد فيحصل بذلك تشويش وتداخل في الأصوات. لأن القول الراجح: أنه يجوز أن يأتمّ المفترض بالمتنفل بدليل حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، هي له نافلة ولهم فريضة.
قال الشيخ ابن عثيمين:
"إنما الذي أتوقف فيه: هو انتظارهم الإمام حتى يدخل في التسليمة الثانية [يعني الركعتين الأخريين]، ويتمون الصلاة معه: فإن هذا أتوقف فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتموا) فإن ظاهره: أن الإنسان يتم ما فاته مع إمامه وحده، يعني: ما ينتظر حتى يشرع الإمام في التسليمة الثانية، وإنما نقول: إذا سلَّم الإمام في الصلاة التي أدركتَه فيها: فأتِمَّ، ولا تنتظر حتى يدخل في صلاةٍ أخرى". [فتاوى نور على الدرب].
وقد رجح النووي رحمه الله جواز ذلك حيث قال:
ولو صلَّى العشاء خلف التراويح: جاز، فإذا سلَّم الإمام: قام إلى ركعتيه الباقيتين، والأولى أن يتمها منفرداً، فلو قام الإمام إلى أخريين من التراويح، فنوى الاقتداء به ثانياً في ركعتيه: ففي جوازه القولان فيمن أحرم منفرداً ثم نوى الاقتداء، والأصح: الصحة".
أما ما فاتك من التراويح فإن أردت الإتيان به، فإنك تشفع الوتر مع الإمام، ثم تصلي ما فاتك، ثم توتر. ومعنى شفع الوتر مع الإمام: ألا تسلم معه في صلاة الوتر، بل تقوم وتأتي بركعة ثم تسلم.

- ثبت أن عمر لما جمع الصحابة على صلاة التراويح كانوا يصلون عشرين ركعة، ويقرؤون في الركعة نحو ثلاثين آية من آي البقرة، أي: ما يقارب أربع صفحات أو خمساً، فيصلون بسورة البقرة في ثمان ركعات، فإن صلوا بها في ثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف.
هذه هي السنة في صلاة التراويح، فإذا خفف القراءة زاد في عدد الركعات إلى إحدى وأربعين ركعة، كما قال بعض الأئمة، وإن أحب الاقتصار على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة زاد في القراءة والأركان، وليس لصلاة التراويح عدد محدود، وإنما المطلوب أن تصلي في زمن تحصل فيه الطمأنينة والتأني، بما لا يقل عن ساعة أو نحوها.

- لا حرج في قراءة الإمام من المصحف في قيام رمضان، لما في ذلك من إسماع المأمومين جميع القرآن، ولأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة قد دلت على شرعية قراءة القرآن في الصلاة، وهي تعم قراءته من المصحف وعن ظهر قلب، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها أمرت مولاها ذكوان أن يؤمها في قيام رمضان، وكان يقرأ من المصحف، ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه معلقاً مجزوماً به.
لكن لا ينبغي حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح .. قال الشيخ ابن باز: " لا أعلم لهذا أصلا، والأظهر أن يخشع ويطمئن ولا يأخذ مصحفا، بل يضع يمينه على شماله كما هي السنة، يضع يده اليمنى على كفه اليسرى الرسغ والساعد ويضعهما على صدره، هذا هو الأرجح والأفضل، وأخذ المصحف يشغله عن هذه السنن، ثم قد يشغل قلبه وبصره في مراجعة الصفحات والآيات وعن سماع الإمام، فالذي أرى أن ترك ذلك هو السنة، وأن يستمع وينصت ولا يستعمل المصحف، فإن كان عنده علم فَتَح على إمامه، وإلا فتح غيره من الناس، ثم لو قدر أن الإمام غلط ولم يُفتح عليه ما ضر ذلك في غير الفاتحة إنما يضر في الفاتحة خاصة؛ لأن الفاتحة ركن لا بد منها أما لو ترك بعض الآيات من غير الفاتحة ما ضره ذلك إذا لم يكن وراءه من ينبهه، ولو كان واحد يحمل المصحف على الإمام عند الحاجة فلعل هذا لا بأس به، أما أن كل واحد يأخذ مصحفا فهذا خلاف السنة ".
وقال ابن عثيمين: حمل المصحف لهذا الغرض فيه مخالفة للسنة وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أنه يفوت الإنسان وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في حال القيام.
والثاني: أنه يؤدي إلى حركة كثيرة لا حاجة لها وهي فتح المصحف وإغلاقه ووضعه تحت الإبط.
والثالث: أنه يشغل المصلي في الحقيقة بحركاته هذه.
والرابع: أنه يفوت المصلي النظر إلى موضع السجود وأكثر العلماء يرون أن النظر إلى موضع السجود هو السنة والأفضل.
والخامس: أن فاعل ذلك ربما ينسى أنه في صلاة إذا لم يكن يستحضر قلبه أنه في صلاة، بخلاف ما إذا كان خاشعاً واضعاً يده اليمنى على اليسرى مطأطئاً رأسه نحو سجوده فإنه يكون أقرب إلى استحضار أنه يصلي وأنه خلف الإمام.

- من بدع صلاة التراويح الدعاء الجماعي بعدها، والوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة التراويح هو قول: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ويرفع صوته في الثالثة.
فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. [صحيح النسائي/الألباني (1653)].
ثم في صلاة الوتر سوف يقنت الإمام ويؤمن المصلون خلفه، كما كان يفعل ذلك أبي بن كعب رضي الله عنه لما صلى بالناس التراويح في عهد عمر رضي الله عنه، وهذا يغني عن إحداث هذه البدعة.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com