السبت، 12 أكتوبر 2013

رحيل شنودة والصخب الإعلامي المشبوه



رحل «البابا شنودة» عن عالمنا في صمت، لكن الإعلام المصري اندفع بصورة محمومة في تضخيم الحدث بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر، فلقد أعلنت بعض القنوات الحداد، وأخرى تبرعت بتغطية تفاصيل الحدث على مدار الثلاث أيام، وتعددت البرامج الحوارية والتحليلية، حتى بلغ العجب بالمصريين مبلغه، حيث لم يحدث هذا مع شخصيات أكثر منه بروزا في المجتمع المصري، كالشيخ الشعراوي أو الدكتور مصطفى محمود صاحب البرنامج التليفزيوني «العلم والإيمان» الشهير، أو حتى أي من شيوخ الأزهر السابقين.
هذا وإن كان البابا قد قدم للطائفة المسيحية الأرثوذوكسية خدمات جليلة إلا أن هذه الطائفة لا تمثل إلا أقلية (5-7 مليون) في عموم الشعب المصري المسلم الذي يقترب تعداده من 90 مليون نسمة، وكانت التغطية الإعلامية لوفاة البابا مبالغ فيها جدا جدا لدرجة أنها أثارت الكثير من التساؤلات حول سر هذا التسابق الإعلامي الجامح في مجاملة نصارى مصر.
فهل لرجال الأعمال المسيحيين المصريين دورا بارزا في تمويل هذه الفضائيات؟ أم أن هذه الفضائيات تخدم أجندات علمانية خاصة في مواجهة المشروع الإسلامي الكاسح للمشهد الشعبي والسياسي في مصر؟ أم أن البابا حقا كان يتمتع بتاريخ نضالي فريد كان من الواجب المهني الإعلامي تقديره؟
يُحسب لشنودة اعتراضه على اتفاقية السلام مع إسرائيل، منذ اليوم الأول من توقيعها، ورفضه الذهاب مع الرئيس "السادات" في زيارته إلى إسرائيل عام 1977م، ومعارضته لضم القدس، ومنعه للمسيحيين طيلة عهده من زيارتها احتجاجًا على سيطرة إسرائيل عليها، ورفضه أكثر من عرض إسرائيلي لزيارة مدينة القدس، وتأكيده أنه لن يدخلها إلا بمصاحبة أئمة المسلمين، ولن يحصل إلا على تأشيرة فلسطينية للدخول، إشارة منه بتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي قبل زيارتها.
كما يُحسَب له أيضًا رفضه استقبال لجنة الاضطهاد الديني التي أرسلها الكونجرس الأمريكي عام 1997م للتقصي عن أوضاع الأقباط في مصر، وأكد أن حل مشاكل أقباط مصر يتم داخل مصر وليس في الكونجرس الأمريكي.
لكن –على الجانب الآخر- لا يخفى على أحد الدور السياسي الذي لعبه البابا شنودة الثالث على مدى عقود ولاسيما خلال العــــقدين الأخيرين، حيث تجاوز دوره الديني وتحول مع الوقت إلى زعيم سياسي للأقباط، مستغلا تراجع قبضة الدولة وضعف النظام السياسي وشيخوخته في السنوات الأخيرة لحكم "مبارك"، الأمر الذي حّول الكنيسة إلى دولة داخل الدولة، وعزل الأقباط داخل جدران الكنيسة بدلا من انخراطهم في الحياة السياسية باعتبارهم مواطنين مصريين وليس باعتبارهم أقباطا.. لقد كانت إحدى المعضلات في مسيرة شنودة أنه جعل الأقباط في مصر لا يتعاملون باعتبارهم مواطنين مصريين لكنهم يتعاملون باعتبارهم أبناء للكنيسة يتبعونها فكرياً وثقافياً وأيدلوجياً بما يزيد من تقوقعهم داخل شرنقة يعيشون فيها طوال حياتهم.
ففي عهد شنودة خرجت الكنيسة عن دورها الأصلي في الرعاية الروحية إلى دور سياسي منَح دعمًا قويًا غير مشروط لنظام "مبارك" الدكتاتوري، وفي المقابل منح نظام "مبارك" للكنيسة صلاحيات واسعة وصفات عديدة رابحة، وهذا جعل البابا يرفض ابتداء مشاركة الأقباط في احتجاجات ثورة 25 يناير التي أسقطت الطاغية "مبارك"، ثم عاد وأعطى بعدها مباركته للثورة ومشاركة مسيحيين فيها. بل قيل بأنه صدم صدمة فاجعة لحظة إعلان نبأ تنحي "مبارك" ودخل في نوبة بكاء شديدة حزنا على رحيله.
كما حرص البابا بتقوية شعبيته في أوساط أقباط المهجر، وتشعبت في عهده المؤسسة الكنسية لتمتد إلى أمريكا الجنوبية، مرورا بأمريكا الشمالية وأوربا، وانتهاء بأفريقيا. وعمل علاقات بالمؤسسات الخارجية لترويج القضية القبطية «اضطهاد الأقباط في مصر» لتكون فيما بعد أوراق ضغط على النظام المصري، واستكمل ذلك بإعلان تأييده لمرشح الحزب الوطني الحاكم للانتخابات الرئاسية المقبلة في مصر، سواء مبارك أو نجله جمال، «لكي يملك بكلتا يديه العصا والجزرة» على حد وصف أحد المحللين.
ولذلك نجح البابا في كسب الكثير من الجولات السياسية بمجرد التلويح برفع راية العصيان ضد نظام المخلوع "مبارك"، وظهر ذلك جليا في أزمة احتجاز كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين بأحد الأديرة بعد إسلامهما، وأزمة الكشح، وأزمة دير المحرق (الخاصة بنزاع على أرض مجاورة للدير).
بل نستطيع أن نقول أن أداء قيادات الكنيسة القبطية في عهد "مبارك" خرج عن دوره الديني وصار تابعا لدولة «الكرازة المرقسية» التي ترفض تدخل الدولة حتى في قضايا تحمل شبهة جنائية، كما حدث في واقعة وفاة الراهبة (أغابي يوحنا الحبيب) حرقا بدير "مار يوحنا" بمدينة السويس في أكتوبر 2007م، وتقدم أهلها ببلاغا للبابا شنودة يطالبونه بالتحقيق الرسمي في وفاتها لشكهم أنها توفيت «مقتولة»، مؤكدين أن الحريق الذي أصابها كان متعمداً نتيجة لاضطهادها من قبل الأسقف رئيس الدير "الأنبا بطرس"، وبعض المكرسات والراهبات.
لكن البابا، بعدما تسلم من الدكتور "شريف وديع"، أستاذ طب الحالات الحرجة والعناية المركزة بكلية الطب بجامعة عين شمس، نسخة من جميع التقارير الطبية الخاصة بحالة المتوفاة، أمر بإغلاق الموضوع نهائياً وللأبد، دون أدنى تدخل من الدولة وأجهزتها الأمنية، ودون تطبيق مبدأ سيادة القانون على الجميع بدون استثناء.
ونقلا عن موقع ويكيليكس كشفت برقيتان من السفارة الأمريكية في القاهرة عن لقاء قام به شنودة مع مسئولين أمريكيين، وصف في إحداها الرئيس المصري مبارك بأنه معتدل ولا يمثل تهديدا للمسيحيين المصريين، في حين رأى شنودة أن مفتي الجمهورية الشيخ "على جمعة" شخص متطرف، كما نعت جماعة الإخوان المسلمين بالتطرف أيضا، ولعل هذا ما يؤكد الفرضية القائلة بتدخل البابا لدى السلطة السياسية في عهد مبارك للحيلولة دون تولى المفتي منصب «شيخ الأزهر» بعد رحيل الشيخ طنطاوي، رغم أن العادة درجت على تصعيد المفتي لهذا المنصب البارز، وهو ما يؤكد مدى سطوة سلطة البابا في عهد النظام البائد.
كل هذا النشاط الباباوي الغير مسبوق من أجل محاولة خلق وضع متميز لأقباط مصر يجعلهم فئة لها امتيازات بالغة في الساحة المصرية، ويجعل مطالبهم توازي الأغلبية، وفي هذا الإطار فإن معركة تعداد الأقباط هي المعركة الأولى التي يهدف منها للوصول لنسبة تؤدي لحصة سياسية مناسبة للأقباط.     
ومن أشهر المواقف التي عكست تحدي البابا سلطة الدولة كانت عندما حكمت المحكمة الإدارية العليا يوم 29 – 5- 2010 بالتصريح للأقباط المطلقين بالزواج مرة أخرى، تأييدًا لحكم القضاء الإداري الصادر لأحد الأقباط ويدعي "هاني وصفي" بالسماح له بالزواج مرة أخرى، والموافقة على الطلب الذي تقدم به للكنيسة في هذا الشأن، ورفضت طعن البابا على هذا الحكم. وقالت المحكمة في أسباب حكمها: «إن الحق في تكوين الأسرة حق دستوري، يعلو فوق كل الاعتبارات، وإن المحكمة إذ تحترم المشاعر الدينية غير أنها تحكم وفقاً لما قرره القانون، وإن القاضي لا مفر أمامه إلا تنفيذ ما نص عليه القانون وقواعده».
لكن بمجرد صدور الحكم، أعلن البابا شنودة في عظة الأربعاء الأسبوعية التي تلته أنه "لا توجد قوة على وجه الأرض قادرة تجبرني علي تنفيذ الحكم، وعلى الدولة أن تراجع نفسها في هذا الحكم" واعتبر الحكم «مخالفا للإنجيل»، بالرغم من أن القضاء مستقر على الفصل في الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وفق لائحة 1938م التي قدمها المجلس الملي ووافقت عليها الكنيسة آنذاك، حتى جاء البابا لكرسي البطريركية ليعلن أنها لا تلزمه.
وفي يوم 7/6/2010 قررت المحكمة الدستورية العليا وقف حكم الإدارية العليا السابق مؤقتاً لحين الفصل في موضوع دعوى التنازع، وهو ما اعتبره البابا «عدالة السماء» كما عبر في عظة الأربعاء وقدم الشكر للسلطات وقتها.
إن البابا وإن قدم خدمات جليلة لأبناء طائفته كما يحلوا أن يقرره البعض، إلا أنه على الجانب الآخر لا يمثل للجموع الشعبية المصرية هذا الثقل الذي بالغ الإعلام في الدندنة حوله في سابقة فريدة وعجيبة في ذات الوقت، بل إن أنات المضطهدات من أمثال وفاء قسطنطين وكاميليا شحاته وغيرهن تلاحقه، أما الصفقات الرخيصة التي عقدها مع النظام الدكتاتوري السابق وأقباط المهجر فتظل وصمة عار في مسيرة البابا في نظر جموع المصريين، وهذا مما أثار عجب القاعدة الشعبية المصرية من هذه الضجة الإعلامية المشبوهة حول وفاته.   

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق