الخميس، 7 فبراير 2013

الثورات .. عودة إلى الله قبل العودة إلى الحرية


كان جاري الصيدلي يقطن صيدليته المتواضعة بجوار مسجد الحي الذي نصلي فيه، فكنت أمر عليه يوميا أكثر من مرة في طريقي لصلاة الجماعة، وأرمقه وهو منهمك أمام شاشة الكمبيوتر، ولا أجده معنا في صلاة الجماعة!! رغم أنه من أسرة طيبة ومثقفة، ووالده له باع عريق في العمل السياسي الديني!!

بل لقد أدهشني أشد الدهشة عندما رأيته -أكثر من مرة- يغلق صيدليته ويصعد إلى شقته وقت إذاعة إقامة صلاة العصر!! الأمر الذي أثار فضولي وسألته في أحد المرات التي جمعتني به -وأنا أشترى فيها دواء من صيدليته- عن سر انهماكه الملفت أمام شاشة الكمبيوتر؟ فأجابني بأنه من نشطاء «الفيس بوك» ومن منظمي ثورة 25 يناير المصرية، أما شقيقه الأصغر فهو من العناصر الأكثر فعالية في هذا المضمار وعضو في شبكة «رصد» على الإنترنت، وأخذ يسرد جهوده وزملائه على «الفيس بوك» في تحريك الثورة، والمساهمة في فعالياتها!!

نزل الخبر علي كالصاعقة .. فالرجل إذن ليس تافها، ولا مشغولا أمام الكمبيوتر بسفاسف الأمور، بل هو صاحب رسالة عميقة وراقية تنشد الحرية وتتمرد على الظلم والقهر .. لكن كيف تكون قضايا ذات قيمة حقيقية بدون اللجوء إلى الله تعالى؟! وكيف يكون المدد من دونه سبحانه؟! وكيف يكون المخرج من غير معونته وحوله وقوته؟!.

هل يعقل أن تشغلنا أي قضية مهما نبلت وعظمت عن حضور الصلاة في المسجد الذي لا يبعد عنا سوى أمتار!! وهل يعقل أن يكون التنظيم البشري عوضا عن التوفيق الرباني!! والركون إلى الأسباب عوضا عن رب الأسباب!!.

إن الانجراف مع مسببات النصر التي تحققت في انتفاضات الشعوب العربية الأخيرة يجب أن لا تنسينا رب النصر الحقيقي ومسببه وواهبه جل شأنه، وإلا فهذا خلل عقائدي خطير، ومنزلق شيطاني وبيل.

فالشكر قيد النعم، ومن وجد الله فماذا فقد، ومن فقد الله فماذا وجد، وهذه هي حقيقة قول «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وقديما هلك من هلك من باب الركون إلى القوة والتنكر لواهبها سبحانه، قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }[فصلت:15]

إن الثورة في أمس الحاجة إلى وقود الإيمان قبل الحاجة إلى التنظيمات والتعديلات، وإلا فلو أضفنا إليها ألف خطة أو يزيد، ورتبنا إليها أجود الترتيبات دون مزج حقيقي بإيماننا وانضباطنا الفعلي بشرع ربنا، فلن تؤتي أكلها.

لابد أن يعلم شباب الثوار على «الفيس بوك» وغيره أن النصر لا يكتب ولا يتم إلا للأيادي المتوضئة والجباه الساجدة، والقلوب الخاشعة، وإلا فالعاقبة وهم، بل وضنك، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }[طه:124]

إن مراحل التغيير لابد أن تشمل كل الأوجه، خاصة التغيير الذاتي الذي هو المنطلق والأساس، وأن ندعم فقه المراقبة في النفوس، ومعالم الإيمان في القلوب، وألا فلن تجدي معنا أحكم القوانين ولا أعدل الدساتير.

قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11] 

يقول ابن القيم رحمه الله: وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه .. ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه، وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب، كما قيل

إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم

فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس [التفسير القيم لابن القيم:2/263]

وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: وطبقاً لهذا القانون الإلهي نجد أن تغير الناس من الإيمان إلى الكفر لا بد أن يقابله تغيير من نعمة الله عليهم وإلا لأصبح منهج الله بلا قيمة، والمثال أن كل طالب يدخل امتحاناً، ولكن لا ينجح إلا من ذاكر فقط، وأما من لم يستذكر فإنه يرسب؛ حتى لا تكون الدنيا فوضى. ولو أن الله سبحانه وتعالَى أعطى لمن اتبعوا المنهج نفس العطاء الذي يعطيه لمن لا يتبعون المنهج فما هي قيمة المنهج؟ .

إذن لا بد أن يدخل الإنسان إلى الإيمان، وأن يكون هذا الإيمان متغلغلاً في أعماقك وليس أمراً ظاهريا فقط، فلا تدَّع الإصلاح وأنت تفسد، ولا تدع الشرف والأمانة وأنت تسرق، ولا تدع العدل وأنت تظلم الفقير وتحابي الغني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يعطي نعمه الظاهرة والباطنة إلا لمن يتبعون منهجه. وإذا رأيت قوماً عمّ فيهم الفساد فاعلم أن نفوسهم لم تتغير رغم أنهم يتظاهرون باتباع المنهج الإلهي .

وإن شكونا من سوء حالنا فلنعرف أولاً ماذا فعلنا ثم نغيره إلى ما يرضي الله عز وجل فيغير الله حالنا. ولذلك إذا وجدت كل الناس يشكون فاعلم أن هذا قد حدث بسبب أن الله غير نعمه عليهم؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم. أي أن حالتهم الأولى أنهم كانوا في نعمة ومنسجمين مع منهج الله، فغيروا انسجامهم وطاعتهم فتغيرت النعمة، أي أن هناك تغييرين أساسيين، أن يغير الله نعمة أنعمها على قوم، وهذا لا يحدث حتى يغيروا ما بأنفسهم.[تفسير الشعراوي:1/3308]

إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة في أي زمان وفي أي مكان، والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون; بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون يتحرجون في غير تحرج; ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام; بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة.

إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً، وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف; وإظهارها على حقيقتها شركاً وكفراً، ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم; كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة، بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم، وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير، عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون.

وكل تحرج في غير موضعه; وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات; هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً; وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة أتاتورك في التاريخ الحديث; وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة، نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح، مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل «ولفرد كانتول سميث» في كتابه «الإسلام في التاريخ الحديث» إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى ونفي الإلحاد عنها واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث إسلامي كذا في التاريخ الحديث [في ظلال القرآن:4/25]

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق