الخميس، 31 أكتوبر 2013

صدى الحياة


 

يحكى أن أحد الحكماء خرج مع ابنه خارج المدينة ليعرفه على تضاريس الحياة في جو نقي بعيد عن صخب المدينة وهمومها .. سلك الاثنان وادياً عميقاً تحيط به جبال شاهقة، وأثناء سيرهما، تعثر الغلام في مشيته وسقط على ركبته فصرخ على إثرها بصوتِ مرتفع تعبيراً عن ألمه: آآآآه فإذا به يسمع من أقصى الوادي من يشاطره الألم بصوت مماثل:  آآآآه

نسي الغلام الألم، وسارع في دهشةٍ سائلاً عن مصدر الصوت: من أنت؟ فإذا الجواب يرد عليه سؤاله: من أنت؟

انزعج الفتى من هذا التحدي بالسؤال فرد عليه مؤكداً: بل أنا أسألك من أنت؟ ومرة أخرى لم يكن الرد إلا بنفس الجفاء والحدة: بل أنا أسألك من أنت؟

فقد الغلام صوابه بعد أن استثارته المجابهة في الخطاب، فصاح غاضباً: " أنت جبان " وبنفس القوة يجيء الرد : " أنت جبان " 

وقبل أن يتمادى في تقاذف الشتائم تمالك الابن أعصابه وترك المجال لأبيه لإدارة الموقف .. لقد أدرك الصغير أنه بحاجة لأن يتعلم فصلاً جديداً في الحياة من أبيه الحكيم الذي وقف بجانبه دون أن يتدخل في المشهد الذي كان من إخراج ابنه.

تعامل - الأب كعادته - بحكمة مع الحدث، وطلب من ولده أن ينتبه للجواب هذه المرة، وصاح في الوادي: "إني أحترمك" كان الجواب من جنس القول كالعادة، وجاء بنفس نغمة الوقار: " إني أحترمك " .. تعجب الغلام من تغير لهجة المجيب، ولكن الأب أكمل المساجلة قائلاً: " كم أنت رائع " فلم يقل الرد عن تلك العبارة الراقية: " كم أنت رائع ".

ذهل الغلام مما سمع، ولم يفهم سر التحول في الجواب، ولذا صمت بعمق لينتظر تفسيراً من أبيه لهذه التجربة الفيزيائية .. علق الأب الحكيم على الواقعة بهذه الحكمة قائلا: " أي بني: نحن نسمي هذه الظاهرة الطبيعية في عالم الفيزياء ( صدى ) .. لكنها في الواقع هي الحياة بعينها .. إن الحياة لا تعطيك إلا بقدر ما تعطيها .. ولا تحرمك إلا بمقدار ما تحرم نفسك منها ... الحياة مرآة أعمالك وصدى أقوالك.

أي بني: هذه سنة الله تعالى التي تنطبق على شتى مجالات الحياة، وهذا ناموس الكون الذي تجده في كافة تضاريس الحياة .. إنه صدى الحياة .. ستجد ما قدمت وستحصد ما زرعت.

 

يقول عالم النفس الإرشادي «روجرز» -رائد الحركة الإنسانية في علم النفس- : " إن الناس قادرون على ضبط حياتهم، وتوجيه سلوكهم، واتخاذ قراراتهم، والتخطيط لمستقبلهم، وهم يحملون بداخلهم بذور سعادتهم، وهم ليسوا عبيداً للظروف البيئية، ولا رهائن للنزاعات الجنسية والعدوانية، وهم مسئولون أمام ذواتهم، ولا يحق لهم أن يلوموا إلا أنفسهم ".

قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 38-40]

الطريق من هنا

·   فكر في نفسك، وفي محيطك، وفي عملك، وفي نقاط ضعفك، وفي نقاط قوتك، وفي إمكانية تطوير مواهبك، وفي السبل الكفيلة لنجاحك، وفي تطوير أعمالك، وترميم إنجازاتك.

·   قم بعمل دراسة وافية لكافة المعارف والمهارات والإمكانيات التي تحتاجها للقيام بعمل ما والنجاح فيه، وطبق هذه الدراسة بجميع طرقها وإستراتيجيتها، وبالتالي سترفع من احتمالات نجاحك في هذا العمل بإذن الله تعالى.

·   أي شيء تريده في الحياة مهما كان شاقاً وصعب المنال تأكد أن بإمكانك الحصول عليه إن شاء الله تعالى .. فقط قم بكل شيء ممكن لتزيد من احتمالات الوصول إليه، ومهما يكن من ضآلة تأثير ما تقوم به من أمور، فقد يشكل هذا فارقاً في المستقبل لنجاحك أو إخفاقك في الحصول على ما تريد.

·   نظم حياتك ولا تجعل منها عرضة للعشوائية والتخبط، ضع خطة لمسيرتك، ونظام تمشى عليه لترفع من احتمالات بلوغك لأهدافك إلى الحد الأقصى. حدد أهدافك وكيف يمكنك بلوغها، وما الأشياء والأشخاص والأحداث التي تحتاجها لإحكام السيطرة الكاملة على كل جزء من حياتك .. لا تترك أي شيء للمصادفة، استخدم إمكانياتك الكاملة، واصنع واقع حياتك بنفسك.

·   سر على نفس طريق الناجحين أو كما يقولون عنهم «المحظوظين» وأفعل ما يفعلوه واتبع خطواتهم واستفد من خبراتهم وآرائهم لتحصل على النتائج ذاتها بإذن الله تعالى  .

·   أعمل ما تحب، واختر من الأعمال ما يتناسب مع قدراتك وإمكانياتك ومواهبك الفطرية، ولا تقوم بمهام تعجزك ثم ترجو منها نتائج جيدة .. دوماً اجعل مدخلاتك صحيحة لتحصل على النتائج المرغوبة أو المخرجات الصحيحة. زد دوماً من تحسين مقدار إنجازك فيما تريد النجاح فيه من أعمال فتصبح المحصلة النهائية نتيجة لعملك وليس ضربة حظ. وتذكر دائماً أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا.

من وعاء الحكمة

-      لا يهم أين أنت الآن، ولكن المهم إلى أين تتجه في هذه اللحظة.

-  قبل أن تتمكن من استغلال طاقاتك وإمكانياتك، يجب أن تحدد أولاً ما هي هذه الطاقات والإمكانيات .. «مايكل جوردن».

-      خير للإنسان أن يكون كالسلحفاة في الطريق الصحيح، على أن يكون غزالا في الطريق الخطأ.

-      الأيادي المنقوشة بالحناء لا تستطيع إدارة الرحى.

-      ليس للذل دولة، وليس للعبيد وطن.

 

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

السلبية في حياتنا



يحكى أن مجاعة حدثت بقرية فطلب الوالي من أهل القرية طلباً غريباً لمواجهة خطر القحط والجوع .. أخبرهم الوالي أنه سيضع قدرا كبيرا في وسط القرية، وعلى كل رجل وامرأة أن يضع في القدر كوبا من اللبن .. واشترط الوالي أن يضع كل شخص الكوب وحده دون أن يراه أحد .. هرع الناس لتلبية طلب الوالي .. تخفى كل منهم بالليل وسكب ما في كوبه، وفي الصباح فتح الوالي القدر .. ماذا رأى؟ أين اللبن؟ ولماذا وضع كل فرد من الرعية ماء بدلا من اللبن؟! .. لقد قال كل منهم في نفسه: إن كوبا واحدا من الماء لن تؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية .. كل منهم اعتمد على غيره ..كل منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر بها الشخص الآخر .. ظن كل منهم أنه الوحيد الذي سكب ماء بدلا من اللبن.
ما أكثر من يملئ منا الأكواب ماء لا لبنا، عندما لا يتقن أي عمل بحجة أنه لن يظهر وسط الأعمال الكثيرة والإنجازات المتراكمة .. إن أول طريق النجاح في الحياة هو نجاحك في إدارة ذاتك والتعامل مع نفسك بفعالية، فالفشل في إدارة النفس يؤدي غالباً إلى الفشل في الحياة عموماً، وربما إلى الفشل في الآخرة والعياذ بالله قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}  [الرعد: ١١].
وقد يظهر لنا أن بعض الناس نجح في حياته وإن فشل في إدارة ذاته. والحقيقة أن ذلك وهم خادع وطلاء ظاهر يخفي تحته الشقاء والتعاسة التي ستنكشف عند أول هزة, وبئس النجاح البراق الذي في داخل صاحبه غياهب من الشقاء وأكداس من التعاسة، وإن مرحت بصاحبه المراكب الفارهة وتبوأ في نظر الناس المناصب العالية أو امتلك الثروات الطائلة.
ولكي يصل الإنسان إلى إدارة جيدة لذاته عليه أن يتحاشى عبادة ذاته وانسحاقها .. أما عبادة الذات فهي عقدة نفسية تعزل الفرد عن بيئته، وأما انسحاقها فيؤدي إلى فقدان المرء هويته وشخصيته، نتيجة انصياعه الكلي لمعايير مجتمعه وتقاليده بصرف النظر عن موافقتها أو مخالفتها لمعايير الصواب.
وبداية لا بد أن نحدد أهدافا منطقية ومعقولة لحياتنا, فإذا قمنا ـ مثلا- بتحديد أهداف صعبة جدا فإن احتمالات الفشل ستكون كبيرة مما ينعكس على نفسيتنا بجو من الإحباط والعجز, أما تحديد أهدف ممكنة فسيجعلنا كلما حققنا هدفا زاد ذلك من تفاؤلنا واستمرارنا. وليس هنا المقصود أن لا نتطلع لإنجازات كبيرة بل أن نقوم بتقسيم أهدافنا على مراحل بحيث يصبح تحقيقها يبدو ممكنا.
كما ينبغي أن نفكِّر في البناء دائماً وأبداً، لأن التفكير الطموح يعشق الإنجازات ويعني أنه كلما نجحنا في عمل تولدت لدينا الرغبة لنتبعه بأعمال أخرى فيزداد رصيد إنجازاتنا تدريجيا .. وعندها نشعر بالارتياح والسّعادة. وهذه طبيعة وضعها الله في كلِّ إنسان، فهو يحبّ أن يرى نفسه قد حقّق شيئاً لنفسه وللآخرين لتكون لحياته معنىً وقيمةً وعطاء.
ولا يفوتنا أن نؤكد على وجود علاقة قوية بين الثقة بالنفس وبين الأفكار الايجابية، وفي المقابل بين الأفكار السلبية وبين الضعف والخور في الشخصية، فكلما قويت ثقة الإنسان بنفسه وكملت ثقته في قدراته وما يتحلى به من سمات وصفات ومواهب، كلما كانت شخصيته أكثر إيجابية وكانت كذلك أفكاره ايجابية عن نفسه وعن واقعه المحيط والآخرين, والعكس صحيح فكلما كانت ثقة الإنسان بنفسه ضعيفة مهزوزة كلما كانت أفكاره سلبية تشاؤمية.
إن الطريقة التي نعيش بها الحياة هي عبارة عن انعكاس لتصورنا عنها، وسلوكياتنا فيها وتعاملنا معها. لذلك فبإمكاننا أن نتعلم بعض الأساليب التي من شأنها أن تغير الطريقة التي نتعامل بها مع أنفسنا ومع الواقع, ولهذا يجب أن نبحث دائماً عن المفيد في كلِّ شيء وسنجده بين أيدينا بعد التدقيق والملاحظة والسّعي. مؤمنين دائما بأنّ النجاح مرهون بالعمل والصّبر والكفاح وتوفيق الله العلي القدير.
وربما يعتري النفس البشرية بعض من السلبية وعوامل الهزيمة، ولكن اللبيب القادر على أن يسيطر على نفسه يستطيع أن يحول عوامل الهزيمة والانكسار والسلبية إلى عوامل إيجابية، بل وتصبح هذه العوامل منشطات للدفع والتقدم، فعلينا أن نتحكم في سلوكياتنا، وأن لا نكون حبيسي أعمال قليلة الجدوى نكررها كل يوم. أما السلوكيات الجيدة فيمكن التعود عليها بل وإدمانها لتصبح لا إرادية بالتكرار، كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (تعودوا الخير، فإن الخير بالعادة) وخصوصا إذا أمعنا النظر في الجوانب الإيجابية في ذواتنا وأشخاصنا، وعملنا بشكل جاد على بناء الإيجابية في مجتمعنا، وقللنا من جرعة السلبية بدواخلنا وذوات الآخرين، وأن لا نستسلم للجانب السلبي، بل نجيد فنون التعامل معها من خلال الاستخدام الأفضل والاستفادة القصوى من طاقة النفس الإيجابية.

 

 د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


الجمعة، 25 أكتوبر 2013

الإمبراطور الصغير



«المراهقة» .. أخطر منعطف يمر به الشباب، وأكبر منزلق يمكن أن تزل فيه قدمه.. إنها طاقة متفجرة، وقدرات شبه مكتملة، ونشاطا يفرض نفسه على الأسرة والمجتمع، فإن لم يوجه ويستثمر بصورة مثالية، ضاعت تلك الطاقة وانشلت هذه القدرات، وبات النشاط عجزا؛ بسبب الإفراط أو التفريط في الطرق التربوية لهذه المرحلة المهمة.
وثمة فرق كبير بين البلوغ والمراهقة، ففي حين أن البلوغ هو بداية «إرهصات المراهقة»، إلا أنه تحديدا لا يعني سوى النضوج الجنسي والقدرة على الإنجاب، أما المراهقة فهي ثورة نضج جسمي وعقلي ونفسي واجتماعي في رحلة طويلة متدرجة تستغرق قرابة العشر سنوات قبل اكتمالها ووصولها للرشد والنضج التام.
مشكلات وتحديات
1- الصراع الذاتي: جولات الصراع الداخلي لدى المراهق تكاد لا تنتهي.. صراع محاولة الاستقلال وإثبات الذات، والحيرة بين مخلفات الطفولة ومسئوليات الرجولة، وجلد الذات نتيجة التقصير في الالتزامات، هذا فضلا عن ثورة الغرائز الداخلية، والمعاناة الفكرية نتيجة تزاحم المشاعر ورهافة الأحاسيس.
2- النزعة للتمرد: المراهق يكاد يكون في تباين دائم مع المحيطين، خاصة الآباء والمعلمين وكل من له دور توجيهي في حياته، كل هذا تحت دعوى أنهم لا يفهمونه، وأنهم من جيل وهو من جيل مغاير تماما، وفي حقيقة الأمر أنها محاول للتمرد على سلطة النظم السائدة، ورغبة في إثبات الذات ولو حتى بالمخالفة والمكابرة الغير منطقية.
3- الميل للعزلة: الأنماط الأسرية الفاشلة (التدليل أو القسوة الزائدة) من شأنها أن تخلق شابا عاجزا عن مواجهة مشكلاته، ويفضل الاعتماد على الآخرين في حلها، غير أن طبيعة مرحلة المراهقة تتطلب منه أن يستقل عن الأسرة ويعتمد على نفسه، ومن هنا تزداد حدة الصراع لديه، وقد يميل إلى الانسحاب من العالم الاجتماعي والانطواء والخجل المفرط.
4- السلوك المزعج: حيث يصاب المراهق بنوع من الأنانية الذاتية «الاستعظام الذاتي» والتمحور حول متطلباته فقط دون مراعاة ظروف الآخرين، فنجده صاحب سلوك نشاز (المجادلة بداعي وبدون داعي، حدة الطبع، العند والعصبية الزائدة، رفع الصوت، العنف والعراك الدائم مع إخوته).
وقد يتفاقم الأمر خاصة مع غياب الجو الديني والتقصير في إحاطة المراهق بمزيد من الحنان والاهتمام والتوجيه والعناية، فنجد الانحرافات الجنسية، بل ربما الميل الجنسي لأفراد من نفس الجنس، والجنوح، وانحرافات الأحداث (اعتداء، وسرقة، وهروب).
وتبقى أبرز المخاطر التي يعيشها المراهقون في تلك المرحلة: «فقدان الهوية والانتماء، وافتقاد الهدف الذي يسعون إليه، وتناقض القيم التي يعيشونها، فضلاً عن مشكلة الفراغ».
 فنون إرشادية
·   ينبغي أن نتعامل كآباء مع المراهقة على أنها مرحلة وليست حالة ثابتة ودائمة، فهذا من شأنه أن يهون علينا معاناتها وانتظارنا لتجاوزها، وهذا بالطبع يجعلنا نتعامل مع المراهق بانفتاحية أكبر  وتقبل أكثر، والتغاضي قدر الإمكان عن الهفوات والزلاّت، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يعجب ربك من شاب ليس لـه صبوة» [رواه أحمد والطبراني واختلف في تحسينه وتضعيفه، فحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/270، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع 1658]
·   المراهق يجيد فن السباحة ضد التيار في محاولة لإشباع رغبته في الاستقلالية، ولا أسلم في هذه المواقف من تفهم وجه نظر الأبناء فعليا لا شكليا، وإحلال لغة الحوار الحميمية بدلا من لغة إصدار الأوامر، وإفساح المجال العملي أمامه ليرتب حياته بصورة لائقة.. يقول التربويون: «إن من أكبر الخطأ أن يفسر الأب تصرفات ابنه على أنها تعدٍّ على مكانته وتحدٍّ لسلطته واستفزاز لكرامته، ويبدأ يستنفر قوته حتى يضعها في مواجهة عنيفة مع ابنه المراهق «صراع السيطرة»، هذا الناشئ الذي يلملم أطراف شخصيته .. هذا بدل أن يراعي تغيرات التي تعتري ابنه، ويصبر على اضطراباته .. إن كل مراهق ومراهقة بحاجة إلى تفهم والديه ومراعاة هذا الظرف المؤقت الخارج عن إرادته، وأن يقف معه لا ضده، ويراعون هذه الانفعالات التي تتراكم وتتجمع في نفس المراهق كما يتجمع الهواء الحار في القِدْر .. الانفعالات متراكمة في قلب صغير يضيق بها، يحتاج يخرج قليلاً من الهواء الحار، وفي لحظة إخراجه لهذا الهواء الحار يحتاج إلى معرفة كيفية إخراج هذه الانفعالات باللباقة والذوق ومراعاة الآخرين؛ لأنه في عالم ثان تشغله انفعالاته الداخلية عن تصرفاته الخارجية، ولا يخطر في بالك أنه يقصد إيذاء أحب الناس عنده».
·   على المستوى الأسري الأبوي لابد أن نعترف أن أغلبنا يعاني من أزمة استماع كل طرف للأطراف الآخرين داخل الأسرة الواحدة الصغيرة، وأن كلا منا يسمع نفسه ويردد أفكاره فقط، ويظن أن الطرف الآخر – خاصة الأصغر سنا- ليس لديه القدرة ولا الملكة التي تمكنه من التعبير عن نفسه وعن متطلباته وآماله وطموحاته وأفكاره، ويتهم بعضنا بعضا بالهامشية والسطحية، وكل منا يظن أنه يحتكر وحده الصواب.. إن المراهق في أشد الحاجة لمن يتسع له صدره ويستمع لدواخله دون مقاطعة أو تصيد للأخطاء، وأن لا نتجاهل أسئلته، أو نتنكر من إظهار عواطفنا تجاهه، فهو بحاجة لصديق ناضج أكثر من حاجته لأب لا يجيد غير التعليمات والتوجيهات، وهو بحاجة لمن يقدم له الدعم والمساندة والمشورة الصادقة والإجابة عن كل تساؤلاته بطريقة مقنعة.  
·   «البرمجة السلبية» من أخطر أساليب التعامل مع المراهق، مثل عبارات: أنت فاشل، عنيد، متمرد، اسكت يا سليط اللسان، أنت دائماً تجادل وتنتقد، أنت لا تفهم أبداً...إلخ؛ لأن هذه الكلمات والعبارات تستفز المراهق، وتزيد من معاناته الداخلية .. إن التركيز على الإشادة بالإيجابيات في شخصية ابنك –حتى ولو كانت صغيرة- كفيل بأن ينميها ويدفعها للأمام، وهذا أفضل بكثير من لغة التوبيخ المستمرة التي تولد بدواخله الإحباط واليأس، ولا ننسى أن أبنائنا لهم أعين يبصرون بها سلبياتنا أيضا، وليس من المعقول طلب المثالية منهم ونحن في واقع الأمر عاجزون عن تحقيقها مع ذواتنا، وهذا من شأنه أن يشعره بمرارة الضيم، وأنه مضطهد، ولا أشد من هذه المشاعر عليه التي تدعم رغباته في التمرد، وربما تؤدي إلى الجنوح في تصرفاته بصورة لا يحمد عقباها.
·   تلعب البيئة دورا هاما في عصبية المراهق، كنشأة المراهق في جو أسري مشحون بالعصبية والسلوك المشاكس الغضوب. كما أن الحديث مع المراهقين بفظاظة وعدوانية، والتصرف معهم بعنف، يؤدي بهم إلى أن يتصرفوا ويتكلموا بنفس الطريقة، هذا فضلا عن أن تشدد الأهل معهم بشكل مفرط، وتقييد حريتهم بالأوامر الصارمة، ومطالبتهم بما يفوق طاقاتهم وقدراتهم من التصرفات والسلوكيات، يجعلهم عاجزين عن الاستجابة لتلك الطلبات، ويثير مكامن العصبية والتمرد فيهم، ولذلك يبقى الترياق الناجح لكل هذه التوترات هو: الأمان، والحب، والعدل، والمرونة في التعامل، واحترام رغباتهم في المشاركة والاستقلالية.
يقول الدكتور (الحر): «فلا بد للمراهق من الشعور بالأمان في المنزل.. الأمان من مخاوف التفكك الأسري، والأمان من الفشل في الدراسة، والأمر الآخر هو الحب، فكلما زاد الحب للأبناء زادت فرصة التفاهم معهم، فيجب ألا نركز في حديثنا معهم على التهديد والعقاب، والعدل في التعامل مع الأبناء ضروري؛ لأن السلوك التفاضلي نحوهم يوجد أرضاً خصبة للعصبية، فالعصبية ردة فعل لأمر آخر وليست المشكلة نفسها، والاستقلالية مهمة، فلا بد من تخفيف السلطة الأبوية عن الأبناء وإعطائهم الثقة بأنفسهم بدرجة أكبر مع المراقبة والمتابعة عن بعد، فالاستقلالية شعور محبب لدى الأبناء خصوصاً في هذه السن، ولابد من الحزم مع المراهق، فيجب ألا يترك لفعل ما يريد بالطريقة التي يريدها وفي الوقت الذي يريده ومع من يريد، وإنما يجب أن يعي أن مثل ما له من حقوق، فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وأن مثل ما له من حرية فللآخرين حريات يجب أن يحترمها».
·   أشهر مظاهر المراهقة «العناد والتمرد»، وتصبح جماعة الأصدقاء أكثر أهمية من الأسرة، فكل ما يقوله الأصدقاء مرغوب ومقبول بعكس ما تطلبه الأسرة. ويرجع ذلك إلى رغبة الطفل في أن يدخل مجتمع الكبار وأن يستقل نوعاً ما عن أسرته.. ولذلك علينا تفهم ذلك جيدا، والوضع في الاعتبار أهمية الأصدقاء والصداقة بالنسبة للمراهق، وأن ينحصر دورنا كآباء ومربين على تدريب المراهق على فنون ومعايير اختيار الصديق، والتقييم الدوري أصدقائه لنبذ الطالح والتشبث بالصالح منهم في جو من الشورى والإقناع.   

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


















الأحد، 13 أكتوبر 2013

سبحان الله


ومضى شارون السفاح



بدأ جنرالاً وسفاحاً ويمينياً متشدداً مدافعاً عن أيّ وكلّ استيطان في فلسطين المحتلة .. إنه شارون، الجثة الثقيلة التي لم يكن من اليسير أن تنفلت من ذلك الإرث الدموي الثقيل لمجازر صبرا وشاتيلا، والصقر الذي حطّ علي منصة الكنيست في إهاب رئيس الوزراء بعد نحو عقدين من تلك التوصية الشهيرة التي قضت بحرمانه من شغل وظيفة وزير الدفاع .. إنه شارون الذي كان يلقّب بـ «البلدوزر»، وينبغي بعد ترأسه للوزارة الإسرائيلية أن يسير مثل غزال كما نصحته صحيفة نيويوك تايمز!
ولد أريئيل صموئيل موردخاي شرايبر في مستعمرة كفار ملال في فلسطين عام 1928 لأسرة بولندية هاجرت إلى القوقاز، حيث عمل والده في الزراعة هناك لبعض الوقت، وطوال فترة بقائه في القوقاز لم ينقطع يوماً عن الحديث إلى زوجته وأولاده عن حلم العودة إلى ما يسميه أرض الميعاد، ولم يطل المقام به في القوقاز فقرر الهجرة إلى فلسطين، وفي مستعمرة كفار ملال كانت ولادة الابن أريئيل الذي اشتهر فيما بعد باسم (شارون) أو (إريك) كما يناديه أنصاره.
كان والده يؤمن بأهمية الزراعة بالنسبة للأجيال اليهودية المهاجرة إلى فلسطين، فوجه ولده شارون إلى دراسة الزراعة، وعمل بالفعل في مزارع «الموشاف» لكن بعد فترة فضل شارون دراسة التاريخ والقانون بدلاً منها، فالتحق بالجامعة العبرية بالقدس، ثم أكمل تعليمه الجامعي في كلية الحقوق في تل أبيب.
في سن الرابعة عشرة انضم شارون لمنظمة «الهاجانا» اليهودية المحظورة التي سبقت تأسيس جيش الاحتلال الإسرائيلي. وقاد وحدة من المشاة في حرب 1948 وقام خلال الخمسينيات بقيادة عدة عمليات عسكرية إسرائيلية ضد وحدات عسكرية مصرية وأردنية.
فلقد فوجئ قادة الجيش الإسرائيلي بطلب من شارون يطلب فيه السماح له بتكوين سرية عسكرية من اليهود الذين يمضون أحكاماً طويلة في السجون الإسرائيلية، والمدهش أن قيادة الجيش وافقت على طلبه بعد أن اقتنعت بوجهة نظره، فكون تلك الفرقة عام 1952م وأطلق عليها «القوة 101»
كانت العملية الأولى التي قامت بها القوة 101 بقيادة شارون في قرية قبية الفلسطينية الحدودية التي كانت تعيش حالة من الأمان بسبب بعدها الجغرافي عن بؤر التوتر في الأرض المحتلة، لكنها لم تدر أن القوة 101 قد تخصصت في ترويع هذا النوع من القرى البعيدة حتى لا تفكر مطلقاً في العودة.
طوق المجرمون والمحكوم عليهم في جرائم قتل القرية، وأمطروها ليلاً بوابل من نيران المدفعية, فانهارت المنازل الفقيرة على رؤوس ساكنيها، وأسرعت القوة بعد ذلك في قتل كل من بقي حياً بعد القصف المدفعي، وكانت الحصيلة التي أعلن عنها حينذاك هي هدم 41 منزلاً وقتل 69 فلسطينياً، أكثرهم من النساء والأطفال.
بعد ذلك توزع جهد شارون بين القوة 101 التي كانت لها مهام خاصة مختلفة عن مهام الجيش الإسرائيلي المنظم، وبين قيادته للواء الإسرائيلي المدرع في جبهة سيناء الذي عين قائداً له قبل حرب 1956م (العدوان الثلاثي على مصر), وفي معركة العدوان الثلاثي الغاشم ارتكب شارون أخطاء عسكرية عندما خالف أوامر القيادة وتقدم نحو ممرات "متلا" واشتبك مع الجيش المصري في معركة شرسة انتهت باندحار اليهود الذين خلفوا وراءهم 40 قتيلا ومئات الجرحى، ويومها أخضع شارون للتحقيق، واتهمه بعض الذين عملوا تحت قيادته بأنه أساء القيادة والتصرف، وبأنه كان جبانا أيضا. وقررت قيادة جيش العدو آنذاك تجميد تقدمه في الرتب العسكرية.
سافر شارون عقب العدوان الثلاثي إلى فرنسا – أحد الدول التي اشتركت في العدوان إضافة إلى إنجلترا وإسرائيل- لدراسة العلوم العسكرية، وحصل منها على شهادة جامعية، أهلته لتولى مناصب عسكرية رفيعة في الجيش الإسرائيلي، فكان قائداً للواء مدرع في الفترة من 1956-1964، ثم رئيساً لهيئة أركان المنطقة الشمالية في الفترة من 1964-1969، ثم رائداً للمنطقة الجنوبية من 1969-1973، وقد عاد للممارسة هوايته في ترويع السكان الآمنين فقام خلال فترة تعيينه قائداً للمنطقة الجنوبية بإجلاء المئات من بدو رفح.
أما في حرب 1973 أصبح شارون بطلاً يهودياً قومياً حينما استطاع بمساعدة صور أقمار التجسس الصناعية الأمريكية فتح ثغرة في الدفاعات المصرية عقب انهيار خط بارليف الحصين، وأثار شارون ما سمي «حرب الجنرالات» عندما ادعى لنفسه إنجاز الثغرة عند الدفرسوار، وهاجم زملاءه وعرض حياة جنوده لأخطار لا داعي لها، بينما بقي هو في الخلف، حسب ما يتردد. 
فقد تبين أنه فعل ذلك من أجل إبراز شخصيته، ولم يتورع عن "خيانة" الجنود الصهاينة الذين كانوا يقاتلون تحت إمرة الجنرال (ادان) في الجبهة نفسها, ورفض تقديم العون الذي كانوا بأمس الحاجة إليه، وكل ذلك بهدف تحقيق المكاسب الشخصية المدعمة لطموحاته القيصرية.
بعد الحرب قدم شارون استقالته من الجيش ليبدأ معركة من نوع آخر في عالم الحكم والسياسة. حيث نجح في الفوز في أول انتخابات برلمانية يشترك فيها، فأصبح عضواً في الكنيست عن حزب الليكود اليميني المتشدد، وقد اختاره رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك (اسحق رابين) مستشاراً عسكرياً له عام 1975م، وكلفه بمهمة مكافحة الإرهاب.!!
وفي انتخابات نيابية أخرى عام 1977م استطاع شارون أن يفوز على رأس قائمة مستقلة به هو شخصياً بعيداً عن حزب الليكود، فاختاره (مناحيم بيجن) وزيراً للزراعة والاستيطان في وزارته الأولى. وقتها تذكر شارون ما كان يحكيه أبوه قديماً حينما هاجر إلى فلسطين واختار العيش في أحد المستوطنات ليمارس الزراعة، ووجه ولده لدراستها في بادئ الأمر، وتذكر وصيته بأهمية زراعة المستوطنات، فنشط في زيادة الرقعة الزراعية الإسرائيلية وزيادة أعداد المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية المصادرة. حيث عمد إلى زيادة عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة أربعة أضعاف ما كانوا عليه قبل ذلك.
كما قاد شارون عام 1982 الاجتياح الإسرائيلي للبنان وكان وقتها وزيرا للدفاع، وتعامل بعنف مع المقاومة الفلسطينية التي كانت تتخذ من بيروت الغربية مقراً لها، وأجبرها بعد حصار طويل على الخروج إلى تونس.
وأثناء الوجود الإسرائيلي في لبنان وقعت مجزرة «صبرا وشاتيلا» التي راح ضحيتها قرابة ألفي لاجئ فلسطيني، وحمَّلت لجنة تحقيق إسرائيلية مستقلة شارون المسؤولية. وزيادة على هذه المسؤولية فقد اتهم شارون بنشر أكاذيب عن هذه الحرب، وعن العملية العسكرية التي ستنتهي خلال يوم أو يومين ــ حسب زعمه ــ لكنها امتدت لتشمل قصف بيروت واقتحامها، وأدت في نهاية المطاف إلى غرق قوات الاجتياح في المستنقع اللبناني، قبل أن تدحرها المقاومة في الجنوب بشكل كامل في عام 2000.
وعلى خلفية تقرير لجنة "كاهان" الإسرائيلية الصادر في العام 1983، والخاص بالتحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا، اضطر شارون لمغادرة موقعه الوزاري بعد تأكيد تورطه في المجازر.
ثم انتخب شارون رئيسا للوزراء بعد هزيمة منافسه (إيهود باراك) في الانتخابات التي جرت في فبراير عام 2001، وكان العامل الأساسي وراء اختيار الناخب الإسرائيلي له هو رغبته في إعادة الأمن الذي افتقده تحت وطأة العمليات الاستشهادية التي ينفذها أفراد تابعون لمختلف فصائل المقاومة الفلسطينية. وقد تعامل شارون مع انتفاضة الأقصى بعنف أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف فلسطيني وجرح أكثر من ثلاثين ألفا آخرين.
ويعتبر شارون واحدا من أشد القادة العسكريين والإسرائيليين تشددا، فهو يرفض تقسيم القدس ويصر على أنها ستبقى العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، ويرفض كذلك مبدأ حق العودة للفلسطينيين اللاجئين، أو المساس بأي من المستوطنات الموجودة، ويسعى إلى تهويد الأراضي العربية بإقامة المزيد من المستوطنات عليها.
ومن أقواله المأثورة: «جميعنا يجب أن يتحرّك، أن يركض، يجب أن نستولي على مزيد من التلال، يجب أن نوسّع بقعة الأرض التي نعيش عليها. فكل ما بين أيدينا لنا، وما ليس بأيدينا يصبح لهم».
ويقول أيضا: «أتعهد بأن أحرق كل طفل فلسطيني يولد في هذه المنطقة، فالأطفال والنساء الفلسطينيون أكثر خطورة من الرجال؛ لأن وجودهم يعني استمرار أجيال قادمة من الفلسطينيين».
هذا ما قاله شارون في لقائه مع الجنرال (أوز ميرهرام) عام 1956، وتنقل صحيفة «فلسطين كرونيكل» الفلسطينية الصادرة بالإنجليزية، في عددها الصادر على الإنترنت الاثنين 1-4-2002، بقية حوار شارون الذي قال فيه: «أتعهد بأني حتى لو فقدت كل المناصب وأصبحت مواطنا إسرائيليا عاديا، فإنني سأحرق كل فلسطيني أقابله في الطريق، وسأجعله يتعذب قبل أن يموت»، ويضيف: «أنا لا تهمني الأعراف الدولية، فقد قتلت بضربة واحدة أكثر من 750 في رفح عام 1956، وأريد أن أشجع جنودي على اغتصاب الفتيات الفلسطينيات؛ لأنهن عبيد للإسرائيليين، ولا يملي أحد علينا إرادتنا، بل نحن من يصدر الأوامر، وعلى الآخرين الطاعة».
لم يكن شارون يفكر يوما أنه ربما سيواجه تلك اللحظة .. فالعجز والمرض أو فكرة الموت بشكل عام لم تشغل حيزاً في عقله، وهذا بحسب ما أكده المقربون منه، فكان دائم التصرف على أنه سيعيش ويعيش ويعيش، والدليل أنه رغم قربه من الثمانين لم يتردد في تأسيس حزبه الجديد «كاديما» حتى آمن أغلب من حوله بأنه سيعيش إلى الأبد، لكن «البلدوزر» شارون كان على موعد مع السقوط، وعند ذلك فقط أدرك أنه كما أن لكل شيء نهاية فإنه هو نفسه له نهاية!!

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com




السبت، 12 أكتوبر 2013

سيادة الشعوب


الحرية


رسالة إلى الرئيس بشار الأسد


في نشوة الحياة وبسطة السلطة والنفوذ قد تختلط الأوراق على النفس البشرية الضعيفة، وتختلط أيضا معها الحقائق بل المسلمات والبديهيات، حتى تصاب بنوع من عمى البصيرة، أو نوع من الرؤية بالمقلوب لترى المواقف على غير ما عليها بالحقيقة، وهنا تتوجب النصيحة من كل المحيطين، لعل النفس تفيق من سكرتها، وترتد إليها بصيرتها، فتدرك الواقع، وتحسن التصرف قبل فوات الأوان.
وهذه الحالة الاضطرابية تنطبق بحذافيرها على الرئيس السوري بشار الأسد، الأمر الذي قرر معه فتح نيران المدفعية الثقيلة على أبناء شعبه، فأردى منهم حتى الآن أكثر من خمسة آلاف قتيلا، فضلا عن الجرحى والمصابين.
من هنا وجبت المكاشفة، وإرسال النصيحة تلو النصيحة، والرسالة عقب الرسالة، وإن كان في طياتها بعض القسوة والفظاظة فهذا ما يقتضيه واقع الحال، كأشبه ما يكون بالصاعق الكهربي الذي يضعه الطبيب على صدر المحتضر لعله يستفيق وتعود إليه ضربات قلبه ونسمات روحه من جديد.
الرئيس بشار ..
ولدت وفي فمك معلقة من ذهب كما يقولون، فلقد ولدت ليس في قصر الرئاسة ولكن في قصر الملك، لأب ملك وإن سمى نفسه رئيسا للجمهورية العربية السورية .. ملك من نوع سلطوي، تملك بمنصبه سوريا كلها بشعبها وثرواتها ومقدراتها، وصار هو كل سوريا، فترعرعت في ظل الدكتاتورية التي لم تعرف غيرها، فوجدت في صباك ضابطا رفيعا بالجيش العربي السوري يفتح لك باب السيارة، وخادمة حسناء تكون بجوارك لا تنام عينها وأنت تغط في نومك، وأمانيك تتحقق قبل أن تكتمل معالمها في مخيلتك، وللدنيا عندك وجه واحد لا وجه سواه، هو وجه الخضرة والنعيم والمتعة والرفاهية.
كان أخوك الأكبر هو محط أنظار الجميع، فهو ولي العهد، والمشمول برعاية كل أساطين السياسة في القصر الجمهوري بدأ من الوالد المخضرم إلى أصغر فرد في الطغمة السورية الحاكمة، لكي يقود إرث سوريا بعد الوالد الفرعون الكبير، ولكن كان للأقدار حكما آخر، فلقد مات الدكتاتور الصغير في حادث سيارة مروع، واضطربت الترتيبات، فاستدعاك الوالد من بريطانيا وأنت طبيب العيون الماهر المسالم، ولا عهد لك بسياسة ولا قيادة، وأوكل لك ما كان مدبرا لأخيك، ثم كان للأقدار حكما آخر، حيث مات الوالد على عجل، وسنك لا يناسب رئاسة الملك حسب دستور البلاد، فما كان من الطغمة الحاكمة إلا أن غيرت الدستور ليناسبك أنت وحدك في أقل من نصف ساعة.
أي دنيا هذه التي لانت لك لينا، وخضعت لك خضوعا، لم يناله نبي مرسل ولا ولي مصطفى .. وأي أيام تلك التي تضحك لك سنوات وسنوات مديدة ولا تريك أحزانها ولا أتراحها، برغم أن كل البشر عهدها دنيا دنيئة، لا تستقيم على حال، وبقدر ما تضحكك مرة تبكيك مرات، وإذا أسعدتك نوبة تشقيك نوبات.
لقد غدرت بك الأيام على غرة، وتنكرت لك الأحداث على غفلة، فالشعب الذي لم تشعر به يوما قد انتفض، وعلا صوته، وأنت الذي لم تسمع له صوتا أبدا، وهذا يراجعك في أوامرك وذاك يحذرك وآخر يتبرأ منك، وأنت الذي كانت أعين الجميع معقودة على بنانك الصغير تنتظر أي أشارة منه لتلبي رغبته في سرعة البرق، وأنت الذي لم تسمع آذانك غير التصفيق الحار على كل جملة تخرج من ثغرك البسام، وأنت الذي لم تعرف الحواجز يوما ولا العقبات ولا المعارضات ولا المناكفات ولا المنغصات.
لكن من الحكمة اليوم أن تكون ابن المرحلة، ورجل الواقع، وتسأل نفسك بجرأة: لماذا تغير الحال؟ وتبدلت الأيام؟ وانتفضت الجماهير؟
والجواب لا يحتاج إلى قريحة فذة ولا عقلية جبارة، إنما يحتاج نبرة صدق ورؤية حق.. إنه «الظلم» يا سيادة الرئيس، الظلم الضارب في أعماق القطر السوري من أيام الوالد (حافظ الأسد) صاحب مذبحة حماة التي سميتها أنت «إنجازات»!!، وهددت الشعب السوري إبان انتفاضته أن تعيد أمجاد والدك في حماة، الظلم الذي دفعك لأن تضرب الأبرياء ذوي الصدور العارية بالمدفعية الثقيلة، وتهدم المآذن بطلقات مدافعك، وتجعل المعذبين يقولون: «لا إله إلا بشار»، ويسجدون لصورتك .. صدقني إن أناملي ترتجف وأنا أكتب هذه الفظائع، لكن المشكلة أنك تجاوزت بأزمتك حدود دماء شعبك، ووضعت نفسك في أزمة مع الله عز وجل بجبروتك، وصدق فيك قول الله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130]
هل الله عز وجل يحارب؟ وهل من حارب الله ينتصر؟ .. حاشا لله .. كلا وألف كلا.
قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ }[البروج:12] ولذلك إننا على يقين لا يعتريه أدنى شك أن الله سيرينا فيك آية من آياته، وقدرة من قدراته، وعجيبة من عجائبه، وما حتف القذافي منك ببعيد، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود:102]
لقد وضعت نفسك في فخ لا فكاك منه، ومصيدة أشبه بمصيدة العنكبوت كلما تحركت فيها أدنى حركة -ولو قيد أنملة- إلا والتفت عليك أكثر وتعقدت أكبر، فاستطابتك دماء الأبرياء جرم فاحش، فما بالك بالتطاول على الله، ونقد العهد الذي أولاك إياه من رعاية هذا الشعب.
لقد توعدت خصومك بأنك ستحرق المنطقة بأكملها، وكأنك تسير في طريق حتفك سيرا لا رجعة منه، ورغم كل العروض المغرية لك بترك السلطة والعيش آمنا في أحد الدول في بحبوحة من العيش، إلا أنك ركنت إلى قوتك، وهان عليك كل شيء في سبيل كرسي حتما أنت مفارقه، وأخذتك العزة بالأثم، فلا تفزعك صرخات المجروحين ولا دعوات المظلومين ولا آهات المكلومين، وركنت إلى آراء المضللين من حولك بأن الجيش ما زال متماسكا ومواليا، لكن متى توهب الجيوش الأمن الدائم للظالمين، وتعصم الطغاة من أخذات رب العالمين، وما مصارع الجبارين بخافية عليك.
سيادة الرئيس بشار..
لقد سبق السيف العزل، فلقد تعجلت نهايتك المأساوية، وحكمت على نفسك بلعنات التاريخ الأبدية، والأيام القلية القادمة حبلى بشر مصير لك، فارتقب إنا مرتقبون، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}[إبراهيم:42]. 

د/ خالد سعد النجار

طبيب وكاتب مصري
alnaggar66@hotmail.com