الأحد، 21 سبتمبر 2014

الذكاء التعليمي .. بوابة الإبداع والتميز



الضغط، والعجلة، وتكثيف المقررات الدراسية .. كلها محاولات حثيثة يطلق فيها الآباء لأنفسهم العنان من أجل تنمية واستثمار ذكاء أطفالهم، يحدوهم في كل هذا الرغبة العارمة بأن يكون ابنهم متميزا، وأن لا تضيع بواكير الذكاء وأمارات النباهة سدى، في الوقت ذاته لا ينتبهون إلى كونهم أطفالا وليسوا «روبوتات» قابلة للبرمجة وتكديس المعلومات، مع عدم التقدير الواقعي لمرحلتهم العمرية وما تتطلبه من احتياجات وتتمتع به من خصائص وقدرات .. لذا لا غرابة -مع سوء توظيف للطاقة الكامنة بالأطفال- أن نجدهم بعد فترة قصيرة يملون ويفترون، بل ويتمردون ويعزفون عن المعرفة والتعلم بالكلية.
بين القديم والحديث    
هناك علاقة وطيدة بين ذكاء الطفل وثقافته، بل إن الثقافة تنمي ملكة الإبداع لديه، لكن من الضروري التخلي تماما عن نظام مد الطفل بثقافة الذاكرة (الحفظ والتلقين) والاهتمام بمتابعة مواهبه وصقل الملكات الإبداعية لديه بطرق عملية باعتبارها أساساً للتكوين المعرفي والسلوكي في حياته المستقبلية، كما أن الاعتماد على الممارسة العملية والميدانية, تجعل خيال الطفل متجددا خصبا، وهذا أول طريق النبوغ والتميز، خاصة وأن التطور التقني والمعرفي الرهيب جعل من الحصول على المعلومات غالبا لا يشكل أية صعوبة، كما لن يشكل امتلاك المعلومات في المستقبل فارقًا جوهريًا بين الأمم والأفراد، وإنما سيكون التميز مرتكز أساسا على مهارات المجتمع في استخدام المعلومات وتحليلها وتوظيفها، ولذا فإن تنمية المهارات العقلية العملية لدى الأطفال ستكتسب أهمية بالغة.
ماهية الذكاء
«الذكاء» هو جوهر النشاط العقلي، وهو قدرة كامنة في الفرد تتشارك فيها عوامل عديدة، قاعدتها الأولية العوامل الوراثية (عامل داخلي) ثم يأتي دور الوسط والبيئة الاجتماعية والتعليمية (العوامل الخارجية)، فالذكاء كقدرة كامنة يمكن تعديلها عن طريق الاستثارة بالمؤثرات البيئة المختلفة.
وإن كان الذكاء -كما يرى علماء النفس- قد يتوقف كقدرة كامنة (عند عمر 15سنة تقريبا) شأنه في ذلك شأن النمو الجسمي، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة توقف التعلم والإنتاج العقلي واكتساب المهارات والخبرات الجديدة.
عوائق وعوارض
ثمة عوائق أسرية تعترض إبداعات الطفل مثل: التأنيب المبالغ فيه تجاه المحاولات الفاشلة أو حرمانه من التجريب والخطأ، والحماية الزائدة، ومقابلة استفسارات الطفل بنوع من السخرية أو الاستهتار، والإفراط في التدليل أو الإفراط في العقوبة والقمع، وتجاهل الحوارات معه والتي من شأنها أن توجه الطفل ذهنيا وتنظم أفكاره، خاصة وأن ملكة الخيال عند صغارنا تفوق تصوراتنا وعلينا تغذيتها، أيضا تجاهل هموم الطفل ومخاوفه، وعدم الإلمام بإمكاناته وقدراته الذاتية.
وفي المقابل لا يفوتنا أهمية العديد من العوامل المحفزة للقدرات العقلية لأبنائنا مثل: الاستقرار العائلي، والتغذية السليمة، والرعاية الصحية الجيدة، والرعاية الأسرية المتوازنة، حيث كشفت -مثلا- أحدث الدراسات النفسية عن أن احتضان الوالدين لابنهما الطفل واللمس على كتفه يزيد من ذكائه ونموه الطبيعي، إذ أنه يساعد على إفراز مادة «لاندروفين» في الجسم، وهي موصل عصبي يساعد على تخفيف العصبية والقلق النفسي والإحساس بالألم .. إن العقل ينشطه الأمن ويحجمه التوتر؛ ولذا تتضح أهمية الدعم المعنوي للطفل بالتشجيع والحب.   
رأي المختصين
تقول البروفيسيره (آنا جوزبينا ماتيولي) من معهد الدراسات التربوية في جامعة (لاسابينسا) في روما: «الطفل لا يعنيه المغزى أو المعنى من الوجود بقدر ما تعنيه تلك العلاقة المادية بينه وبين العالم الخارجي في درجات توازنها مع جسده وحواسه, لأن الطفل في حالة ذهنية تتميز بعدم القدرة على إدراك الفارق بين الواقع والخيال, أو بين الذات والموضوع, كما أنه عاجز عن التمييز بين ذاته والأشياء التي تحيطه, فالمكان والزمن والسبب كلها أمور بعيدة عن فهم الطفل وإدراكه بخاصة في مراحله المبكرة, كما أن التقدير الأخلاقي للسلوك لا يولد مع الطفل, وهو بالتالي لا يستطيع إدراك القيم الأخلاقية المتعارف عليها بيننا كالكذب والصدق والأمانة والسرقة.. الخ، فالطفل وهو ينتقل من سن إلى سن, لا يستطيع أفراد عائلته إدراك ووعي مراحل الانتقال, يعني إدراك الحاجات الجديدة التي تولد بفعل النمو, وحين يجد عدم تجاوب, يقود نفسه نحو الانعزال وتخمد حالة الإبداع عنده شيئاً فشيئاً».
مهارات عملية
كل مناحي النمو لها حد أقصى وحد أدنى، وإذا ما تحدثنا عن طبيعة أي مرحلة من عمر الطفل فإننا نتحدث في هذا الحيز، وبالتالي فإن تدخلنا لتنميتها واستثمارها إنما يكون محاولة لنصل بقدرات أبنائنا إلى حدها الأقصى داخل الحيز الممكن. أي أننا لابد ألا نكون مفرطين في توقعنا، وألا ندفع الطفل لتعلم ما لم يستعد بعد لتعلمه.
·  تعتبر الألعاب (الأنشطة الحسية الحركية) منذ بواكير الطفولة عامل جوهري في تنمية القدرات الإبداعية لأطفالنا، مثل ألعاب: الفك والتركيب وتنمية الخيال وتركيز الانتباه والاستنباط والاستدلال والحذر والمباغتة وإيجاد البدائل لحالات افتراضية متعددة.. يقول الخبراء: «يعتبر اللعب التخيلي من الوسائل المنشطة لذكاء الطفل وتوافقه، فالأطفال الذين يعشقون اللعب التخيلي يتمتعون بقدر كبير من التفوق، كما يتمتعون بدرجة عالية من الذكاء والقدرة اللغوية وحسن التوافق الاجتماعي، كما أن لديهم قدرات إبداعية متفوقة، ولهذا يجب تشجيع الطفل على مثل هذا النوع من اللعب، كما أن للألعاب الشعبية كذلك أهميتها في تنمية وتنشيط ذكاء الطفل، لما تحدثه من إشباع الرغبات النفسية والاجتماعية لدى الطفل، ولما تعوده على التعاون والعمل الجماعي، ولكونها تنشط قدراته العقلية بالاحتراس والتنبيه والتفكير الذي تتطلبه مثل هذه الألعاب» [كتاب الإنصات الانعكاسي]
·  تنمية ملكات «التفكير العقلي» للطفل مهم جدا عن طريق: الأطالس المصورة والكتب العلمية المبسطة وأفلام المغامرات والخيال العلمي، هذا فضلا عن المشاهدات اليومية لمفردات كثيرة من حولنا على أن تحكي لابنك ما يرى وكيف يعمل، والذي من شأنه أن ينمي ملكة «التفكير العلمي» لدى الصغير، ويشبع رغبته الجارفة في التعلم والاستكشاف، وينمي لديه «الذكاء المنطقي الرياضي». كذلك حفظ القرآن الكريم على قدر طاقته، وترديد الأناشيد الإسلامية، وقراءة القصص التربوية الهادفة، وحكي الحكايات دون الإسراف في الخيالي منها كي لا تشوه الحقائق من حوله.
·  البدء مع الأطفال بالمحسوسات والانتقال منها تدريجيًا إلى المعنويات والفرضيات، التدريب على رصد الملاحظات والانتباه لأدق التفاصيل، استشعار قيمة الأشياء الجميلة في الكون من حوله كالطبيعة وتناغم الألوان وعذوبة الأصوات المختلفة وقدرة الخالق سبحانه في الإبداع الكوني من حولنا .. كل هذا من شأنه أن يصقل الحس المرهف لديه، وينمي ملكة الخيال والوجدان، مع الاستجابة الجيدة والفعالة لكل المظاهر الإيجابية في حياته. 
·  الأنشطة الاجتماعية لها دور محوري في «الذكاء التعليمي»، كما تشكل أحد العناصر الهامة في بناء شخصية الطالب وصقلها، فهي تساعد الطلاب على التوافق السليم والمثابرة وتحمل المسؤولية والشجاعة والإقدام والتعاون وحسن استغلال أوقات الفراغ، ونقصد بالأنشطة الاجتماعية تلك الأنشطة المدرسية المختلفة (فعاليات اتحاد الطلاب، الهوايات المسرحية والرسم وفنون الخط والزخرفة .. )، والأنشطة الترفيهية في النوادي الاجتماعية (جماعة الكشافة، المسابقات الرياضية والثقافية..)، فضلا عن الأنشطة الرياضة التي تناسب سن وقدرات الطفل البدنية والنفسية.   
مجمل القول
 نستطيع أن نقول أن البيئة المحيطة بالطفل والمجتمع الذي نشأ فيه يتحمل مسئولية كبيرة تجاه تنمية ملكاته، وجعل التعليم نوع من المتعة أكثر منه نوع من المحنة، وتجربة جديرة بالمعايشة وليست مرحلة صارمة تنتهي بامتحان عصيب .. إن حصر الطالب في مجموعة من الدرجات والعلامات كفيل بأن يخنق نواحي الإبداع فيه، أما معايشة المعلومة وممارسة التجربة، كفيل بأن يفجر الطاقات الإبداعية، وينمي المدارك العقلية لدى الطفولة البريئة، فهل سيأتي اليوم الذي نجد فيه ثورة في مناهجنا التعليمية بما يضمن الرعاية المثالية للمبدعين الصغار.       

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


الأحد، 14 سبتمبر 2014

مناسباتنا الدينية وسياسة التفريغ من المضمون


تهل علينا في كل عام من شهر ربيع الأول مناسبة مولد الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حيث تعطل المصالح الحكومية في يوم أجازة رسمية، وينتشر باعة «حلوى مولد النبي» في كل الأماكن، ويقبل الناس علي شرائها وتناولها بشغف منقطع النظير، والكثيرون يخصون يوم 12 ربيع الأول بالتوسعة على الأهل وطبخ اللحم وما لذ وطاب من المأكولات، والمتدينون منهم يحرصون على المشاركة في الأمسيات الدينية التي تقام في هذا اليوم حيث تتلى في المساجد آيات من الذكر الحكيم وتنشد التواشيح ويتبارى البلغاء في إلقاء فصيح الكلمات حول حياة النبي العدنان.
ذكرياتي في الطفولة كانت لا تخرج عن هذا الإطار العام لتلك المناسبة، أما في مدرستي الابتدائية فكانت الاستعدادات لهذه المناسبة تنطلق قبلها بأيام عديدة لتجهيز يوم احتفالي يتشارك فيه التلاميذ بين مجموعات الأناشيد، وإلقاء الخطب المعدة سلفا، وبعض التمثيليات وتعليق الزينات، وغيرها من الأنشطة الاحتفالية، وأذكر أن معلمي -لعذوبة صوتي- كان يخصني بتلاوة الآيات الشهيرة من سورة الأحزاب في بداية الحفل المدرسي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}، ثم يقوم كبير معلمي اللغة العربية بإلقاء خطبة بليغة عن حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكانت خطبة طويلة، وكنا نتململ منها نحن الصغار، ولا نفهم من مفرداتها الكثير، فلقد كانت بمثابة استعراض للفصاحة والبلاغة أمام هيئة التدريس وضيوف الحفل من قيادات الإدارة التعليمية، وينتهي هذا اليوم بذكريات التخمة والحلوى والراحة من معاناة الاستذكار إلى أجواء الاحتفال والسمر.   
فلما كبرنا وعقلنا وقرأنا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وطالعنا السنن، وقفنا على روائع ومواقف خالدة في حياة سيد البشر، وتعرفنا على رسول الله النبي والقائد والمحارب والزوج والأب والصديق والمعلم والناصح والعابد والبليغ ... في منظومة بشرية رائعة لا تجد لها مثيلا بين عظماء الإنسانية.
وبالتالي أحسسننا بمدى الاستهتار الذي يخيم على الأجواء التعليمية والتربوية في حياتنا، واستشعرنا مرارة الفقد لهذه المثل والنماذج الرائعة التي نحن في أمس الحاجة إليها، بل تبين لنا أن الاهتمام بالقشور الاحتفالية وإهمال المضامين السلوكية كانت خدعة أو فخ وقعنا فيه. وهذا جر علينا ويلات وكوارث من قبيل تنظيم احتفالات بدعية أبعد ما تكون عن نهج الدين، وبالغنا خلالها في المأكل والمشرب والمديح، بل تجاوزت بعض المدائح النبوية حد الاعتدال إلى الشرك، فألصق البعض صفات ربوبية للنبي، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
كنا نخرج من مناسبة المولد النبوي خالي الوفاض من نور النبوة، وكان حظنا اللهو والفرح بذكرى ميلاد رجل لا نعرف عنه إلا النذر اليسير، وانقلبت المناسبة من محطة تربوية نتعرف خلالها على شخصية الرسول وقيمه وتعاليمه المباركة إلى ساحة للملذات والتجاوزات.
أنا لا أمهد بهذه الأسطر إلى تغيير نمط الاحتفال بمناسبة مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فجمهور العلماء يقولون ببدعيته هذه الاحتفالات، وعلى مر التاريخ الإسلامي الأغر لم نجد أحدا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الثقات احتفل بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما انتشرت هذه البدع مع انتشار الجهل، وسيطرة الدولة العبيدية (الفاطمية) الشيعية على أنحاء من العالم العربي، فرسخوا هذه المظاهر الاحتفالية تملقا للشعوب السنية، ودعوى شكلية منهم لمحبة النبي وآل بيته.
لكن أعود وأنبه أن ذكرى المولد النبوي لابد وأن تتجاوز حدود الشكليات والملذات، وأن تكون مناسبة دعوية راقية تقترب فيها الأجيال أكثر من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلابد أن ننجح إعلاميا وسلوكيا في التعريف برسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المستوى المحلي والعالمي، وأن يكون حظ البشر في هذه المناسبة زيادة معرفة بالسنة المحمدية وصاحبها.
إن أمامنا العديد من القضايا الهامة التي تمس واقع علاقتنا بالنبي العدنان وهديه المبارك للأنام، فبداية لابد أن نكون على قناعة تامة بأن محبة النبي تنبثق من المعرفة الجيدة بشخصه وهديه، وامتثالها في حياتنا واقعا عمليا، وإلا تحولت إلى محبة فارغة من مضمونها، وصار حظنا منها المظهر وليس الجوهر، ومن هذا المنطلق لابد أن تكون ذكرى المولد النبوي فرصة سانحة لتسليط الأضواء أكثر على السيرة النبوية والسنن المصطفوية، وأن تكون فرصة لزيادة المعرفة بين الأجيال والتي تفرز زيادة المحبة الباعثة على الامتثال العملي لهدي النبي في كل أمر.
وهذا الجهد المعرفي يقع بلا شك على عاتق وسائل الإعلام والدعاة لمحو الأمية الدينية عن السيرة النبوية والسنن القولية والفعلية، فلا ينكر منصف أن إهمال القضية الإعلامية والمعرفية أفرز أجيالا تعاني من أمية دينية مزمنة لا يعرف فيها شبابنا إلا النذر اليسير عن روعة هذا الدين، بل نشأت أجيالا لا تعرف الفرق بين مسند أحمد ومعجم الطبراني وسنن الترمذي، فكيف بالله عليكم ستستقي العلم النافع من هذه الكنوز والموسوعات الحديثية.
ومن القضايا الملحة أيضا توظيف السنة النبوية في حل القضايا المعاصرة، انطلاقا من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- « تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض» [صحيح الجامع:2937]، وهذا فقه دقيق في غاية الأهمية، والمسئولية تقع فيه على علمائنا الأجلاء من أهل الخير والصلاح والنباهة، وإن كان علماء السلف ما قصروا في هذا الجانب خدمة لأهل عصرهم، واستنبطوا الحلول للمسائل المستجدة في زمانهم، فأولى بعلمائنا أن لا يدخروا وسعا في هذا الجانب المعاصر الهام، فمعين السنة متدفق لا ينضب، وعندنا من القضايا المعاصرة ما تحتاج لهدي النبي وسيرته، خاصة وأننا في عصر لا نعيش فيه بمفردنا، وتشابكت أحداثة، وتعقدت ظروفه، وهناك من التيارات الخارجية المعادية التي لا تريد أن تقوم لنا قائمة، فالاعتبار بفقه الأولويات صار ضروريا، ومن الكياسة أن نحدد ما هو مهم وما هو أهم، وسنة التدرج لابد أن لا تغيب عن اعتباراتنا وتقديرنا للمواقف.
أما الطنطنة حول التنازلات وهدم ثوابت الدين، وغيرها من الشعارات الحماسية، فهذا محض تحجر لن يخدم قضايانا في شيء، فما من شك أن لكل عصر ظروفه ولكل مرحلة أحكامها .. وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخفى وأصحابه في دار الأرقم إبان مولد الدعوة الإسلامية بمكة، وسياسته في عهد الاستضعاف المكي غير عهد التمكين المدني، بل في غزوة الأحزاب أراد أن يصالح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدي قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراودة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال: ( إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ).. والكثير والكثير من المواقف التي تتبنى فقه المرحلة، وتحدد الأولويات ضمن الأطر العامة للشريعة الإسلامية التي جاءت لحفظ مصالح الناس لا لتعطيلها.
ومن القضايا الملحة في هذه المناسبة حوادث التهجم على شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء في الدانمرك برسوم كاريكاتورية مسيئة أو أمريكا أو غيرها من دول الغرب .. إنها نقطة إنذار هامة يجب أن نستفيق من خلالها، وأن لا يكون حظنا منها مجرد الاستهجان والاستنكار والشجب والإدانة .. لابد أن نكون صرحاء مع أنفسنا وأحوالنا، ونتلمس مكمن الجرح ولا نخاف من مواجهة واقعنا، فما تجرأ علينا الأعداء إلا لضعفنا على كافة المستويات الدينية والتعليمية والاقتصادية والحربية... فهان قدرنا لما ضعفت شوكتنا، ولو كنا نستطيع الرد العملي الفوري لما حدثت أحد نفسه الشريرة بالخوض في رموزنا وثوابتنا. وهذا يدعونا لأن نفكر في مراجعة أوراقنا جيدا، ونعلم أن جرم الاعتداء على شخص الرسول الكريم لنا فيه حظا وعلينا فيه بعض التبعة، بضعفنا وتخاذلنا حتى صرنا لا العير ولا في النفير.
تلك كانت بعض الهموم والشجون حول مناسبة مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذه المناسبة التي تحتاج منا لحسن التوظيف، والاستفادة من نبعها المتدفق، لا أن يصير حظنا منها ماراثونيات احتفالية فارغة، دون فائدة تذكر ولا مواقف تعدل، ولا محاسبة ومراجعة لأحوالنا التي باتت لا ترضي الله تعالى ولا رسول -صلى الله عليه وسلم-.

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com