الاثنين، 18 مارس 2013

حيثيات قوانين سنن الرزق الإلهية 4



حيثيات قوانين سنن الرزق الإلهية 

في الأمم والجماعات والأفراد (4)

 

لله تعالى سننا في كونه لا تتغير وفي خلقه لا تحابي أحدا، إنها المقياس الذي نقيس به مقدار التزامنا، والمعيار الذي نعرف به مدى تفريطنا، والميزان الذي نحكم به على كافة الأمور، ولذلك كان فلاح البشرية معقود على مدى اهتدائها بهدي هذه السنن والامتثال بأحكامها، وأن لا نخرج على حيثياتها لكي تسير لها الأمور سيرا متزنا في طريق الله المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء.  


  ×   مادة 1: الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، قال تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات:58] وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} [هود:6]، وقال جل ذكره: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} [العنكبوت:60] 

  ×   مادة 2: الله يرزق المؤمن والكافر، فكما خلقهم فهو يرزقهم ويهيئ لهم أسباب تلقي هذا الرزق قال تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} [الإسراء:20] أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوق في دار العمل (الدنيا) فوجب إيصال متاع الدنيا إلى الكل (1)

  ×   مادة 3: ابتغاء الرزق من الله وحده، قال تعالى: {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} [العنكبوت:17] والرزق مشغلة النفوس وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس (2)

      ×       مادة 4: لابد للرزق من مباشرة أسبابه، قال تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [تبارك:15] وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)‌ (3) ‌

      ×       مادة 5: السعي لاكتساب الرزق لا ينافي التوكل، عن عمر بن الخطاب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا) (4) ومر عمر -رضي الله عنه- بقوم، فقال: لهم من أنتم؟ فقالوا المتوكلون، قال: أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه ـ أي بذره ـ في بطن الأرض وتوكل على ربه. (5) وسُأل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا ويأتيني رزقي. فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله جعل رزقي تحت رمحي) (6)

  ×   مادة 6: مشقة السعي على الرزق أفضل من سؤال الناس، فعن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) (7) قال ابن حجر: في الحديث الحث على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك. (8)

  ×   مادة 7: كسب المال الحلال بمنزلة الجهاد، قال تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [المزمل:20] قال القرطبي: وقد سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال الحلال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله (9)

  ×   مادة 8: للرزق المبارك شروط، فمن رزقه الله تعالى مالا من غير طمع ولا استشراف نفس ولا سؤال من الناس فقد جرت سنة الله في هذا المال حصول البركة فيه، وقد دل على هذه السنة حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال: (يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع اليد العليا خير من اليد السفلى) (10) ومعنى (بورك له فيه) أي حصول البركة في ماله، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة، وإلى هذه الزيادة أشير بما روي في الحديث الشريف أنه لا ينقص مال من صدقة لا إلى النقصان المحسوس (11)

  ×   مادة 9: التمتع بالطيبات من الرزق مباح، فالتحليل والتحريم من حق الله وحده، فلا يجوز لأحد أن يحرم شيئا أباحه الله بحجة الزهد أو هضم النفس أو كونه من المستلذات، قال تعالى رادا على من حرم ما لم يحرمه الله تعالى من زينة أو طيبات الرزق: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} [الأعراف:32] والمعنى أن زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا وإن شاركهم فيها الكفار فهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد من الكفار فإن الجنة محرمة على الكافرين (12)

  ×   مادة 10: للتمتع بالطيبات من الرزق قانون يحكمه، قال الإمام ابن العربي: والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه أن على المرء أن يأكل ما وجد طيبا كان أو قفار (الخبز بلا أدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشبع إذا وجد ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ويشرب العسل إذا اتفق له ويأكل اللحم إذا تيسر ولا يعتمد أصلا ولا يجعله ديدنا (13)

      ×       مادة 11: الأموال بذاتها لا تقرب صاحبها من الله، فمدار القربى والزلفى على العمل الصالح، قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} [سبأ:37]

  ×   مادة 12: بسط الرزق أو تضييقه لا علاقة له بصلاح الإنسان أو عدم صلاحه، فحصول الغنى في الدنيا لا يدل على الاستحقاق ولا على أن صاحبه مرضي عند الله، قال تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما} [الفجر:16-18] وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ….) (14)

× مادة 13: التفاوت بين الناس في الرزق له حكم جليلة، منها «ليخدم الناس بعضهم بعضا» قال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون} [الزخرف:32] أي فاوتنا بينهم في الرزق ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال لاحتياج بعضهم إلى بعض، وبهذا يمكن أن يتعايشوا ويحصل كل منهم على ما يحتاجه بمساعدة الآخرين، ولولا هذا التفاوت لما أمكن أن يقضي بعضهم حاجة بعض ولا أن يخدم بعضهم بعضا (15)

ومنها «منع البغي» قال تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} [الشورى:27] أي يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدر لهم ما هو أقرب إلى جمع شملهم، فيرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك، فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما توجبه حكمته تعالى ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم جميعا لهلكوا ولا شبهة في أن البغي مع الفقر أقل ومع الغنى أكثر وأغلب (16)

×  مادة 14: المؤمن الصادق لا يحزن لتفاوت الرزق، حتى ولو كان هذا المؤمن شديد الفقر لأن كل ما يؤتاه الإنسان من الدنيا فهو متاع قليل وزائل ولا يستحق أن تستشرف له نفس المؤمن ولا أن يكون مقصدها وهمها ولا يحزن على فوته وفقده لأن مقصده الحقيقي الآخرة وغايته طلب مرضاة الله، قال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} [الزخرف:33-35] والمعنى: لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطائنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج} أي سلالم ودرجا من فضة {عليها يظهرون} أي يصعدون {ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون} أي جميع ذلك يكون من فضة {وزخرفا} أي وذهبا أي بعض المذكور من فضة وبعضه من ذهب ليكون أبهى وأجمل ثم قال تعالى: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة {والآخرة عند ربك للمتقين} أي هي لهم خالصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم (17)

 

الهوامش والمصادر

استلهمنا فكرة هذا المقال من كتاب السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، للدكتور / عبد الكريم زيدان – مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثالثة 1998

(1)            تفسير الرازي ج20 ص 181

(2)            في ظلال القرآن ـ سيد قطب ص 2728

(3)            (صحيح)  رواه أحمد عن المقدام انظر حديث رقم: 5546 في صحيح الجامع.السيوطي / الألباني

(4)            رواه الترمذي ـ كتاب الزهد رقم 2266 وقال حديث حسن صحيح

(5)            تفسير الآلوسي – روح المعاني ج29 ص 14

(6)            البخاري – كتاب الجهاد والسير وانظر فتح الباري ج11 ص 305

(7)            رواه البخاري ـ كتاب الزكاة رقم  1378

(8)            فتح الباري ج3 ص 336

(9)            تفسير القرطبي ج19 ص55

(10)       رواه لبخاري – كتاب الزكاة برقم 1379

(11)       مفردات الراغب الأصفهاني ص 44 وحديث ( ما نقص مال من صدقة ) رواه الترمذي ـ كتاب الزهد برقم 2247

(12)       تفسير ابن كثير ج2 ص 211

(13)       تفسير القرطبي ج7 ص 198  

(14)       رواه أحمد – مسند المكثرين من الصحابة برقم 3490

(15)       أنظر تفسير روح المعاني ـ  الآلوسي ج25 ص 78، وابن كثير ج4 ص 127

(16)       أنظر تفسير القرطبي ج16 ص27 والزمخشري ج 4 ص 223

(17)       أنظر تفسير ابن كثير ج4 ص 127، أيسر التفاسير ـ أبو بكر الجزائري ج 4 ص 648

 


د/ خالد سعد النجار


alnaggar66@hotmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق