الاثنين، 18 فبراير 2013

الرموز والتيوس


دوما يقول الحكماء بأن قيمة الإنسان تتحدد بقدر ما يحسن، والعظمة تقاس بمدى الخدمات والتضحيات التي يبذلها المتميزون للأجيال وللأمم، فالنفع الخاص والعام هو المحور الذي تدور حوله العظمة، والأفذاذ دوما صنف من البشر لههم حظ أكبر من التألق الذي يؤهلهم لأن يضيئوا ليل البشرية على مر الزمان والمكان.

وإذا تدنت الأمم في سلوكها، وأفل نجمها في سماء الحضارة الإنسانية، تبدلت المفاهيم والمعايير التي تحكمها، وصارت الموازين تعمل بشكل جائر، والمعايير بشكل مقلوب، حتى يصير الحق باطل والباطل حق، وحتى يمجد السفهاء، ويسفه العقلاء. الأمر الذي وصفه القرآن بالخسران، فقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103-104]، ويصف النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الحالة من حالات تدني الأمم بقوله: «فيصبِحَ النَّاسُ يتبايَعونَ، لا يكادُ أحدٌ يُؤَدِّي الأمانَةَ، حتى يُقال: إنَّ في بني فُلانٍ رجلاً أميناً. حتى يُقالَ للرَّجُل: ما أجْلَدَهُ! ما أظرَفَهُ! ما أعْقَلَهُ! وما في قلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ من إيمانٍ»

عندما تتبدل القدوات وتقدم رموز الأمة من طائفة أهل المغنى والطرب أو لاعبي كرة القدم، في حين يتأخر فضل العلماء، ويختفي ذكر الفضلاء، فهذه هي الكارثة.

أذكر هذا الكلام في معرض الحديث عن الفاجعة التي تمر بنخبنا القيادية والإعلامية فضلا عن قنواتنا الفضائية لوفاة الفنانة (وردة الجزائرية)، التي حظيت بضجيج إعلامي ومراسم تشييع رسمية تكريما لتاريخها الفني الكبير في خدمة غناء الهوى والحب والغرام، دون علم يذكر ولا ورع يؤثر.

كانت الفنانة الراحلة قد توفيت الخميس 17/5/2012 في القاهرة إثر أزمة قلبية عن عمر ناهز 73 عاما، وقد خضعت مؤخرا لجراحة لزرع كبد جديد في المستشفى الأميركي بباريس. وإثر وفاتها نقلت بطائرة خاصة عسكرية جزائرية إلى بلدها الجزائر، ووري جثمانها بمقبرة العالية بالضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية بمراسم دفن رسمية، ووسط حشد كبير من محبيها.

وحضر جنازة الراحلة رئيس الوزراء (أحمد أويحيى) ووزراء من الحكومة وفنانون جزائريون، بالإضافة إلى الفنان الإماراتي (حسين الجسمي).

وكان جثمان الراحلة الذي حمله عناصر من الدفاع المدني مسجى بالعلمين الجزائري والمصري قبل نقله من قصر الثقافة إلى مقبرة العالية التي يدفن فيها كبار المسؤولين في الدولة.

وتعالت أصوات المشيعين بالزغاريد والتكبير وتهاطلت الورود من كل جانب على جثمان الفقيدة، وانفجرت الحناجر بنشيد ثوري وهم يودّعون الراحلة إلى مثواها الأخير. وتلقى ابن الفنانة الراحلة (رياض) تعازي المسؤولين والمواطنين عقب مراسم الدفن.

وكان الرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة) قال في رسالة تعزية: "شاءت حكمة الله جل وعلا أن تودع وردة دنياها وهي تستعد مع حرائر الجزائر وأحرارها للاحتفال بالذكرى الخمسين لعيد الاستقلال، وأن تسهم فيها بإبداعها كما أسهمت في ثورة التحرير الوطني بما كانت تقدم لجبهة التحرير من إعانات في مكاتب الحكومة المؤقتة خاصة في مكتبها بلبنان".

وأضاف أن "الراحلة نذرت حياتها لفنها ونذرت فنها لوطنها أينما حلت وارتحلت مناضلة من باريس في صباها إلى المشرق العربي، فرفعت رايته في محافل الفن وأسمعت كلمته في منابره، وكانت في ذلك قامة قل أن تسامى وموهبة مبدعة ندر أن تضاهى".

ويقول منظري الفن العربي أن الفنانة وردة تُعرف بأنها إحدى أبرز المطربات الحريصات على القيم الغنائية العربية الأصيلة، وانتقاء كلمات الأغنيات التي قدمتها بعناية منذ أن حضرت إلى مصر في عام 1960 بدعوة من المخرج المصري (حلمي رفلة) ضمن عمل سينمائي.

ولم تحرم الأحداث وردة من تكريم مغاوير المغرب أيضا حيث حضر (فؤاد عالي الهمة)!! مستشار العاهل المغربي (محمد السادس) وصديق طفولته، السبت إلى العاصمة الجزائرية لتكريم روح الفنانة العربية الكبيرة وردة الجزائرية، وذلك إلى جانب وزير الخارجية الجزائري (مراد مدلسي)، بحسب ما أفاد مراسل وكالة فرانس برس، ووصل عالي الهمة ومدلسي إلى قصر الثقافة في العاصمة الجزائرية حيث سجي جثمان الراحلة وردة، وسط إجراءات أمنية مشددة ووقفا لبرهة تكريما لروحها أمام الجثمان الذي تقوم على حراسته نساء من الحماية المدنية، وذلك قبل أن يوقع المسؤول المغربي سجل التعازي.

رحم الله إمام الأمة (سعيد بن المسيب) الذي ما فاتته تكبيرة الإحرام في الصف الأول أربعين سنة، ورحم الله (ابن سكينة) الذي يقول عنه الذهبي: الشيخ الإمام العالم الفقيه المحدث الثقة المعمر القدوة الكبير، شيخ الإسلام مفخرة العراق، ضياء الدين بن سكينة البغدادي الشافعي، وسكينة هي والدة أبيه، قال ابن النجار: شيخنا ابن سكينة شيخ العراق في الحديث والزهد وحسن السمت وموافقة السنة والسلف، عمر حتى حدث بجميع مروياته، وقصده الطلاب من البلاد، وكانت أوقاته محفوظة لا تمضي له ساعة إلا في تلاوة أو ذكر أو تهجد أو تسميع، وكان إذا قرئ عليه منع من القيام له أو لغيره، وكان كثير الحج والمجاورة والطهارة، لا يخرج من بيته إلا لحضور جمعة أو عيد أو جنازة، ولا يحضر دور أبناء الدنيا في هناء ولا عزاء، يديم الصوم غالبا، ويستعمل السنة في أموره، ويحب الصالحين، ويعظم العلماء، ويتواضع للناس، وكان يكثر أن يقول: «أسأل الله أن يميتنا مسلمين» وكان ظاهر الخشوع، غزير الدمعة ويعتذر من البكاء ويقول: «قد كبرت ولا أملكه» وكان الله قد ألبسه رداء جميلا من البهاء وحسن الخلقة وقبول الصورة ونور الطاعة وجلالة العبادة، وكانت له في القلوب منزلة عظيمة، ومن رآه انتفع برؤيته، فإذا تكلم كان عليه البهاء والنور، لا يشبع من مجالسته، ولقد طفت شرقا وغربا ورأيت الأئمة والزهاد فما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سمتا، صحبته قريبا من عشرين سنة ليلا ونهارا، وتأدبت به وخدمته وقرأت عليه بجميع رواياته، وسمعت منه أكثر مروياته، وكان ثقة حجة نبيلا علما من أعلام الدين

إن قضية التلاعب برموز الأمة -في لعبة تبدل الأدوار- لهي قضية في غاية الخطورة، حيث تصاب بوصلة جموع الأمة –وخاصة الشباب- بنوع من الانحراف، في مخطط مشبوه يرسم لهم فيه مسار للرقي غير المسار المتعارف عليه من العلم والتقوى والجد والكفاح، ويقتصر فيه الوصول للثروة والشهرة على المتفلتين والماجنين، الذين يحظون بنوع من الرعاية والتكريم لم يحظ به شيخ الأزهر ولا جهابذة العلم والإبداع.

وهذا المخطط الخبيث يخدم كثيرا من الطغمة الحاكمة وأزلامهم، الذين يقصدون من تصعيد السفهاء وتهميش الفضلاء إلى تميع الأمة، وتفلت ضوابطها، مما يضمن لهم الاستمرار على كراسي السلطة أطول فترة ممكنة، ليحكموا شعوبا مغيبة، لا تعرف طريقها للحرية والتميز.

وهاهو عالمنا العربي في ظل رموزه من أهل الفن والكرة يشق طريقه نحو التقهقر بخطى ثابتة، وصار مستهلكا باقتدار لكل إبداعات ومنتجات العالم التي لاحظ له فيها سوى الشراء وبعثرة الثروات والجري وراء الملذات، دون أن تقدم سواعده شيئا يذكر في ركب الحضارة المعاصر، فصار العرب لا يملكون سيارة ولا طيارة ولا حتى الورقة لا يصنعونها، ويسب نبيهم -صلى الله عليه وسلم- على مرأى ومسمع منهم فلا يملكون إلا التظاهرات والتنديدات.

إنه لا خير في أمة يقودها السفهاء ويمجد فيها الوضعاء في حين يغيب كل مجاهد صادق أفنى عمره وعمله في خدمتها وتحقيق غايتها .. إن هذه الأمة الإسلامية ليست بعقيمة لإنجاب رموز تفتخر بها على مر الزمان .. فالتحية والإجلال لكل عامل مجد أمام ماكينته في المصنع، ولكل طبيب محترف في غرفة العمليات يداوي بمبضعه آلام المرضى، ولكل باحث في معمله يضني الفكرة في اختراع يرفع من شأن الأمة، ولكل شيخ على منبره يعلى في النفوس قيم الحق والطهارة، ولكل مدرس في مدرسته ينير الطريق لأبنائنا  .. والنماذج كثيرة وعديدة، فمتى نستيقظ وننصف هؤلاء؟! تكريما وتعظيما ورعاية.

 


د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com     

 

     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق