الخميس، 22 أغسطس 2013

تلقيح الثورة المصرية


مع ميلاد أي ثورة لابد أن تتولد ثورة مضادة، ويعتقد عالم الاجتماع (تشارلز ميلز) أن وجود الثورة المضادة هو أبلغ دليل على أن الثورة تحمل رسالة تغيير جدية.
إلا أن هذه الثورة المضادة إن لم تحاول خنق الثورة في بواكيرها، فلا أقل من اللعب في بوصلتها لتحريف اتجاهها عن المسار الصحيح، لكن أسوأ ما يمكن أن يعتري الثورة هو التسلل بخفاء في مقدراتها من قبل فلول النظام السابق في محاولة للتزاوج غير الشرعي من أجل تلقيح مشبوه للثورة كي تضع في نهاية الحمل السفاح وليدا مشوها معاقا أكثر شبها بالنظام السابق، لا يقر أعين الجماهير التي داعبتها آمال الحرية طيلة أيام المخاض.
قبل الانتخابات البرلمانية وتحديد يوم الثلاثاء (1/11/2011) فاجأ نائب رئيس الوزراء «علي السلمي» (محسوب على حزب الوفد الليبرالي) المجتمع المصري بوثيقة «إعلان المبادئ الأساسية للدستور»، وكذلك معايير تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد للبلاد، في محاولة التفافية لتهميش دور القوى الوطنية وفرض الهيمنة على الشعب المصري حتى لا يعبر عن إرادته، مانحا في بنود الوثيقة سلطات واسعة وحصرية للمجلس العسكري تعود بمصر مرة أخرى إلى عهود الوصاية على الإرادة الشعبية واختزالها بدعوى أن النخب على وعي أكبر وأنضج بمصير الأمة، الأمر الذي يوقع مصر في نفس الخطأ التاريخي إبان عهود الفراعنة المعاصرين الذين حكموا البلاد بفردية تامة ووقعوا على معاهدات (كامب ديفيد نموذجا) وأبرموا صفات (المعونة الأمريكية) وأنشئوا تحالفات (التطبيع مع الكيان الصهيوني) على غير رغبة الشعوب، ضاربين بالاتجاه الوطني العام عرض الحائط.
وثيقة حكومية وليست شعبية
رغم أن استفتاء شعبي أجري على إعلان دستوري بعد أسابيع من إسقاط مبارك (التاسع عشر من شهر مارس 2011)، تضمن أن يختار الأعضاء المنتخبون في مجلسي الشعب والشورى جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد، إلا أن وثيقة السلمي الجديدة -التي وضعتها هيئة غير منتخبة شعبيا- قامت بنودها بعملية ذبح للشفافية التي تنشدها جماهير الثورة، حيث أعطت حصانة للمؤسسة العسكرية تمنع مناقشة سياستها الداخلية أو ميزانيتها في البرلمان، على أن يتم وضع الميزانية العسكرية رقما واحدا في الموازنة العامة. كما لوحظ أن النص على أن وزير الدفاع هو القائد العام للقوات المسلحة، يهدف إلى منع الحزب الذي يشكل الحكومة من تعيين وزير دفاع مدني.
واستكملت عملية الذبح بالنص على أن يتم اختيار 80 عضوا من الجمعية التأسيسية لوضع الدستور من خارج مجلس الشعب!!.. والحد الأقصى لمشاركة الأحزاب والكتل خمسة أعضاء.
وللمجلس العسكري حق طلب إعادة النظر في مواد مشروع الدستور إذا تضمن نصا يتعارض مع مقومات الدولة والمجتمع والحقوق والحريات العامة. وإذا لم تنته الجمعية التأسيسية من الدستور خلال ستة شهور يختار المجلس العسكري جمعية جديدة بحريته لوضع الدستور خلال ثلاثة شهور.
 كل هذا تحت مبرر أن الدستور الجديد لابد أن يضعه أهل الاختصاص، لكن د. عصام العريان (نائب رئيس حزب الحرية والعدالة/ الإخوان المسلمون) رفض هذا الالتفاف بأن الدستور يجب أن تضعه مجموعة من الخبراء ذوي الخبرة وبالتالي يجب الاتفاق على أسس اختيار اللجنة التأسيسية. وقال: «من الذي قال إن البرلمان لن يختار الخبراء الدستوريين ذوي الثقة، البرلمان سيختار أكثر الناس توافقاً وسيكونون ضمن لجنة المائة»
أما مرشح الرئاسة د. محمد سليم العوا، فقد قال أنه عندما ذهب إلى اجتماع الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء فوجئ بوجود نسبة عالية من الفلول والأحزاب الكرتونية التي لا يوجد لها أرضية في الشارع المصري.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: من الذي أعطي السلمي أو المجلس العسكري هذه الوصاية على الشعب، كي يرسموا معالم الدستور الجديد، بصرف النظر عن محتواه إيجابا أو سلبا؟! .. إن الجيش مؤسسة وطنية ملك للشعب وذات مسئولية محددة في حماية الوطن، ومسئولية مؤقتة الآن في حماية الثورة وتسليمها لرئيس ترتضيه الجماهير فقط، أما الحقوق -من أي نوع- فقد آلت للشعب فقط صاحب الثورة، وهو الوحيد صاحب الحصانة التي لن يهبها لأحد بعد الآن .. لابد أن تعرف مصر الجديدة ونخبها أن هذا الشعب ليس عقيما في فكره ولا يجهل طريقه، ولا يحتاج لمن يوجهه، وهو غني بكوادره القادرة على تحمل مسئوليته بتكليف منه وحده وبموافقة ضمنية على محاسبته لها.
لكن أن تقوم هيئة بحذف 80 فرد منتخب من لجنة صياغة الدستور، وتحديد معالم لمن تختارهم هي وتفضلهم على من اختارهم الشعب، مع قصر القوى الوطنية في 20 فرد فقط، فهذه ردة إلى العهود البائدة، وتقمص دور لم تعتمده القوى الوطنية، وقفز من نوع مكشوف لركوب موجة الثورة.
والعجيب أن تأتي بعض رموز القوى الليبرالية وتؤيد هذه الوصاية، وتعطي لأنفسها الحق الكامل في الحديث عن الشعب، وتقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه وثيقة السلمي، وتتنصل من استفتاء مارس الشعبي.
كل هذا -وبصراحة تامة- نتيجة الخوف من مشاركة الإسلاميين في الساحة السياسية، لما يتمتعون به من شعبيه عارمة، برزت بعدما سئمت الشعوب من لا يتقون الله تعالى فيها. وهذا الرعب الغير مبرر من القوى الليبرالية يهول الأمر وكأن الإسلاميون وحدهم هم الذين سيكتبون الدستور!!      
إن هذه الوثيقة لهي أكبر دليل على تغلغل فلول النظام السابق في المشهد السياسي المصري بعد الثورة، وأن سياسة الإقصاء ما زالت مخيمة على فكر بعض الرموز، وأنه من الطبيعي أن تنال سيل من أقبح الأوصاف من كتابنا ومحللينا: ( السم القاتل، الفضيحة السياسية، الوثيقة المشبوهة، فتنة دستور السلمي ... ).

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق