الجمعة، 29 مارس 2013

الأمم تحتاج لأمثال هؤلاء


 


«مهاتير محمد» أو «محاضر محمد» .. نموذج لقائد دولة انتشل بلاده (ماليزيا) من المجهول وغياهب التخلف، واعتمد على سواعد أبنائها وعقولهم ليس فقط على مواردها الطبيعية، واستطاع -بتوفيق الله تعالى- أن يترجم البراعة الإدارية إلى واقع عملي نهضوي تفخر به ماليزيا طيلة عمرها .. إنها المفردات واللغة التي نحن في أمس الحاجة لأن نتبناها في عالمنا العربي، لغة الوقائع لا الشعارات الفارغة من المضمون العملي، ومسيرة نضال حقيقية تبني مجدا كما بناه سلفنا الأوائل.

بداية متواضعة   

ولد مهاتير محمد في 20 ديسمبر 1925، وهو أصغر إخوته الستة لمدرس من أصل هندي وأم ملاوية، في مدينة «ألور سيتار» عاصمة ولاية كيداه.

نشأ في أجواء عائلية محافظة اجتماعيا، وحصل على الابتدائي والإعدادي والثانوي في «ألور سيتار». وتلقى دراسته بكلية «السلطان عبد الحميد»، ثم درس الطب بكلية «المالاي» بسنغافورة والتي كانت تعرف بكلية «الملك إدوارد السابع الطبية»، وقام بدراسة الشؤون الدولية بجامعة «هارفارد» بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1967م.

خلال الحرب العالمية الثانية وأثناء الاحتلال الياباني لماليزيا باع مهاتير فطائر الموز والوجبات الخفيفة الأخرى لتوفير الدخل لأسرته، ودرس الصحافة بالمراسلة لتوفير المال اللازم لسد مصاريفه الشخصية والعائلية، ونشر العديد من المقالات وخاصة في صحيفة «صنداي تايمز» تناولت كافة القضايا الملاوية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

تعرف على زوجته (سيتي حشمة محمد) في سنغافورة التي كانت تدرس في نفس كلية الطب، وهي ثاني امرأة ملاوية تدرس الطب في ذلك الوقت.

قام السيد مهاتير بعد تخرجه بالعمل بالطب في عيادته الخاصة (1957-1972) والتي كان يقوم بعلاج الفقراء بها مجاناً، كما عمل كضابط طبيب بسلاح الخدمات الطبية.

عرف مهاتير باتجاهاته السياسية، حيث انضم لتنظيم «اتحاد الملايو» عام 1946 وفي صفوفه شق طريقه نحو النشاط السياسي، حيث تدرج فيه من عضو المجلس الأعلى لتنظيم اتحاد الملايو الوطني، ثم نائب رئيس له، ثم بعد ذلك رئيس له عام 1981

كان أول عمل سياسي له ممثلاً لماليزيا في الأمم المتحدة 1963، ثم رشح في مسقط رأسه نائبًا برلمانيًا (1964-1969)، وفي الوقت نفسه عضوا في المجلس الأعلى للحزب، وفي عام 1969 طرد من الحزب بسبب انتقاده الشديد لرئيس الوزراء الماليزي الأسبق وأبي الاستقلال الماليزي (تنكو عبد الرحمن)، واتهامه له عبر رسالة مفتوحة بتجاهل وإهمال الحقوق الأساسية للشعب المالاوي.

ومن المناصب التي تدرج فيها رئيس مجلس التعليم العالي الأول، ورئيس مجلس الجامعة الوطنية في السبعينات، ثم وزيراً للتربية والتعليم من عام 1974 حتى 1981، نائب رئيس الوزراء ووزير التجارة والصناعة، رئيس الوزراء ووزير الشؤون الداخلية 1981.

تولى مهاتير محمد رئاسة الوزراء عام 1981- 2003م (رابع رئيس وزراء ماليزي وأطولهم حكما) حيث وصلت ماليزيا في عهده إلى ذروة مجدها وارتفع نصيب دخل الفرد فيها ارتفاعاً كبيراً، كما تم تقليص حجم البطالة فيها بشكل ملحوظ، استطاع من خلال منصبه أن يتجه بالبلاد نحو نهضة اقتصادية عالية حيث حقق نسب عالية جدا في معدل النمو الاقتصادي للبلاد، ورسم الخطط بحيث تصبح بلاده بحلول عام 2020 بلد على درجة عالية من التقدم الصناعي.

الفكر التنموي

تبنى مهاتير محمد المنهج التنموي ودفع بالمالايا نحو النهضة التنموية من خلال توفير مستويات عالية من التعليم والتكنولوجيا لهم، كما دفع بهم لتعلم اللغة الإنجليزية، وقام بإرسال البعثات التعليمية للخارج وتواصل مع الجامعات الأجنبية، حاول بكل جهده في إطار سياسته الاقتصادية بتجهيز المواطن الماليزي بكافة الوسائل العلمية والتكنولوجية لكي يستطيع الانفتاح والتواصل مع العالم الخارجي والتعرف على الثقافات المختلفة، ثم بعد ذلك الدفع به إلى سوق العمل من أجل زيادة الإنتاج وخفض مستوى البطالة بين أفراد الشعب، حيث كان يهدف لتفعيل الجزء الأكبر من المجتمع الأمر الذي يعود على ارتفاع مستوى التنمية الاقتصادية للبلاد في نهاية الأمر، واستطاع أن يحول ماليزيا من دولة زراعية يعتمد اقتصادها على تصدير السلع الزراعية والمواد الأولية البسيطة مثل المطاط والقصدير وغيرها إلى دولة صناعية متقدمة، حيث شارك القطاع الصناعي والخدمي في اقتصادها بنسبة 90 %. وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من إجمالي الصادرات، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية.

كانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52 % من إجمالي السكان في عام 1970، أي أكثر من نصفهم، إلى 5 % فقط في عام 2002، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1247 دولارا في عام 1970 إلى 8862 دولارا في عام 2002، أي إن دخل المواطن زاد لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عاما، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3 %.

وأصبحت تجربة ماليزيا في النهضة الصناعية التي قامت بها تحت رعاية مهاتير محمد مثل تحتذي به الدول، ومادة للدراسة من قبل الاقتصاديين، ومرشحة في 15 عاما المقبلة لكي تكون المؤهلة الأولى من بين دول العالم الثالث للانضمام لمجموعة الدول الثماني الصناعية والأكثر تطورا في العالم.

يقول في هذا الشأن: «بعد أن توليت الحكم مباشرة وجدت أنني لا يمكنني أن أعتمد على الأرقام والاحصائيات الحكومية فقررت في الحال ضرورة إنشاء مركز للدراسات الإستراتيجية والدولية وأحضرت الخبراء المتخصصين، وقلت: لهم سوف تأخذون تمويلا من الحكومة، ولكن هذا لا يجب أن يعنى بتاتا أن تكونوا تابعين لها. أريد أرقاما ودراسات استطيع الاعتماد عليها.

أيضا رأيت أن العاصمة كوالالامبور تحتاج لتطوير وأنها لا يمكن أن تبقى على هذا الحال أبدا. فقمت بجولة في المدينة واخترت المكان الذي رأيته ملائما وانتقلت هناك وقلت سوف أقيم في هذا المكان وعلى جميع الوزارات والإدارات الحكومية الانتقال إلى هنا بخطة محددة.

تم إنشاء هذه المدينة في أول التسعينيات مساحتها الآن 4500 هكتار وتحولت الآن إلى مدينة رائعة تزخر بكل الوزارات تقريبا علاوة على (واد للتكنولوجيا) الذي رأيت ضرورة إنشائه بعد زيارة لوادي السليكون في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، زرت هذا المكان وشهدت أحدث تطوير أدخله في الحياة الماليزية، وهو ما يسمى بالبطاقة الذكية التي يستخدمها المواطن في أغراض عدة بدءا من التصويت في الانتخابات كرخصة سيارة ككارت طبي علاجي وشهادة ميلاد وتقوم ماليزيا بتصدير هذه التكنولوجيا لدول مجاورة».

ومن أهم شعاراته: «أنظر شرقا» تلك العبارة المشهورة التي كان دائما يرددها رئيس الوزراء الماليزي، وكان بذلك يعبر عن اقتناعه العميق أن نموذج التغيير الحضاري يمكن أن لا يكون غربيا متأثرا بقيم الغرب بل يمكن أن يكون شرقيا متأثرا بقيم الشرق .. ففي شخصية مهاتير محمد تتجسد مهارة الزعيم الذي لم يخضع لسطوة الانبهار بالغرب، ولم تكن تهمه المظاهر الشكلية بقدر ما كانت تهمه عملية البحث عن الممرات المختصرة في التاريخ للارتفاع بأمته من دولة هامشية تجهل عاصمتها إلى دولة مركزية فاعلة في المسرح الدولي وهي محط أنظار العالم.  

ركائز التقدم

اعتمد مهاتير في فكره للتقدم بالبلاد على ركائز أساسية ويعد أولها بل في مقدمتها الوحدة بين فئات الشعب حيث إن سكان ماليزيا ينقسموا إلى السكان الأصليين وهم المالايا ويمثلون أكثر من نصف سكان ماليزيا، وقسم آخر من الصينيين والهنود وأقليات أخرى، وأيضاً توجد الديانة الأساسية وهي الإسلام بالإضافة للديانات الأخرى مثل البوذية والهندوسية، ولقد نص الدستور الماليزي على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام مع ضمان الحقوق الدينية للأقليات الدينية الأخرى، لذلك لزم التوحد بين جميع الأطراف لتسير البلاد كلها من أجل الاتجاه نحو هدف واحد والعمل وفق منظومة تتكاتف فيها جميع الفئات.

الركيزة الثانية اهتمامه بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية؛ فجعل هذه المرحلة جزءًا من النظام الاتحادي للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور الرياض وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة التربية، وتلتزم بمنهج تعليمي مقرر من الوزارة. كما تم إضافة مواد تُنمي المعاني الوطنية، وتغرز روح الانتماء للتعليم الابتدائي، أي في السنة السادسة من عمر الطفل.. ومن بداية المرحلة الثانوية تصبح العملية التعليمية شاملة، فبجانب العلوم والآداب تدرَّس مواد خاصة بالمجالات المهنية والفنية، والتي تتيح للطلاب فرصة تنمية وصقل مهاراتهم.

وإلى جانب ذلك كان إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهني، التي تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل في مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك، وكان من أشهر هذه المعاهد معهد التدريب الصناعي الماليزي، والذي ترعاه وزارة الموارد البشرية، وقد أصبح له تسعة فروع في مختلف الولايات الماليزية.

كما واكب الاهتمام بالتعليم دخول ماليزيا مرحلة التصنيع، الأسمنت والحديد والصلب، بل وتصنيع السيارة الماليزية الوطنية (بريتون)، ثم التوسع في صناعة النسيج وصناعة الإلكترونيات، والتي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي، وتستوعب 40% من العمالة.

وكانت التسعينيات من القرن الماضي مرحلة نضج الثمرة، حيث وُضعت ماليزيا في قائمة الدول المتقدمة؛ ففي مجال التعليم، وتوافقًا مع ثورة عصر التقنية، قامت الحكومة الماليزية في عام 1996م بوضع خطة تقنية شاملة، من أهم أهدافها إدخال الحاسب الآلي والارتباط بشبكة الإنترنت في كل مدرسة، بل في كل فصل دراسي!!

وبالفعل بلغت نسبة المدارس المربوطة بشبكة الإنترنت في ديسمبر 1999م أكثر من 90%، وبلغت هذه النسبة في الفصول الدراسية 45%، كما أنشأت الحكومة الماليزية العديد مما يعرف بالمدارس الذكية التي تتوفر فيها مواد دراسية تساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم واستيعاب التقنية الجديدة، وذلك من خلال مواد متخصصة عن أنظمة التصنيع المتطورة وشبكات الاتصال، ونظم استخدام الطاقة التي لا تحدث تلوثًا بالبيئة.

كما تنفذ عملية التدريس والتعليم في هذه المدارس وفقًا لحاجات الطلاب وقدراتهم ومستوياتهم الدراسية المختلفة، ويتم اختيار مدير المدرسة من القيادات التربوية البارزة، ويساعده فريق من الأساتذة ممن لديهم قدرات مهنية ممتازة،كما تتيح مشاركة الطلاب في اختيار البرامج الدراسية، بجانب حرص هذه المدارس على التنويع والتطوير في أساليب التدريس، مثل الرحلات العلمية والأيام الترفيهية.

لقد حددت الدولة أولوياتها بدقة، فإذا نظرنا إلى إجمالي ما أنفقته الحكومة الماليزية على التعليم في عام 1996م على سبيل المثال نجده 2.9 مليار دولار، بنسبة 21.7% من إجمالي حجم الإنفاق الحكومي، وازداد هذا المبلغ إلى 3.7 مليار دولار عام 2000م بما يعادل نسبة 23.8% من إجمالي النفقات الحكومية.

وكان إنفاق هذه المبالغ على بناء مدارس جديدة، وخاصة المدرس الفنية، وإنشاء معامل للعلوم والكمبيوتر، ومنح قروض لمواصلة التعليم العالي داخل وخارج البلاد.. وبالإضافة إلى الدعم والتسهيلات الكبيرة التي تقدمها الدولة، فإن إلزامية التعليم أصبحت من الأمور التي لا جدال فيها، وأصبح القانون الماليزي يعاقب الآباء الذين لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس!!

كل ذلك بجانب الحرص على الانفتاح، والاستفادة من النظم التعليمية المتطورة في الدول المتقدمة، وفي هذا السياق تم إنشاء أكثر من 400 معهد وكلية جامعية خاصة، تقدم دراسات وبرامج توأمة مع جامعات في الخارج، كما أتاحت الفرصة للطلاب الماليزيين لمواصلة دراستهم في الجامعات الأجنبية.. إلا أن ما يستحق التسجيل ويدعو إلى الإعجاب، تلك الفكرة الجديدة التي قامت بها الحكومة الماليزية، عندما عملت على تقوية العلاقة بين مراكز البحوث والجامعات وبين القطاع الخاص؛ بعبارة أخرى تم فتح المجال لاستخدام أنشطة البحث الجامعية لأغراض تجارية!!

وقد كان لتلك الفكرة أعظم الأثر على الجميع؛ فلم تعد الحكومة الآن مطالبة بدعم كل الأنشطة البحثية بمفردها، بل شاركتها في ذلك المصانع والمؤسسات المالية والاقتصادية، كل حسب حاجته.. وفي ذات الوقت لا تكاد تجد مركز أبحاث يشكو من قلة الدعم الحكومي، وهذا إضافة إلى أن الدولة استطاعت أن توجه ما كان يمكن أن يصرف على هذه الأنشطة إلى مصارف أخرى مهمة. ومن جراء ذلك امتلكت المصانع الماليزية القدرة على التطوير، بل والابتكار والمنافسة، وإثبات وجودها في الأسواق المحلية والعالمية.

ولم تنس الحكومة المرأة الماليزية، والتي حصلت على نصيبها من التعليم كالرجل تمامًا، بل تقدِّم الحكومة قروضًا بدون فوائد لتمكين الآباء من إرسال بناتهم إلى المدارس وتوفير مستلزمات المدرسة، وتعطي الفقراء مساعدات مجانية لهذا الغرض.

الركيزة الثالثة في خطة التنمية تمثلت في البحث عن دولة مناسبة تقوم بعملية الدعم لماليزيا في تجربتها نحو التقدم والتنمية، وكانت هذه الدولة هي «اليابان» التي أصبحت من أكبر حلفاء ماليزيا في مشروعها نحو التنمية والتقدم. وكان رأي مهاتير محمد أن الإستراتيجية التي انتهجتها اليابان في إنتاج سلع جيدة بأسعار زهيدة ساهمت بشكل كبير في تحقيق تفوقها على المنتجات الأوربية والأمريكية ذات الأسعار المرتفعة، وبالتالي نجحت في السيطرة على أسواق آسيا وإفريقيا، إضافة إلى إتباع سياسة منهجية في التصنيع، وإيجاد قيادات تتمتع بمستوى علمي فائق، وتتميز بالتطور والإبداع، وعلى المستوى المعنوي نجد في اليابان الالتزام الأخلاقي والمهني بقيم العمل الآسيوية، مما يستتبعه التفاني والجدية في الأداء المهني.

وبالتوازي مع هذه الركائز ظهرت براعة «الإدارة الجيدة»، فقد دخلت ماليزيا في التسعينيات مرحلة صناعية مهمة، وذلك حين شجعت الصناعات ذات التقنية العالية وأولتها عناية خاصة، وقد كان ذلك بعد أن توافر لديها جيل جديد من العمالة الماهرة المتعلمة، والمدربة بأحدث الوسائل، فأصبح في مقدورها إثبات وجودها، بل والمنافسة على الصدارة.

ومن أبلغ ما يبين نجاح الأداء الاقتصادي لماليزيا في الفترة المهاتيرية، ذلك التوسع الذي حدث في استثمارات القطاع الصناعي، حيث أنشئ أكثر من 15 ألف مشروع صناعي، بإجمالي رأس مال وصل إلى 220 مليار دولار، وقد شكلت المشروعات الأجنبية حوالي 54% من هذه المشاريع، بما يوضح مدى الاطمئنان الذي يحمله المستثمر الأجنبي لماليزيا من ناحية الأمان، وبالتأكيد ضمان الربحية العالية، بينما مثلت المشروعات المحلية 46% من هذه المشاريع.

وقد كان لهذه المشروعات عظيم الأثر والنفع على الشعب الماليزي؛ حيث وفرت مليوني وظيفة للمواطن الماليزي، إلى جانب الفائدة الكبرى المتمثلة في نقل التقنية الحديثة وتطوير مهارات العمالة الماليزية.. أيضًا تحققت في فترة ولاية مهاتير محمد طفرة ملحوظة في مشروعات الاتصالات والمعلومات التي كانت تحظى باهتمام ودعم حكومته كعنصر مهم من عناصر خطته التنموية، وكان يسميه «الاقتصاد المعرفي»، وبالفعل أصبحت ماليزيا محطة إقليمية وعالمية في مجال صناعة الاتصالات والمعلومات والإنترنت.

اعتزال السياسة

تعرض الزعيم الماليزي مهاتير محمد للعديد من الانتقادات على مدار حياته السياسية حيث وصفه البعض بالديكتاتور ولكن جاء قرار استقالته (2003م) وهو في قمة مجده (76سنة) لينسف هذا المعتقد حيث لم يستأثر بالحكم على الرغم من النجاح الساحق الذي حققه أثناء حكمه للبلاد.

وظل مثيراً للجدل من قبل الغرب نظراً لتصريحاته اللاذعة الشديدة اللهجة دائماً، وكانت أكثر هذه التصريحات جرأة وإثارة لغضب الغرب تلك التي كانت في القمة الإسلامية التي عقدت في ماليزيا حيث انتقد اليهود بشدة في كلمته التي ألقاها حيث أشار لسيطرتهم على القرار الدولي وقيامهم بإشعال نيران الحرب ضد المسلمين.

من أقواله ومواقفه الرائعة

- إن ماليزيا واثقة بأن الأمة الإسلامية يمكنها أن تكون أقوى قوة في العالم إذا توحدت، وأحسنت استخدام ثرواتها ومصادرها المختلفة.

- إذا كنا جميعًا رجال دين فمن سيقوم بتصنيع الطائرات والصواريخ والسيارات وأدوات التكنولوجيا الحديثة ؟!

- إذا كنت تريد أن تعرف لماذا ينجح حاكم ويفشل آخر فنصيحتي أنه يجب أن يكون واضحا جيدا في رأس أي حاكم -وخصوصا في العالم الثالث الإسلامي- ما الذي يريده من البقاء في السلطة، هذا الشيء قد يبدو سهلا في الظاهر ولكنه صعب التطبيق لأنه دون أن يسأل الحاكم لماذا أنا هنا؟ بصفة دائمة فإن سوء الحكم وسوء الإدارة وحب البقاء في السلطة هو النتيجة التلقائية، علاوة على ذلك كلما كان حاكم العالم الثالث شخصا يتمتع بخيال إصلاحي كان ذلك شيئا مهما لأن دول العالم الثالث في تقدمها تحتاج في البداية إلى حاكم مصلح صاحب فلسفة في التنمية والتطور.

- حاكم العالم الثالث يتمتع بسلطات كبيرة وإذا لم يستخدمها بصورة جيدة ومبتكرة ولهدف الإصلاح يحدث الفساد في الحال. من هنا يجب أن يبادر باتخاذ خطوات الإصلاح ويحشد الجهود وراءها.

- المشكلة الماليزية كانت تبدو مثل مشكلة مصر لحد كبير. تخلصنا من الاستعمار عام 1957م ولكن ظللنا بلدا زراعيا حتى الثمانينيات. كان هدفي هو إخراج ماليزيا من وضع الدولة الزراعية. وهذا لم يكن معناه مجرد إخراج مادي بإنشاء مصانع وبنية أساسية وغيره، ولكن إخراجها من العقلية الزراعية التي ترضى بالواقع ولا تحب المغامرة والمنافسة والتطور والانفتاح وفهم الدين كعمل للآخرة فقط.

- تطوير أي شعب وإخراجه من حالة التخلف يستلزم -في رأيي- التركيز على ما يمكن أن نسميه الآن بلغة الكمبيوتر (السوفت-وير) و (الهارد-وير) .. (السوفت-وير): هي التركيبة العقلية والذهنية للشعب أما (الهارد-وير) فهو البنية الأساسية اللازمة من كهرباء واتصالات وغيره. وبالنسبة للسوفت-وير كان لابد من تطوير نظام التعليم بالكامل من خلال التركيز على تعليم الانجليزية والعلوم الهندسية والرياضية والتكنولوجية بالذات، واعتمدنا في هذا بدرجة كبيرة على اليابان التي ساعدتنا لأن اليابان يهمها كثيرا أن ترى من حولها متقدمين. كما سعيت أيضا من خلال السوفت-وير إلى إيجاد طبقة وسطى ماليزية تأخذ على عاتقها التحلي بقيم المنافسة والابتكار وتطوير البلاد، ونجحت في ذلك من خلال انتقاد الملايويين سكان البلاد الأصليين والزراعيين وتهديدهم بانتزاع الامتيازات التي تمتعوا بها وامتداح الصينيين الملايويين (حوالي 20% من السكان) لقدراتهم العالية ونشاطهم وحيويتهم.

- عندما أتيت للحكم رفعت شعار «ماليزيا بوللي» ومعناها أن ماليزيا قادرة على فعل كل شيء، وذلك لزرع روح التحدي، وكان هذا شيئا أساسيا في فكرى، لتحقيق ذلك اعتمدنا -ولكن ليس بدرجة كبيرة- على قروض من اليابان، فاليابان ثاني أكبر مستثمر في ماليزيا بعد الولايات المتحدة، ولكن التمويل الأساسي وهو العنصر الحاكم الذي لعب دورا هائلا في مشروع تطوير ماليزيا هو ارتفاع معدل الادخار في البلاد حيث يصل إلى 35% من إجمالي الناتج القومي. المدخرات العائلية في ماليزيا تتعدى قيمتها في 2005 ما يصل إلى 70 مليار دولار، هذا مكننا بدرجة كبيرة من تطوير البنية الأساسية (الهارد-وير) وبعد ذلك ساعدنا فائض صادراتنا. صادرات ماليزيا زادت قيمتها من 5.2 مليار رينجيت فى 1970 إلى 514 مليار رينجيت أو 135 مليار دولار. (3.8= واحد دولار أمريكي)، أما بالنسبة للسوفت-وير فقد اعتمدنا على القطاع الخاص بدرجة كبيرة وخصوصا من قبل الصينيين الماليزيين حيث أسهموا بإنشاء المدارس والجامعات والمعاهد العلمية والهندسية والتي يصل عددها الآن إلى حوالي 32 في البداية كان الملايويون يحجمون عن الذهاب إلى هذه المدارس لأن العقلية الزراعية كانت مازالت مسيطرة، لكن عندما وجدوا أن المدارس الصينية هي التي تخرج أصحاب المهارات ممن يجدون فرص العمل والثراء أقبلوا على هذه المدارس. في هذه المدارس يتعلمون اللغة الإنجليزية والصينية والرياضيات علاوة على اللغة المالايوية.

يذكر أن مهاتير محمد وضع رؤيته الشهيرة المعروفة في ماليزيا بعبارة «دو وا بولو دو وا بولو» أي «عشرين عشرين: 2020» وهي السنة التي وضعتها الإستراتيجية بعيدة المدى التي تم تنفيذها بخطى متسارعة منذ 1981 والتي تجعل سقف سنة 2020 المنعطف الذي تصبح فيه ماليزيا دولة متطورة، وليس دولة في طور النمو.

يقول الأستاذ (رياض حاوي) في جلسة حميمية مع أحد أبرز الشخصيات السياسية الماليزية وهو (تان سري سنوسي جنيد)، حدثنا عن قصة طريفة عندما كان في زيارة مع مهاتير محمد إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق رونالد رجان، كان هذا الأخير ينظر لكل زائريه من العالم الثالث نظرة مليئة بالاستعلاء والغرور، اقترب من الضيف الماليزي وقال له أنظر أمامك ما تراه هما العمارتين الأطول في العالم يقصد برجي مركز التجارة العالمي WTC!! فرد عليه أب ماليزيا الحديثة: سيدي الرئيس أطمئنك أنه سيكون في ماليزيا قريبا ما هو أطول منهما. وبالفعل احتفظ مهاتير بوعده للرئيس الأمريكي وفي عام 1998 كانت ماليزيا على موعد مع تدشين العمارتين الأطول في العالم المعروفتين ببرجي «بتروناس». وكلنا يعلم ما حدث فيما بعد للبرجين الأمريكيين ذات يوم من أيام سبتمبر 2001 لما أصبحا خبرا من أخبار التاريخ.

عندما افتتح مهاتير البرجين قال في كلمته: «اليوم نضع بين يدي الماليزيين معلما يجعلهم يرفعون رؤوسهم وينظرون عاليا»، ومرة سألته صحفية مشاغبة، سؤالا استفزازيا قائلة: «إن اقتصاد ماليزيا لا يزال هشا وهو أقل من أن يتورط في بناية ضخمة من حجم برجي بتروناس التوأمين» فرد عليها مداعبا: «مثلنا مثل المرأة الحسناء القصيرة التي تحتاج إلى لبس الكعب العالي حتى تظهر طويلة».

مؤلفاته

قام مهاتير محمد بتأليف كتاب «معضلة الملايو» عام 1970م، وهو الكتاب الذي أثار ضجة وقام فيه بانتقاد الشعب المالاوي واتهمه بالكسل ودعا فيه الشعب لثورة صناعية تنقل ماليزيا من إطار الدول الزراعية المتخلفة إلى دولة ذات نهضة اقتصادية عالية، ولقد تم منع الكتاب من قبل منظمة المالايو القومية المتحدة ولكنه استطاع أن يتجاوز هذا وبدأ يظهر كشخصية سياسية لها فكر مختلف حتى وصل لرئاسة الوزراء عام 1981م.

كما قام بتأليف عدد آخر من الكتب منها كتاب «صوت ماليزيا»، و «صوت آسيا – زعيمان أسيويان يناقشان أمور القرن المقبل» هذا الكتاب الذي قام بالمشاركة بتأليفه مع السياسي الياباني شينتارو اشيهار.

كما أن الدور الذي قام به مهاتير محمد في إدارته للأزمة المالية التي عصفت بكل دول شرق آسيا لا ينكر؛ ففي نهاية التسعينيات تعرضت العملة الماليزية «الرينجيت» إلى مضاربات واسعة بهدف تخفيض قيمتها، وظهرت عمليات تحويل نقدي واسعة إلى خارج ماليزيا، وبالأخص من جانب المستثمرين الأجانب، وبدا أن النجاح الذي حققته على وشك التحول إلى فشل. وبعد بحث مستفيض للموضوع أصدر مهاتير محمد مجموعة قرارات تهدف إلى فرض قيود على التحويلات النقدية خاصة الحسابات التي يملكها غير المقيمين، وفرض أسعار صرف محددة لبعض المعاملات، في الوقت الذي اتجهت فيه معظم الدول لسياسة تعويم العملة تنفيذًا لنصائح صندوق النقد الدولي، ورغم ضغوط البنك الدولي أصر مهاتير على سياسته التي أثبتت الأيام أنها كانت ناجحة، وبفضلها اجتازت ماليزيـا هذه الأزمة بأقل الخسائر، بل إن دولاً كثيرة درست سياسته، وحاولت تكرارها والاستفادة منها.

 


د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق