الجمعة، 15 فبراير 2013

الخطأ التاريخي


بضعة أيام وينطلق سباق الرئاسة المصري، وقد تكشفت الرؤية -كما هو متوقع- عن تيار إسلامي وتيار ليبرالي وبعض الفلول، لكن ما يثير الاستغراب والدهشة هو تمخض التيار الإسلامي عن مرشحين اثنين، مرشح لجماعة الإخوان المسلمين (د. محمد مرسي)، ومرشح ذو مرجعية إسلامية (د. عبد المنعم أبو الفتوح)، مما يضع الصوت الإسلامي على مشارف التلاشي وغياب التأثير نتيجة تشتت الأصوات الانتخابية، خاصة وأن الكتلة التصويتية الإسلامية ليست بالضخامة التي تستوعب التشرذم والتفرق.

بحت أصوات النخبة في توضيح خطورة الأمر، وبذلت محاولات مضنية لتوحيد الصف الإسلامي تحت مرشح واحد، لكن كل الجهود ضاعت سدى .. فمؤيدي أبو الفتوح يرون أنه الأجدر لهذا المنصب، بحكم مواهبه الحوارية، وتاريخه النضالي المشرف، فضلا عن شعبيته الجيدة لدى الإسلاميين وطائفة من الليبراليين، ووقوفه على مسافة متساوية من كافة القوى الوطنية، خاصة وأن مرشح الإخوان كان بالأساس في قائمة الاحتياط، وكان من المفروض الزج به في مضمار السباق الرئاسي إذا خلت الساحة من مرشح للتيار الإسلامي، فضلا عن تدني شعبيته، ولن يقف ورائه سوى صوت الإخوان فقط، وهم بالطبع ليسوا بالكثرة التي تضمن نجاح مرشحهم.

أما الإخوان فيرون أنهم الأولى بأن يكون مرشح الرئاسة منهم، بحكم تواجدهم بكثافة في العملية الانتخابية لشعبيتهم العالية، رغم وعودهم السابقة بعدم تقديمهم مرشح رئاسي، ويرون أن د. محمد مرسي صاحب مشروع نهضة جدير بالتبني، وأن مرشح رئاسي يدعمه حزب كبير مثل الحرية والعدالة أولى أن تتكاتف ورائه كل القوى الإسلامية.

والمحصلة أن جمهور التيار الإسلامي أصيب بحيرة، ففي حين أيد طائفة من العلماء الأجلاء مرشح الإخوان، على العكس أيد السلفيون د. أبو الفتوح، وبالتالي تفرق العلماء كما تفرق الساسة.

وبعيدا عن استطلاعات الرأي التي يشكك بها البعض، وجدت كل من حاورتهم لم يحسموا أمرهم بعد، من المثقف إلى رجل الشارع البسيط، فما إن يجمعني المجلس بأحد إلا وسألته عن نيته في اختيار مرشحه: الأقارب والأصدقاء ورفقاء الطريق حتى سائق التاكسي الذي أركب معه، وبائع الفول الذي أبتاع منه، والصيدلي الذي أشتري منه الدواء .. الكل تقريبا في حيرة.

ربما يحكم اختلاف المترشحين بعض الاعتبارات الخاصة، والتي أولى بهما أن يتعالا عليها لتغليب مصلحة الوطن، خاصة وأن التشرذم يصب في مصلحة الطرف الآخر، وأخشى ما يخشاه الجميع أن نجد واحدا من الفلول قد قفز على الكرسي وساعتها ستضيع الثورة بسوء صنيعنا.

ربما كان كل ما ذكرنا واضحا وجليا لكل المتابعين والمنخرطين في الشأن المصري، لكن الذي لا أستطيع أن أفهمه تشرذم العلماء وتفرقهم وراء مترشحا الرئاسة، ولا يفوتني أن أذكر أن طائفة منهم مازالت في فكرها القديم الذي يرى أن الثورة المصرية مخالفة شرعية وأنها خروج على الحاكم، وأن الصبر على جوره أولى .. وهنا نجد علمائنا الأجلاء على ثلاث طوائف لا اثنتين.

إنني طيلة عهدي مع التيار الإسلامي منذ قرابة 25 سنة وأنا أسمع علمائنا أنفسهم يحذرونا من مغبة الفرقة والاختلاف، وتنوعت أحاديثهم عن عاقبة الخلاف والتشرذم، والفرق بين الخلاف المعتبر والغير معتبر، وأخلاقيات الإسلام في التعامل مع المخالفين، وضرورة الحوار وفنونه وآدابه .. في منظومة إنشائية ضاعت سدى على أرض الواقع عند أول محك مصيري.

أما كان أولى بالعلماء أن يتكاتفوا صفا واحدا في قرار الأمة المصيري، ويجمعوا مرشحي الرئاسة في مجلس واحد ويحسموا معهم الأمر، ولو بتنظيم وترتيب من يكون الرئيس ومن يكون نائبه، وإن حاد المرشحان أقرعوا بينهما، وإلا هددوهما بالتبرؤ منهما وإجهاض شعبيتهما، أو غيرها من المقترحات العديدة وأوراق الضغط التي من شأنها أن توحد الصف، وتنقذ الأمة من الضياع.

لكن الحقيقة أن الكدر كان من رأس العين، من العلماء أنفسهم الذين فشلوا في التغلب على الخلاف، وتغليب مصلحة الوطن.

منذ بدأت الحملة الانتخابية وأنا آليت على نفسي أن ألتزم موضوعا واحدا لخطبة الجمعة عن مقومات اختيار الحاكم المسلم، أذكر الناس فيها بعظم المسئولية وخطورة الأمانة، وأن الموضوع أكبر من ترف سياسي ورؤية خاصة، بل هي قضية سنسأل عنها يوم الدين، وفي أعناقنا تجاه هذا الوطن العظيم .. وما إن أنزل من على المنبر وانتهي من الصلاة حتى تتكاثر علي الحشود سائلين: من ننتخب؟ محمد مرسي أم أبو الفتوح؟ .. حينها أحس بالضعف، والفشل، وما أقساها من أحاسيس .. فأنا نفسي لا أعرف من سأنتخب، والأمر جل خطير.

إن هذا العبث كنا في غنى عنه، وهذه الفرقة كان أولى بها غيرنا من أصحاب الأهواء والأغراض الذين يرون الرئاسة مغنما لا رسالة ومسئولية.

إن الخاسر الرئيس في هذا الموضوع هو علماؤنا ونخبتنا الدينية التي كسدت في سوق الواقع، وكشفت الحقائق عن مهاراتهم الوعظية والكلامية لا العملية، ورسموا لأنفسهم بهذا الموقف المتشرذم صورة باهتة في النفوس بعدما كانوا يتبوءون منزلة سامية، الأمر الذي حدى بأحد رموزهم أن يقول في أحد الفضائيات أنه قادر على جمع المعونة الأمريكية لمصر في ساعة زمن.

النخب الدينية هي المتهم الأول، تليها النخب السياسية التي أعلت خلافاتها الشخصية على مصلحة الوطن، وربما نحن الآن في سكرة لا ندرك حجم الخطر الحقيقي المتربص بنا، أو ربما يحدونا الأمل في فوز أحد الإسلاميين وتحل القضية بلطف المولى العلي القدير.. لكن لو قفز أحد الفلول على السلطة سيظهر جليا عوار المشروع الإسلامي، لا لخلل فيه –حاشا وكلا- ولكن لخلل في القائمين عليه، وساعتها عليهم أن يتحملوا التبعات القاسية التي سيلاقونها، وما أشدها من محنة عليهم.

فاللهم ألطف بمصر وأهلها .. ووحد شمل علمائها وقادتها.. أنت الولي والقادر عليه .. وأنت حسبنا ونعم النصير.

 


د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

      

 

 

 

 

       

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق