الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

الشيب .. النذير العريان





شعرات بيضاء تتسرب إلى سواد اللحية والرأس .. قليلة لكنها مقلقة، وبيضاء لكن الجميع لا يحبونها .. إنها أمارة الكبر وعلامة الكهولة ونذير لأيام العمر التي تسرب منها الكثير دون أن ندري. خاصة وأن هذه الشعرات لها أخوات سرعان ما يظهرن تباعا، وقرينات ربما غطين سواد الرأس في سرعة خاطفة.
والشيب رسالة لا يقرؤها إلا الفطناء، ولا ينتبه لها إلا أهل العقل والرشد، فتراهم يلتفتون لأحوالهم ويصححون مسارهم ليحسن مآلهم، أما الغافلون فهم لا ينتبهون، وإن انتبهوا رأوا في الشيب سنة عابرة وظاهرة ماضية في البشر، ورأى بياض رأسه وما اعتبر.
من نام في ليل الشاب ضلالة ... سيوقظه صبح المشيب إلى الرشد
قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]
أي: أَوَلَم نعمركم تعميراً يتذكر فيه المتذكر. وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه، والتدبُّر في آياته، وإن قصُر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم. وقيل: هو ثماني عشرة سنة. وقيل: ما بين العشرين إلى الستين، وقيل: أربعون. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب، مسح الشيطان على وجهه. وقال: "وجه لا يُفلح أبداً"، وقيل: ستون. وعنه صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة»، وفي البخاري عنه عليه السلام: «أعذر الله إلى أمريء أخر أجله حتى بلغ ستين سنة». [البحر المديد: 5/187]
{وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} قال بعض أهل التفسير: النذير: الأنبياء، كل نبي نذير أمته. لكن جمهور أهل التفسير على أن النذير: «الشيب»، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسفيان، ووكيع، والحسن بن الفضل، والفراء، والطبري.
قال أبو العباس: "كانت العرب تذكر الشيب في أشعارها إمّا مدحاً وإما ذمّاً، وشعرهم في ذمه أكثر منه في مدحه. ويروى أنه قيل: ما بالُ شِعركم في الشيب أحسن أشعاركم في سائر أقوالكم؟ قالوا: لأنا نقوله وقلوبنا قَرِحة".
وقال يونس النحوي: "ما بكت العربُ على شيء بكاءها على الشباب، وما بلغت كُنْهَ ما يستحق"
ويروى أن بعضهم رأى يوماً شيبة في رأسه فقال: "شر بديل، وخير مبدول".
قال أبو العتاهية:
الشيبُ كُرهٌ وكُرهٌ أن يفارقني .. أعْجِب بشيء على البغضاءِ مَودود
يمضي الشبابُ وقد يأتي له خلَفٌ .. والشيب يذهب مفقوداً بمفقود
وقال علي بن جبلة:
ألقى عصاهُ وأرخى من عِمامته .. وقال ضيفٌ فقلت الشيب قالَ أجَلْ
فقلتُ أخطأتَ دارَ الحيّ قال ألا .. تمّت لك الأربعون الحول ثم نزَلْ
للهِ شيبٌ رمى قلبي بلَوعته .. كأنما اعْتَمَّ منهُ مَفرِقي بجبَلْ
ولأبي العتاهية:
يا خاضبَ الشيبِ بالحِنّاءِ تستُرَهُ .. سلِ الملِيكَ له سِتراً من النارِ
لن يرحلَ الشيبُ عن دارٍ ألمَّ بها .. حتى يُرحِّلَ عنها صاحبَ الدارِ
وقال الهيثم بن عدي: لقي رجل الهيثمَ بنَ الأسود فقال له: كيف تجدك يا أبا العُريان؟ قال: أجدني صالحا، وأصبحت على ذاك قد ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، واسودّ مني ما أحب أن يبيضّ، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد.
النذير العريان
قال القرطبي: يقال إن ملكاً من اليونان استعمل على ملبسه أمة أدّبها بعض الحكماء، فأرته يوماً المرآة فرأى في وجهه شعرة بيضاء فقصها، فأخذتها الأمة وقبلتها ووضعتها بكفها وأصغت إليها. فقال الملك: أي شيء تصغين؟! قالت: سمعت هذه المبتلاة بفقد قرب الملك تقول قولاً عجباً. قال: ما هو؟ قالت: لا يتجرأ لساني على النطق به. قال: قولي آمنة ما لزمت الحكمة. قالت: تقول أيها الملك المسلط على أمد قريب، إني خفت بطشك بي فلم أظهر حتى عهدت إلى بناتي أن يأخذن بثأري، وكأنك بهنّ وقد خرجن عليك، فإما أن يجعلن الفتك بك، وإما أن ينقصن شهوتك وقوتك وصحتك حتى تعد الموت غنماً. فقال: اكتبي كلامك. فكتبته، فتدبره ثم نبذ ملكه.
نور المسلم
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم، من شاب شيبة في الإسلام، كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة) [رواه أحمد]
وروي بلفظ: (الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة) [رواه البيهقي في الشعب]
وعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (من شاب شيبة في سبيل الله [وفي رواية: في الإسلام]؛ كانت له نورا يوم القيامة). فقال رجل عند ذلك: فإن رجالا ينتفون الشيب؟ فقال: (من شاء؛ فلينتف نوره). [رواه أحمد والطبراني]
قال الغزالي: "وإنما نهى عن نتف الشيب من نحو لحية أو رأس لأنه نور ووقار، والرغبة عنه رغبة عن النور، ولأنه في معنى الخضاب بالسواد".
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: "والتصريح بكتب الحسنة ورفع الدرجة وحط الخطيئة، نداء بشرف الشيب وأهله، وأنه من أسباب كثرة الأجور، وإيماء إلى أن الرغوب عنه بنتفه رغوب عن المثوبة العظيمة".
فجر المشيب
فجر المشيب أوضح فجر يعاينه الإنسان، وهو فجر صادق لا يعتريه كذب ولا بهتان، فينبغي أن يكون بداية حياة جديدة عامرة بالتقوى والإيمان، ومجافاة أهل الضلال والخذلان، فالسعيد من قبل النذارة، والرشيد من رأى المنارة، فاهتدى بنورها، وسار على دربها، فبياض شيب المعتبرين، بيض وجههم يوم لقاء رب العالمين {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106/107]

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق