إن فهم حقيقة الصراع وتحديد أبعاده تنطلق من فهم حقيقة
ربانية الدعوة، فهذه الدعوة دعوة ربانية، لها أقدارها الربانية، وحساباتها
المنهجية..
وأهم هذه الحسابات: حسابات الزمن والدماء..
ففي حساب الزمن قد نتساءل عن هذا الوقت الطويل الذي
تمضيه الأمة تحت الاستضعاف، لماذا؟!
والإجابة هي: أننا ندفع ثمن فترة طويلة من الانحراف عن
الحق، فيجب تقبل النتائج المهولة للصراع بنفس راضية..
والحسابات الصحيحة للدعوة هي التي تعين على تقبل هذه
النتائج..
وتحقيق التوافق بين الإحساس والتصور البشريين وحقيقة
الأمر عند الله تعالج الخلل في ضبط هذه الحسابات.
والمثل التاريخي الضابط لحسابات الزمن والدماء في واقع
الدعوة هو تاريخ بني إسرائيل..
لقد بقي بنو إسرائيل في عبودية فرعون أربعمائة عام، وبعد
هذا الزمن الطويل يصنع الله موسى ويرسله ليخلص بني إسرائيل، ولا ندرك حكمة طول
الوقت إلا بعد خلاصهم من العبودية، لنكتشف أنها كانت باستحقاق عادل على أعمالهم،
فبمجرد خروجهم من العبودية.. عبدوا العجل، ولم تكد أقدامهم تجف من ماء البحر الذي
فلقه الله كل فرق كالطود العظيم..!
ومن نفس الموقف تتبين حسابات
الدماء.. فقد كان جزاء بني إسرائيل عندما عبدوا العجل أن قُتِلَ أكثرهم، وهذا حساب
الدماء في ميزان الله في مقابل أفعال البشر..
والإحساس بالزمن دائر في التصور الإسلامي بين حقيقة
الزمن كما هي عند الله، وتعامل الناس مع هذا الزمن كما هو عندهم، بدليل قول الله
عز وجل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ}.
فالأمر الذي ينزل إلينا من عند الله ليتحقق بزماننا في
ساعات أو دقائق أو ثوان.. ينزل في يوم مقداره ألف سنة: {يُدَبِّرُ
الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}..
ومن هذا المعنى ينشأ مقتضى مهم وهو الصبر، وهو الحقيقة
الثانية التي تضمنتها الآية: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ
لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي المَعَارِجِ * تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(4)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}..
فالدعوة أمر ضخم، هي من عند الله، وزمنها يتراوح ما بين الزمن
عند الله والزمن عند الناس، وتلك هي الطبيعة التي تقتضي الصبر..
ورغم ضخامة الصبر الناشئ عن هذا المفهوم إلا أنه لا يخرج
عن طاقة البشر، ولا يتوقف معنى الآية عنده؛ بل يمتد إلى حساب الزمن في واقع
الدعوة.. لنتعلم كيف نتصوره وكيف نحقق مقتضى هذا التصور..
والأساس الصحيح لحساب الزمن هو قدر
الله في واقع الدعوة، فالوحي الذي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه من فوق سبع سماوات،
ولكنه كان يسبق الحجر الذي ألقاه اليهود من فوق سطح أحد البيوت ليسقط على رسول
الله صلى الله عليه وسلم!
ولذلك عندما شكا الصحابة إلى رسول الله مرارة الاستضعاف،
وآلام التعذيب: «أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا.. ألاَ تَدْعُو لَنا؟».
قَالَ لهم: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ
الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الأرضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى
بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُجْعَلُ نصفَينِ، وَيُمْشَطُ بأمْشَاطِ
الحَديدِ مَا دُونَ لَحْمِه وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ،
وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْر حَتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِنْ صَنْعَاءَ
إِلَى حَضْرَموتَ.. لاَ يَخَافُ إلاَّ اللهَ والذِّئْب عَلَى غَنَمِهِ، ولكنكم
تَسْتَعجِلُونَ».
ومن هنا كان التعبير القرآني بـ «الفتح القريب» و«النصر
القريب» هو معالجة نفسية وشعورية تعين على تحقيق الصبر، ومقتضياته في واقع الجهاد
أو واقع الاستضعاف..
ويدخل في إطار هذه المعالجة الشعورية اعتبار كل مرحلة
جديدة تدخل فيها الدعوة هي اقتراب من حقيقة النصر، ولعل تسمية صلح الحديبية بالفتح
كان ضمن هذه المعالجة.
كما تأتي المعالجة الشعورية من ممارسة واجب الدعوة، حيث
يتحقق الاطمئنان بأداء الواجب، ليعالج الوقت الطويل بمقتضى الرؤية البشرية
المجردة..
وفي حساب الزمن لسنا مطالبين إلا باستغلال كل لحظة من
حياتنا في السعي من أجل دين الله، كما أن حساب الزمن لن يكون صحيحًا.. إلا إذا
أدركنا الدلالة المنهجية لكل مرحلة زمنية تمر بها الدعوة؛ فقد تكون الحجة هي
الدلالة المنهجية للزمن، مثلما كان الزمن في دعوة نوح عليه الصلاة والسلام، حيث أثبت النص القرآني دقة الحساب.. رغم بلوغه ألف سنة إلا خمسين عاما!
وفي حين يذكر النص تقديرا دقيقا فيقول: {أَلْفَ
سَنَةٍ} ثم يستثني:
{إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} نجد أن لحظة خاطفة قد حالت بين نوح وابنه حتى جعلته لا يستطيع إكمال حديثه معه..!
{إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} نجد أن لحظة خاطفة قد حالت بين نوح وابنه حتى جعلته لا يستطيع إكمال حديثه معه..!
هذه اللحظة تختلف طبيعتها عن طبيعة التسعمائة وخمسين
عامًا، ولها دلالة أخرى غير دلالة الصبر والحجة، وهي دلالة الحسم والانتقام، وهكذا
يرتبط الزمن بدلالته، فلم يكن من الممكن أن يمتد زمن الألف سنة إلا خمسين عامًا
حتى يستطيع أن يتحدث نوح إلى ابنه حديثه الأخير.. فإذا بالحديث الأخير لا تتم
عبارته.. {وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ
المُغْرَقِينَ}!
إن معيار الدقة الربانية في حساب
الزمن لها صورة عجيبة، وهى صورة إسرافيل وقد تناول البوق في فمه، رافعًا رأسه إلى
العرش، في انتظار لحظة النفخ..!
تلك هي اللحظة عند الله لا تتأخر، حتى يأخذ إسرافيل البوق
أو حتى يرفعه إذا كان قد أخذه، أو يرفع رأسه لينظر الأمر إذا كان قد رفعه، تلك هي
اللحظة عند الله..
والله تبارك وتعالى يجعل من الزمن حجة على خلقه، وينشئ
للزمن دلالة، ويجعله برهانًا على صبره، ومن أمثلة اعتبار الزمن حجة: هو بقاء نوح
في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، مع علم الله بأنه لن يؤمن معه إلا قليل.. هم أصحاب
السفينة، فلم يكن الزمن في قدر الله سبب هداية بقدر دلالته على صبره سبحانه وتعالى، وحجته على خلقه، وتلك هي القيمة الحقيقية للزمن في قصة
نوح.
أما قصة فتية الكهف فكان دورهم في الدعوة هو إعلان
العقيدة فيما بينهم، وتقييم الواقع وفقًا لعقيدتهم: {
رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10] ويدخل الفتية
الكهف ليناموا ثلاثمائة سنين، ويزدادوا تسعا، هذا الزمن الطويل الذي قضاه الفتية
نومًا عميقًا كان في حساب الدعوة دورًا كاملًا أتموا به واجبهم أمام الله عز وجل،
حيث أعلنوا العقيدة وشهدوا على واقعهم، فكانت الخطوة الثالثة التجرد لله في تحديد
المنهج: {فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ
مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16] وبذلك اكتملت العناصر الأساسية الثلاث في الدعوة:
-
إعلان العقيدة.
-
تقييم الواقع.
-
التجرد في تحديد المنهج.
ولم نكتشف أن الدور البشري قد تم بتلك العناصر إلا بعد
أن يقوم الفتية من نومهم، ليجدوا الغاية من المنهج المطلوب قد تحققت..
فإذا بزمن النوم تنشأ له دلالة الفصل بين الدور البشري
المطلوب، والآثار القدرية المترتبة عليه، ليكون هذا الزمن خطًّا فاصلًا في عقول
أصحاب الدعوة بين الواجب التكليفي على الدعاة، والقدر المكتوب عند الله!
وقد ساهم الزمن في استقرار حقيقة أن وعد الله حق، مما
يعني أن إقامة الحجة واستقرار المفاهيم لها حاجتها الزمنية التي لا تتحقق إلا
بها..
إن معيار الحساب الحسي للزمن في أصغر وحداته هو طرفة
العين..
وعندما قال سليمان: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ
أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ
بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:38-40]..
اختار الذي يستطيع أن يأتي به قبل
أن يرتد إليه طرفه لكونه الأسرع، لنتعلم كيف يكون حساب الزمن في واقع الدعوة.
ومن هنا كان من أعظم الآيات التي أعطاها الله لسليمان:
الريح التي تحمله إلى المكان الذي يحتاج شهرا للوصول إليه.. في نفس الوقت.
التصور السياسي للحركة الإسلامية
الشيخ/ رفاعي سرور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق