الجمعة، 19 أبريل 2013

قضاة مصر .. أباطرة الظل


تصاعدت الأزمة مؤخرا بين المحامين المصريين والسلطة القضائية، حيث وصل الأمر إلى منع القضاة وأعضاء النيابة من دخول مقار عملهم في عدة محافظات مصرية، وذلك على خلفية اعتراض المحامين على مشروع «قانون السلطة القضائية» الجديد، الذي يضم مادة تجردهم من أي حصانة خلال أدائهم لعملهم في جلسات المحاكمات، وأعني تحديدا المادة (18) التي تعطي القاضي الحق في حبس المحامي إذا اعتبر أنه أخل بنظام الجلسات.

ويرى المحللون أن السلطة القضائية تبدو ناقمة على المحامين الذين ركزوا في الفترة الأخيرة على المطالبة بتطهير القضاء، وانتقدوا تجاهل تعيين عدد من أوائل الخريجين في النيابة العامة، مقابل الإصرار على تعيين أبناء القضاة رغم تخرجهم من كليات الحقوق بتقديرات متواضعة.

والواقع أن قطاع القضاء في مصر لم ينجو من توسنامي الفساد الذي استشرى في عهد الطاغية المخلوع، رغم تصريحات المسئولين المتكررة -قبل وبعد الثورة- عن استقلالية القضاء ونزاهته. ومن واقع تجربتي الشخصية والحياتية مع القضاء في مصر تأكدت لي حقيقة عن طائفة من الأباطرة المتغلغلين في المجتمع المصري والمتمتعين بامتيازات رهيبة جعلتهم سادة من الطبقة فوق الممتازة.

بدأت قصتي مع رجال القضاء المصري في بدايات حياتي الزوجية حين انشغلت زوجتي مدرسة اللغة العربية هي وصديقة عمرها في تجهيز أوراق التعيين بالوظيفة الحكومية، وفوجئنا يا سادة أن زوجتي ألقوا بها في مدرسة تقع مجاهل المحافظة، وتحتاج إلى أكثر من ثلاث ساعات سفر يومي ذهابا ومثلها إيابا، متنقلة في هذه الرحلة اليومية بين الباصات والعربات النصف نقل، هذا في الوقت الذي تم تعيين صديقة عمرها في قلب عاصمة المحافظة، وفي مدرسة بالقرب من سكنها، والسبب بسيط جدا، ألا وهو أن الصديقة المصونة تزوجت من وكيل نيابة، أما زوجتي تعيسة الحظ تزوجت العبد الفقير الطبيب المسكين الذي حصل في الثانوية العامة على مجموع فلكي ألحقني بكلية الطب، وهذا المجموع يكفي لدخول أثنين كلية الحقوق المتدنية المجموع جدا جدا.

لكنها السلطة، تلك التي دفعت بالكثير من رجال الأعمال في مصر لأن يرغموا أبنائهم على دخول كلية الحقوق التي لا يرغب فيها الطالب المتميز، وهذا لأن بمقدور أولياء الأمور أن يدفعوا الرشاوى الباهظة لإلحاق أبنائهم بسلك القضاء، ويقولون دوما: إن المال يحتاج لسلطة تحميه.   

ولا أنسى هذا المنظر اليومي في محطة القطار، وأنا أشق صفوف الزحام من أجل الحصول على تذكرة سفر لعملي، وبجواري شباك تذاكر خال تماما، مكتوب عليه «خاص بالسادة القضاة والمستشارين» حيث يأتي سيادته ويحصل على دفتر تذاكر مجاني في يسر وسهولة، ذاك لأنه ابن البطة البيضاء، ونحن العبيد أبناء البطة السوداء .. نفس المنظر يتكرر في طابور البنك حيث التعليمات مفهومة للجميع بأن سيادة المستشار مستثنى من أي طوابير، حتى ولو كانت طوابير الميسورين من رواد البنوك.

والمعاناة الفعلية كانت عندما ساقتني الأقدار لنزاع قضائي خاص بالميراث، ودخلت ورأيت بأم عيني مهزلة المحاكمات في مصر، فما هي بالمرافعات الرنانة التي نشاهدها في الأفلام السينمائية، بل هي أشبه ما يكون بالتهريج، ولكنه تهريج طويل ممل، يأخذ سنوات يمكن أن تتجاوز العشر وأكثر في غالبية القضايا، حتى أن بعض القضايا مات المدعي أو المدعى عليه والورثة يكملون المسيرة.

في المحكمة لا تبدأ القضاة عملها إلا بعد العاشرة صباحا، في حين أن موظف مسكين مثلي لو تأخر في عمله لما بعد الثامنة والنصف يعتبر في أجازة هذا اليوم .. عموما يدخل القاضي الأنيق المظهر القاعة يتقدمه الحاجب يحمل له حقيبته الخاصة وملفات القضايا، وهو يصرخ في جموع المواطنين ليمر الباشا في يسر وسهولة.

ثم يبدأ الحاجب في النداء على القضايا، وطبعا القائمة طويلة جدا، فممكن أن تكون قضيتك رقم عشرين أو ثلاثين أو خمسين أو أكثر.. يمر الوقت ويحين دورك فتدخل مع محاميك على قاض أمامه أكداس من القضايا التي من المفترض أن لا يقوم من مكانه حتى يبت فيها.

قاض لا ينظر إليك أبدا ولا إلى المحامي، ولا يسمح للمحامي إلا بكلمات معدودة جدا جدا ليحدد فيها مطالبه، أما الخطب الإنشائية التي نراها في الأفلام (يا حضارات السادة المستشارين ..) فهي من وحي الخيال أو ربما للقضايا الجنائية الكبيرة.

قاض ليس عنده وقت لتفهم وجهة نظر أو استعراض أدلة أو حتى الرد عليك، وفي ذات الوقت يترك للخصمين كامل الراحة في المماطلة والتسويف، لا يرد طلب، ولا تعنيه مسألة إنجاز القضية في أقصر وقت لكي تصل الحقوق إلى أصحابها.

 وأساليب المماطلة من محامي الخصم لا تعد ولا تحصى: من طعن بالتزوير أو طلب شهود أو سماع أقوال الرؤساء في العمل أو طلب حسابات بالبنوك ... وهلم جرا، والقاضي ما عليه إلا القول: تؤجل القضية لجلسة (بعد شهر تقريبا) لتقديم الطلبات بهذا الصدد، والجلسة تلو الجلسة، والشهر تلو الشهر، والسنة تلو السنة، حتى تحجز القضية للحكم، ويصدر الحكم فيكون الاستئناف عليه، ثم النقض، ثم تأخذ حكما من الصعوبة تنفيذه في أحيان كثيرة.

وهكذا ضاعت الحقوق وأبقى القضاة على مميزاتهم من مرتبات فلكية وراحة سنوية شهرين (شهر8/9) رغم أن الراحة الرسمية شهر واحد، ولكن من يرد رغبات السادة المستشارين، هذا فضلا عن جملة من الاستثناءات خصصوها لحراس العدالة، أشهرها لوحات أرقام السيارات المعدنية السوداء والتي كتب عليها «هيئة قضائية» .. إنها لوحات تفتح المغلق وتعصم صاحبها من تحرير أي مخالفة مرورية من أي نوع، لدرجة أن المصريين من غير العاملين في سلك القضاء أخذوا يبذلون الغالي والثمين من أجل الظفر بتلك اللوحات السحرية.

أما الانضمام لسلك النيابة والقضاء فلا يعوزه مهارات خاصة، لا أول الدفعة ولا اختبارات شخصية لهذا المنصب الحساس، كل ما في الأمر هو حفنة من مهارات فتح الأبواب الخلفية، والحظوة تكون لمن يدفع أكثر، ثم تبدل الحال مع كثرة عدد القضاة، وأغلق القضاء الباب على نفسه، واقتصر التعيين على أبناء القضاة أنفسهم، أسوة بما يحدث في وزارة الخارجية أو وزارة البترول وكلية الشرطة وغيرها من القطاعات الراقية التي حرمت على أبناء الشعب، حتى ولو كانوا أكفاء.

بالله عليكم كيف نطلب ممكن تولى بالظلم أن يقيم العدل؟!! وكيف نقبل قول الانهزاميين بأن امتيازات القضاء لابد منها لحساسية المنصب القائم على «حفظ العدالة» قيام الحياة.

بالله عليكم أليس الطبيب في غرفة عملياته بقائم على حياة مرضاه، والمدرس في مدرسته قائم على حياة العلم، وحتى العامل في مصنعه، والتاجر في متجره ... أين العدالة الاجتماعية التي صدعونا بالحديث عنها.

يا سادة فاقد الشيء لا يعطيه، ويبقى دوما الأمل في الإصلاح يتسرب إليك وأنت في باحة الانتظار في المحكمة حيث تمتد عيناك على تلك اللوحة الجدارية الكبيرة، والتي كتبت عليها بخط عربي أنيق تلك الآية القرآنية الكريمة التي القضاة إليها أحوج من سائر الناس:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }[النساء:135]

  

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

 

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق