الأحد، 17 مارس 2013

حيثيات قوانين السنن الإلهية 3


بسم الله الرحمن الرحيم
حيثيات قوانين السنن الإلهية

في الأمم والجماعات والأفراد (3)


 

لله تعالى سننا في كونه لا تتغير وفي خلقه لا تحابي أحدا، إنها المقياس الذي نقيس به مقدار التزامنا، والمعيار الذي نعرف به مدى تفريطنا، والميزان الذي نحكم به على كافة الأمور، ولذلك كان فلاح البشرية معقود على مدى اهتدائها بهدي هذه السنن والامتثال بأحكامها، وأن لا نخرج على حيثياتها لكي تسير لها الأمور سيرا متزنا في طريق الله المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء.

القانون الأول «قانون التقوى والإيمان والعمل الصالح»


   ·   مادة 1: المؤمنون هم الأعلون، قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران:139] أي لا تهنوا (من الوهن والضعف) ولا تحزنوا _ لما أصابكم ولما فاتكم _ وأنتم الأعلون .. عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق، ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون، فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص (1)

   ·   مادة 2: معية الله تعالى للمتقين، قال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل:128] وهذه معية خاصة كقوله تعالى لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد:4] ومعنى (الذين اتقوا) أي تركوا المحرمات (والذين هم محسنون) أي فعلوا الطاعات (2)

   ·   مادة 3: من يتق الله يجعل له مخرجا، قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق:2] وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}] (3)

   ·   مادة 4: من يتق الله يجعل له فرقانا، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} [الأنفال:29] فالفرقان لغة: الفصل بين الشيئين أو الأشياء، والمعنى: إن تتقوا الله يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى وبسببها ملكة من العلم وهداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل والسنة والبدعة، ومخرجا من الشبهات ونجاة من الشدائد .. كان عبد الوهاب الوراق (تلميذ الإمام أحمد وصاحبه) جمع بين العلم والتقى، فقيل للإمام أحمد من نسأل بعدك؟ فقال سلوا عبد الوهاب، فإنه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق (4)

   ·   مادة 5: بالإيمان والعمل الصالح تحصل الحياة الطيبة، قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97] وقال تعالى: {آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} [هود:1-3] والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا، أما في الآخرة فهو بالنوع والكم، وبما لم يخطر على قلب بشر.

   ·   مادة 6: بالإيمان والتقوى يحصل الرخاء، قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف:96] والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون في توكيد ويقين ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان النابع من كل مكان بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان فهي البركات بكل أنواعها وألوانها وبكل صورها وأشكالها ما يعهده الناس وما يتخيلونه وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال! (5) وقال تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} [هود:50-52]

   ·   مادة 7: بالإيمان والتقوى يكون النصر والتمكين والنجاة، قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر:51] أي لننصرهم في الدارين، أما في الدنيا فبإهلاك عدوهم واستئصاله عاجلا أو بإظفارهم بعدوهم وإظهارهم عليه وجعل الدولة لهم والعاقبة لأتباعهم، وأما في الآخرة فبالنعيم الأبدي والحبور السرمدي (6) وقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} [آل عمران:125] وقال جل ذكره: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين} [يونس:102-103] أي من سنتنا إذا أنزلنا بقوم عذابا أخرجنا من بينهم الرسل والمؤمنين {كذلك حقا علينا ننج المؤمنين} أي واجب علينا لأنه خبر ولا خلف في خبره (7)

القانون الثاني «قانون طلب الدنيا والآخرة»


   ·   مادة 1: طالب الدنيا يوفى أجره في الدنيا، قال تعالى: {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى:20] وقال تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود:15-16] قال قتادة: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. وقال أيضا: من عمل لآخرته زدناه في عمله، وأعطيناه من الدنيا ما كتبناه له، ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا النار، ولم يصب من الدنيا إلا رزقا قد قسمناه له لا بد أن كان يؤتاه مع إيثار أو غير إيثار (8)

   ·   مادة 2: طالب الدنيا لا ينال منها إلا ما قدره له الله وشاء، قال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} [الإسراء:18] أي أن ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم والملذات يحصل له ما طلبه وأراده منها وإنما ينال منها بالقدر الذي يشاؤه الله ويريده فهذه الآية مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات الواردة بشأن طلاب الدنيا 

   ·   مادة 3: طالب الآخرة سعيه مشكورا، قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} [الإسراء:19] أي سعيهم مقبولا عند الله، وقال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} [الشورى:20] قال ابن كثير: أي من أراد عمل الآخرة {نزد له في حرثه} أي نقويه ونعينه على ما هم بصدده ونكثر نماءه ونجزيه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله تعالى. (9)

   ·   مادة 4: خير الناس من يطلب خير الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} [البقرة:200-202]، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) (10) والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين: نعيم الدنيا والآخرة، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله فإن كلمة {حسنة} نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات وحسنة الآخرة الجنة بالإجماع. (11)

   ·   مادة 5: الجمع بين خير الدنيا والآخرة ممكن شرعا وعقلا، وحاصله ما حكاه الله تعالى من قول الناصحين لقارون، قال تعالى: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:76-77] فقوله تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الكاملة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والمساكن والمناكح، فيجوز لك أن تتمتع به في غير سرف ولا مخيلة فإن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه، وقوله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن إليك.

 

الهوامش والمصادر

استلهمنا فكرة هذا المقال من كتاب السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، للدكتور / عبد الكريم زيدان – مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثالثة 1998

(1)   في ظلال القرآن – سيد قطب عليه رحمة الله تعالى – دار الشروق  ج1 ص 480

(2)    تفسير ابن كثير – آخر سورة النحل – بتصريف يسير

(3)   رواه الدارمي – كتاب الرقائق رقم  2609

(4)   تاريخ بغداد للخطيب 11/27

(5)   في ظلال القرآن – سيد قطب  – دار الشروق  ج3 ص 1339

(6)   محاسن التأويل للقاسمي / دار الفكر ج13-14 ص 240

(7)    تفسير القرطبي / الجامع لأحكام القرآن – دار الغد العربي – تفسير سورة يونس ج4 ص3315

(8)    تفسير القرطبي – سورة الشورى آيه 20

(9)   تفسير ابن كثير / دار المعرفة – ج4 ص111

(10)         رواه البخاري – كتاب الدعوات رقم 5910

(11)         القرطبي – تفسير الجامع لأحكام القرآن تفسير سورة البقرة ج2 ص 432

 

د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق