الخميس، 11 أبريل 2013

الكلاب تنبح والقافلة لا تسير


في سبعينيات القرن الماضي كنت في بواكير الصبا، وأذكر أنه في أحدى اجتماعات الرئيس «السادات» بأعضاء مجلس الشعب، قام أحد النواب واشتكى للرئيس ضيق الأحوال الاقتصادية بالبلد، وكان مما قال له: أن البيضة وصل سعرها خمسة قروش!! .. طبعا كان هذا المبلغ فلكيا بالنسبة لبد زراعي إنتاجي مثل مصر، مع محدودية دخول الأسر المصرية في هذا العهد .. هاج السادات وماج، وتبعته كل الأبواق الإعلامية التي كانت ليس لها هم ولا وظيفة سوى الإشادة بالنظام وإنجازاته، وقامت الدنيا وقعدت، واختفى هذا النائب عن الأنظار، والله وحده العالم كيف سارت به الأمور، أإلى الإقالة من مجلس الشعب فقط؟ أم إلى الحبس أو ربما التصفية الجسدية؟.

فالسادات -مثله مثل كل الفراعين الذين حكموا مصر- كان فوق النقد، ولو حتى النقد البناء، والحوار معه فقط عن الإشادة بالبطولات والإنجازات التي قدمها لهذا البلد التي سعدت بأيامه ورفعت رأسها في حكمه، والنشرات الإخبارية كانت لا بد أن تتصدر بخبر عن سيادة الرئيس، بل بعبارة «السيد الرئيس» قام بافتتاح أو ألقى خطاب أو التقى بفلان أو سافر ... وهكذا.

أما ما هو دون الحوارات، فلا يوجد سوى تبجيل كل إمائه وإشارة للغالي المفدى، والتصفيق الحار أثناء كلماته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ورجال مخابراته منتشرون في القاعات يلمحون من لا يصفق -بل ومن لا يصفق بحرارة- فيوضع تحت المجهر الأمني، والله أعلم ما تؤول به الأحوال بعد هذا.

قامت الدنيا وقعدت لأن الرئيس راجعه النائب المغوار، حتى ولو كانت المراجعة واقع معايش لا لبس فيه ولا أي خيانة ولا عمالة ولا انتهازية ولا ولا ... من قائمة الألفاظ التي اعتاد أن يلصقها النظام بمعارضيه.

لكن تبدل الحال سريعا في عهد الطاغية حسني مبارك، فلقد أصم آذاننا بريادته في حرية الصحافة والإعلام، وأطلق حريات وهمية، وسمح للبعض بأن ينتقد أو يشجب أو يستنكر أداء الحكومات والوزارات المتعاقبة، لكن كل هذه التسخطات كانت لا تجد لها صدى، لا من مسئول ولا من الرئيس المفدى!!، وكان لسان حالهم يقول للأمة قاطبة: «الكلاب تنبح والقافلة تسير».

إلا أن ربك دوما كان بالمرصاد، وهو سبحانه وتعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وتدخلت العناية الإلهية في ثورة 25 يناير العظيمة، فخلع الشعب الطاغية، وأثبتت الوقائع أن الكلاب ما كانوا إلا حاشية النظام ورأسه الغاشمين، وليس هذا الشعب العظيم الذي تحمّل الكثير، ونسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناته.

لكن بعد الثورة تجددت المآسي، وظهر طوفان المطالب الفئوية، فكل يوم ثورة أو إضراب أو اعتصام من شريحة معينة من المجتمع المصري تطالب بحقها في تحسين ظروف معيشتها، وكان آخرها إضراب المعلمين الذين رفعوا إلى ولاة الأمر مطالب عادلة جدا تشمل تطوير قطاع التعليم وتحسين الأجور، لكن كل هذه الحراكات قوبلت بنفس فتور وسلبية النظام الدكتاتوري السابق، إلا أن هذه المرة تغير الوضع، فبرغم سلبيتهم وتركهم الكلاب تنبح بزعمهم، إلا أن القافلة لا تسير!!، وتعطلت الكثير من المصانع وخطوط الإنتاج وتوقفت العملية التعليمية في قطاع كبير من المدارس.

ولم تنفع مسكنات وزير التعليم برفعه شعار أن مطالب المدرسين عادلة إلا أن ميزانية البلد لا تسمح، بل إنه رد على مطالبة المدرسين بإقالته بأن معاليه لا تخيفه الإقالة، وأن الأمر عنده سواء، وهذا رد غير مسئول من قيادي لا يدرك حقيقة ما يقول، ولا يفهم طبيعة المرحلة في أنه من تولى أمرا وليس في حسبانه التغيير للأحسن فلا داعي للتسرع بتوليه، لأن رقابة الشعب لن ترحمه، على عكس الأيام الخوالي التي نشرت في كافة ربوع مصر فراعين طغاة على تنوع سلطاتهم وأحجامهم.

والحقيقة أن هناك الآن في مصر الثورة تيارين متضادين في الرؤية الإصلاحية، التيار الأول يرى بضرورة ترتيب أوضاع مصر أولا وتهيئة المناخ لانتخابات نزيهة لتأسيس مجلسي الشعب والشورى وتعيين رئيس مدني منتخب يقود البلاد، أما التيار الآخر فهو لا يصبر على شظف العيش وتتعاظم كل يوم مطالبه الفئوية بتحسين أموره الحياتية. وقل -إن شئت- أن التيار الأول تيار المترفين، والتيار الثاني تيار المعدمين.

ورغم أن ترتيب أوضاع مصر السياسية والإدارية له الأهمية البالغة والقصوى، إلا أنه لا يمكن أن نتجاوز «أزمة الثقة المزمنة» بين الشعوب المقهورة وقيادتها .. تلك الأزمة الضاربة في أعماق التاريخ العربي من سنوات سحيقة، فربيع الثورات العربية ليس غريبا عن المنطقة، وفي كل ثورة ومع تغير القيادة يحدثونا عن المستقبل المشرق والأوضاع البائدة التي تبخرت وحل محلها النور والعدالة والتغيير، ثم تمر الأيام ولا يتحقق شيء، بل القاطرة العربية تتراجع يوما بعد يوم، حتى خرجت عن القطبان بالكلية، وصرنا شعوبا مستهلكة تعيش عالة على منتجات الآخر.

لم يأتي الربيع العربي يوما رغم الخطب الثورية والأناشيد الحماسية والأبواق الإعلامية، بل بعد الثورة المصرية أو التونسية أو الليبية انكشفت ملفات الفساد في صورة لا تكاد أن تصدقها العقول، وتناثرت على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز مليارات ومنهوبات بشكل مريع وفظيع، والشعوب المقهورة لا تجد ما يسد رمقها.

هذه التجارب المأساوية خلقت -كما ذكرنا- أزمة ثقة مزمنة، وصارت الشعوب لا تريد الحديث عن المستقبل، بل تريد إنجازات ولو محدودة أو متواضعة، فثارت كل فئة تطالب بحقوقها الشخصية غير عابئة بقضية ترتيب الأوضاع السياسية كما يدعون، وظهرت العديد من العوامل والسلوكيات التي رسخت هذه الثورات الفئوية، ومن أبرز هذه العوامل:

- التصرف العقيم للقيادة الجديدة بعد الثورة، والذي لم يختلف عن سابقتها قبل الثورة، وكأن النظام القديم يستنسخ نفسه، مع تغير الوجوه فقط لا غير، وهذه المواقف الهزيلة للقيادة الثورية الجديدة لا تعد ولا تحصى من أهمها: تعنتها في تولية محافظ نصراني للمنيا كما دأب النظام السابق رغم الرفض الجماهيري، وموقفها الباهت من مقتل الجنود على الحدود مع الكيان الصهيوني وحادثة السفارة الإسرائيلية بقلب العاصمة المصرية، وعدم تبني سياسة تنموية ولو جزئية تشعر المواطن ببعض التغيير ولو طفيف، بل ظهر مصطلح «حكومة تسير أعمال» وادعت أن كل الأيادي مرتعشة ولا تريد أن توقع على أي قرار، في منطق غريب لا ينطلي على أحد إلا السذج.       

- عدم اتخاذ أي موقف إيجابي فيما يعرف بالرسوب الوظيفي، فبعض القطاعات الوظيفية وبعض المناصب رواتبها فلكية في حين أن قريناتها بنفس المؤهل والأقدمية مرتبها في الحضيض، ويكفي أن نعرف أن موظف مؤهل متوسط يعمل في قطاع النفط يعادل مرتبه مرتب عشرة معلمين، كما أن دخل أحد مستشاري وزير التعليم يعادل مرتب مائة موظف، ناهيك عن الهدر الغير معقول في ميزانية وزارة التعليم بين الكنترولات والعمولات وغيرها.

إن موضوع حكومة تسير الأعمال عذر أقبح من ذنب، فكيف للمواطن الغلبان أن يقبل بوزير أو محافظ في حالة سكون، وراتبه يتجاوز العشرين ألف جنيها شهريا أو ربما يزيد، وقطاع عريض من الشعب الله تعالى وحده هو الأعلم بحالهم.

وهل يقبل الشعب  من غير الموظفين كل هذه الحراكات ويقف متفرجا، فقطاع الموظفين بالدولة لا يتجاوز السبعة ملايين، وسائر العمالة في القطاع الخاص والمهن الحرة، وليسوا بأسعد حظا من الموظفين، بل الوظيفة في بلد كمصر حلم يراود الجميع.

أزمة الثقة بين الشعب والنظام لن تحل لا بقوانين ولا حتى بالدعوات للصبر والتروي حتى تخرج مصر من محنتها وكبوتها، خاصة وأن مصر عاشت قرونا سحيقة تحت مظلة الدساتير والقوانين والمجالس النيابية ولم يتحقق شيء.

أزمة الثقة لن تحل إلا بمبادرة القيادة -مهما كانت- لتقديم تغيير حقيقي، حتى ولو مرحلي أو تدريجي أو بطيء، المهم أن يشعر المطحونون أن بريق أمل دخل إلى صدورهم، وعبق من الحرية شمته أنوفهم، تغيير ولو بتهدئة طوفان الفواتير الشهرية أو الرسوم الحكومية أو تسهيل لبعض الإجراءات الروتينية.

أما الحديث عن أن البلد دخلت في مرحلة صعبة واحتياطي النقد قد تقلص والبورصة تخسر يوميا مليارات، وفي نفس الوقت يستمر تدفق المرتبات الفلكية لمحظوظي الموظفين، مع تكرار الدعوات بالصبر من طائفة المترفين، فهذا لن ينطلي على المعدمين، وسيكون شعارهم دوما كما يقول المثل المصري: «إن خرب بيت أبوك فخذ منه قالب».

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق