الجمعة، 26 أبريل 2013

المواطن كفر بالساسة وبالسياسة


المعايش للواقع الحياتي المصري في كافة شوارع وقرى ونجوع مصر، يدرك صورة مغايرة تماما عن الصورة التي يعرضها الإعلام وتشغل باله وتستحوذ على برامجه، حيث تفاقمت هموم المواطن على كافة الأصعدة وبات الوضع المعيشي مأساوي لدرجة لا تطاق، في بلد يقع 40% من سكانه تحت خط الفقر.

فأبسط مقومات الحياة اليومية المتمثلة في «رغيف الخبز» صار معضلة ترهق الغني قبل الفقير، والمواطن يقضي ساعات كل صباح أمام المخبز، للحصول على رغيف أسود غير آدمي بالمرة، محشو بأرجل الصراصير أحيانا، وبالحصى أو الخيوط أو براز الفئران أحيانا أخرى، ويخبز في مخابز لا تتوفر فيها أدنى الشروط الصحية، هذا فضلا عن لهيب الأسعار الذي طال كل شيء.

وحدث ولا حرج عن العملية التعليمية المنهارة، واعتماد رب المنزل على الدروس الخصوصية من أجل إتمام رسالته التعليمية مع أبنائه والتي تستنزف دخل الأسرة، أما المستشفيات الحكومية فلا تجد فيها إلا صغار الأطباء يجربون في الناس مختلف طرق العلاج، والأساتذة الكبار تواجدهم في عياداتهم الخاصة ذات الأجور المرتفعة، وإذا اضطررت لإجراء عملية جراحية وليست معك تكاليفها الفلكية في مستشفى خاص ،فأنت مهدد في المستشفى الحكومي بالتلوث بفيروس c/سي الذي أصاب حتى الآن 20 مليون مصري وشارف حد الوباء.

والحديث عن القضاء هو نوعا من الحديث عن المماطلات والتسويفات في قضايا تمكث في المحاكم سنوات مديدة دون الحصول على فصل فيها، والقائمون على المؤسسة القضائية والأمنية صفوة المجتمع الخبيثة المعينون بالرشاوى والمحسوبيات والأبواب الخلفية. وصار دعاء المصريين الغالب بأن يجنبهم الله الويلات الثلاث: «المدرس والمحامي والطبيب».

كل هذا الخضم من المعاناة جعل حياة المواطن العادي بعيدة كل البعد عن المهاترات الإعلامية السياسية التي تثير الضجيج حول دولة الدستور والقانون، ودولة المؤسسات، ودور مصر الريادي في المنطقة، ومصر أم الدنيا، وعظمة مصر وجمال مصر وروعة مصر .. وغيرها من الشعارات الفضفاضة التي لا تجد لها صدى في وجدان المواطن المعدوم.

لقد كفر المواطن المصري بالساسة وبالسياسة، وعزف من قديم الأزل عن هذه الموضوعات السياسية لأنها في مخيلته نوعا من الترف الفكري والكلامي يقوم عليه شرذمة من إعلاميين ومحللين من أصحاب المنفعة الشخصية، والبطون المتخمة، والجيوب العامرة، والسترات الأنيقة، والسيارات الفارهة، حيث بلغ دخل أحد الإعلاميين السنوي من أحد القنوات 12 مليون جنيه، وما خفي كان أعظم.

خاصة وأن الواقع حول المواطن لا يتغير، فأيام السادات المأساوية لم تتغير كثيرا عن أيام جمال الذي كان يهلل بشعار «أرفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستعباد»، وأيام حسنى مبارك كانت أشد وأقسى من سابقتها، رغم الخطط الاقتصادية الخمسية، وتعاقب الوزارات، والخصخصة والكويز والجات ... وغيرها من الأحلام التي عشناها عمرا مديدا يحدونا الأمل لغد مشرق لم يأت في يوم من الأيام.

كفر المواطن بالساسة وبالسياسة، وعزف عن المشاركة في الانتخابات، أو متابعة القنوات الإخبارية، أو الخوض في الأحاديث السياسية، لأنه يعرف دائما بأن الكلاب تنبح والقافلة تسير إلى وجهتها المظلمة.. من فقر إلى فقر، ومن أزمة إلى أزمة.

ثم قامت ثورة 25 يناير المباركة، وانتفضت جموع الغلابة من فرط القهر والفقر والحرمان، وقدموا شهداء من خيرة إخوانهم وأبنائهم وسائر ذويهم، وتجدد الأمل في النفوس، وصار حديث الناس اليومي عن مسارات الأحداث .. الكل يتابع من الكبير حتى الصغير، ومن الغني حتى الفقير، والإحساس بنسيم الحرية بدأ يناسب إلى الصدور، وتخلص الناس من الخوف، وصاروا ينتقدون ويقترحون ويتجادلون ويحلمون.

لكن بات مترسخا في كافة أطياف المجتمع أن مصر ليست بحاجة إلى منظرين سياسيين أو مفكرين استراتيجيين أو محللين نابهين -كالذين تعج بهم الفضائيات صباح مساء- بقدر ما هي في أشد الحاجة إلى من يتقي الله تعالى فيها، ويخاف الله تعالى في شعبها الكبير.

باتت السياسة في العرف الجماهيري هي مهارة وفن «محاربة الفساد» لا أكثر من هذا ولا أقل، خاصة وأن الكثير من دول العالم سبقتنا في التقدم، وما أكثر التجارب والنماذج الناجحة من حولنا لمواجهة مشاكلنا، لكن المعضلة فيمن يقتبس ويتبنى التنفيذ والإصلاح بشرف وأمانة ونزاهة ضمير وعفة يد.

ولذلك لم يكن غريبا ولا عجيبا على الشعب المصري المحافظ المتدين أن يركن إلى قادة ورموز التيار الإسلامي من أجل إدارة دفة البلاد، بحكم صبغتهم الدينية التي يعول عليها في أن تجنبهم الظلم والجور، وبحكم معايشتهم لواقع الناس في السراء والضراء، وبعدما ذاق الجميع من مرارة القادة العلمانيين ما يندى له الجبين طيلة عهود مظلمة مديدة، والتبعية المذلة للبيت الأبيض أو الأحمر.

كان الشعب المصري أعقل من كل الحملات الإعلامية المسعورة التي هيجها وقادها العلمانيون على مختلف قنواتهم الفضائية وصحفهم ومواقعهم الإلكترونية ضد التيار الإسلامي ورموزه .. تلك الحملات التي لا تعرف الكلل ولا الملل، وكلما خسرت جولة صارت أشد ضراوة وعداوة للدين وأهله، ولم تدع ساقطة ولا لاقطة إلا ضخمتها وشهرت بها في المحافل.

كان الشعب حكيما في استفتاء المبادئ الدستورية، وموفقا في اختيار أعضاء مجلس الشعب، مما أثار حنق العلمانيين، واتهموا الإسلاميين بالقفز على السلطة، وبين الهمز واللمز انهالت البرامج الحوارية لتتهم المصريين ضمنا بأنهم لا يفهمون في السياسة، وأنهم تحت تخدير الخطاب الديني، وتطاولوا على رموز مصر من علماء الدين الأجلاء الذين هم نور مصر، بل ونور الدنيا كلها .. كل هذا الهجوم العلماني الشرس كان من برج عاجي ومن خلف الكاميرات وعلى كراسي الاستوديوهات المريحة، رغم غيابهم المشبوه عن واقع الناس وميدان التحرير، وإفلاسهم في تقديم شيء نافع يذكر للجموع الغفيرة.

إن العلمانيين يعلمون جيدا أنهم لا يملكون قاعدة شعبية، لأنهم أبعد الخلق عن هموم الناس، وأكثر الخلق جريا وراء مصالحهم الشخصية، وأن الضجيج الإعلامي حول لجنة تأسيس الدستور أو رئيس مصر القادم أو سابقتها من الوثيقة الحاكمة للدستور .. كل هذا لا يمكن أن يغير وجهة الشعب المصري الحكيم، وأنه لن يرضى بعير قيادة إسلامية بديلا، وهذا ما يؤكده الحشد الكبير الذي كان وراء الشيخ حازم صلاح إسماعيل إبان تقديم أوراق ترشيحه، فالرجل قام بأكبر استعراض للعضلات مصطحبا عشرات الآلاف من الأنصار الذين سيطروا على القاهرة لعدة ساعات، وهم يحملون أكثر من 150 ألف توكيل -أي ما يعادل خمسة أضعاف الرقم المطلوب- مما حدى بالواشنطن بوسط أن تقول: (إن مرشحي الرئاسة المصرية تقدموا بالتوكيلات إلا أبو إسماعيل الذي قدم أصحاب التوكيلات أنفسهم). هذا بالإضافة إلى الانزعاج الفظيع من ترشيح الإخوان لأحد رموزهم في سباق الرئاسة.

لقد كفر المواطن بالساسة وبالسياسة، وصار لا يعنيه صياغة الدستور الذي ظل طيلة حياة مصر السياسية حبرا على ورق، والالتفاف عليه من قبل أي دكتاتور سهل ميسور .. صار المواطن لا يعنيه زواج النائب السلفي من إحدى الفنانات، ولا مرشح الرئاسة الإسلامي الذي تحمل أمه الجنسية الأمريكية، ولا أن الإخوان نقضوا العهد ورشحوا رئيس لمصر منهم .. وغيرها من المهاترات الشوهاء الفاضحة في كذبها وتلفيقها. فليرح العلمانيون أنفسهم ويكفوا عن الضجيج.

إن الناس لن يؤثرها بعد اليوم سوى النتائج الإيجابية على الأرض، ولن يستحوذ على وجدانهم سوى من يذلل لهم الصعاب ويمسح دموع محنهم التي أثقلت كاهلهم، بصرف النظر عن هويته الإسلامية أو العلمانية .. دقت ساعة العمل والعطاء، ولن يحكم مصر إن شاء الله إلا من يخدم شعبها .. فليكف العلمانيون عن الصراخ والعويل، فإنها عاصفة في فنجان لن تثني المصريين عن رغبتهم في اختيار من يضمن لهم مستقبل أفضل بإذنه تعالى ممن يعرفون لله حرمة ولهذا الشعب التقدير.

{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]  

 


د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

              

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق