بسم
الله الرحمن الرحيم
لمحات تربوية من سيرة الصحابي
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
تتجلى روعة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أنهم رأوا في
الإسلام المنهج السامي الذي يحقق لهم حياة مثلى في دنياهم وأخرتهم، فتمثلوا -وقدوتهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم- بمبادئ الإسلام وتعاليمه إلى أرض الواقع، وحققوها في
أنفسهم وفيمن حولهم، فحوت سيرتهم العطرة دروس وعبر وحلول لجل المشاكل التي تعصف
بالأمة الإسلامية اليوم .. إنه الماضي الذي نسيناه وأخذنا في خضم الأزمات نبحث عن
مخرج في آراء مفكري الغرب تارة والشرق تارة أخرى رغم أن الحل في إسلامنا وما هو
منا ببعيد.
ولقد
عاصر الصحابي الجليل عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- العديد من الاضطرابات
السياسية في دولة الإسلام الوليدة، كما شهد بداية بسط الدنيا نعيمها على أهل
الإسلام، فكان في كل هذه الأحداث خير نموذج للمؤمن التقى الخفي كما أوصى حبيبه -صلى
الله عليه وسلم-، وقدم للأمة لمحات تربوية أولى أن نلزم بها أنفسنا ونربى عليها
أبنائنا وأن نعيش بها ولها.
حياة
العلم في العمل به
عاصر عبد
الله بن عمر -رضي الله عنه-
نزول الوحي، وعايش الأحداث مع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وكان في كل
هذا شديد الإصغاء إلى التوجيهات الربانية والأحاديث النبوية، وحمله حرصه الشديد
على تعلم العلم أن صار أحد أوعيته، فكان عمره يوم مات النبي -صلى
الله عليه وسلم- ثنتين
وعشرين سنة، مكث بعدها ستين سنة يفتى الناس من سائر البلاد، وينشر بينهم العلم الذي
ورثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكان أحد
العبادلة الأربعة المشهود لهم بالفضل والعلم، حتى أن اجتماعهم على رأى يعد حجة
ويقال فيه: «هذا قول
العبادلة».
ويكفينا
دلالة على سعة علمه هذا الكم الهائل من الأحاديث التي حفظها ورواها عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- (2630
حديث) حيث يعد ثاني الرواة بعد أبى هريرة -رضي
الله عنه- من حيث عدد الأحاديث المروية.
قال عنه
الإمام الزهري: لا يعدل برأيه، فإنه أقام بعد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ستين
سنة فلم يخف عليه شيء من أمره ولا من أمر أصحابه.
ولقد كان -رضي
الله عنه- خير
مثال للعالم العامل بعلمه، فهو العابد الزاهد المتواضع المجاهد الذي ظل طيلة عمره
يحمل هم الإسلام، ولا تأخذه في الله لومه لائم، وما حاد يوما عن هدى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- حتى
أن السيدة عائشة رضي الله عنها تقول فيه: ما رأيت أحدا ألزم للأمر من عبد الله بن
عمر.
ولذلك تمثلت
فيه القدوة الطيبة، فكان الرجل من أهل زمانه يدعو الله فيقول: اللهم أبق عبد الله
بن عمر ما أبقيتني كي أقتدي به، فإني لا أعلم أحدا على الأمر الأول غيره.
فعن عبادته -رضي
الله عنه- تروى الأخبار عن سالم عن ابن عمر
قال: كان الرجل في حياة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إذا رأى
رؤيا قصها على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال:
فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال:
وكنت غلاما شابا عزبا، فكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فرأيت
في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها
قرنان، ورأيت فيها ناسا قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله
من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال: (نعم الرجل عبد الله، لو كان
يصلى من الليل) قال سالم: فكان عبد الله بعد لا ينام من الليل إلا قليلا.
وكان له
مهراس فيه ماء فيصلى ما قدر له ثم يصير إلى الفراش، فيغفي إغفاء الطير، ثم يثب
فيتوضأ ثم يصلى يفعل ذلك في الليلة أربع أو خمس مرات.
وعن طاووس
قال: ما رأيت مصليا كهيئة عبد الله بن عمر، أشد استقبالا للكعبة بوجهه وكفيه
وقدميه.
وكان رحمه
الله إذا أصبح قال: اللهم اجعلني من أعظم عبادك نصيبا في كل خير تقسمه الغداة،
ونور تهدى به، ورحمة تنشرها، ورزق تبسطه، وخير تكشفه، وبلاء ترفعه، وفتنه تصرفها.
يقول خادمه نافع ما قرأ ابن عمر
هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله} ثم يقول: إن هذا لإحصاء شديد.
وقرأ -رضي
الله عنه- يوما سورة المطففين، فلما بلغ
قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} بكى حتى حن وامتنع من قراءة ما بعدها.
وشرب يوما ماء باردا فبكى واشتد
بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت آية في كتاب الله عز وجل {وحيل بينهم وبين
ما يشتهون} فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا شهوتهم الماء البارد، وقد قال الله
عز وجل: {أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله}.
وليس أدل على عظم قدره في
العبادة من شهادة معاصريه:
فقال عنه طاووس: ما رأيت رجلا
أورع من ابن عمر، ولا رأيت رجلا أعلم من ابن عباس.
وقال سعيد بن المسيب: لو كنت شاهدا لرجل من أهل
العلم أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
وقالت السيدة عائشة -رضي
الله عنها-: ما رأيت أحدا أشبه بأصحاب
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الذين دفنوا في النمار من عبد الله بن
عمر.
أما عن تواضعه فيروى
عن أبى الوازع، قال: قلت لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم. قال:
فغضب ثم قال: إني لأحسبك عراقيا، وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه.
وجاءه سائل يوما فقال لابنه:
أعطه دينارا. فلما انصرف السائل قال له ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه. فقال: لو
علمت أن الله يقبل منى سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائب أحب إلى من الموت، أتدرى
ممن يتقبل الله؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
وقال له رجل: يا خير الناس،
وابن خير الناس. فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد
من عباد الله عز وجل، أرجو الله عز وجل وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه.
وهذا تلميذه مجاهد يصف تواضعه
فيقول: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني أكثر.
كما كان -رحمه الله- مثال
للعالم الأمين على العلم، يحفظ حرمته، ولا يقول فيه بما لا يعلم، وهذا مزلق خطير
يهوى فيه أغلب حملة العلم، خوفا من أن يعيروا بجهلهم أحد مسائله، إلا من رحم الله
تعالى من العلماء الربانيين الصادقين.
فلقد سأله رجل عن مسألة، فطأطأ
رأسه ولم يجبه، حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته، فقال له الرجل: يرحمك الله، أما
سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم ترون أن الله تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه،
اتركنا رحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جوابا عندنا وإلا أعلمناك أنه
لا علم لنا به.
وسئل يوما عن شيء فقال: لا علم لي
به، فلما أدبر السائل قال لنفسه: سئل ابن عمر عما لا علم له به فقال لا علم لي به.
ولشرف الأمانة التي حملها على
عاتقه ما أثر عنه أنه سكت على باطل أو مالئ أهل الضلال، بل كانت لا تأخذه في الله
لومه لائم، ولا تمنعه هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه.
ذات يوم وقف الحجاج خطيبا، وقال:
(إن ابن الزبير حرف كتاب الله) فصاح ابن عمر في وجهه: (كذبت كذبت كذبت)، وسقط في
يد الحجاج، وصعقته المفاجأة، وهو الذي يرهبه كل شيء، فمضى يتوعد ابن عمر بشر جزاء،
فلوح ابن عمر بذراعيه في وجه الحجاج وأجابه -والناس منبهرون-: (إن تفعل ما تتوعد
به فلا عجب فإنك سفيه مسلط).
وكتب إليه الحجاج: بلغني أنك
طلبت الخلافة، وإن الخلافة لا تصلح لعي ولا بخيل ولا غيور. فكتب إليه ابن عمر: أما
ما ذكرت من أمر الخلافة أنى طلبتها فما طلبتها، وما هي من بالى، وأما ما ذكرت من العي
والبخل والغيرة، فإن من جمع كتاب الله عز وجل فليس بعي، ومن أدى زكاة ماله فليس
ببخيل، وأما ما ذكرت فيه من الغيرة فإن أحق ما غرت فيه ولدى أن يشركني فيه غيري.
وهو -رضي
الله عنه- العالم المجاهد الصابر، يحمل
سفيه على عاتقه، ويمضى في سبيل الله يفتح به البلاد ويفتح معها قلوب العباد إلى
عقيدة التوحيد، فشهد اليرموك والقادسية وجلولاء، وما بينهما من وقائع الفرس، وشهد
فتح مصر واختط بها دارا، وقدم البصرة وشهد غزو فارس، وورد المدائن مرارا، فضلا عن
جهاده مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-.
وهكذا ما ترك عبد الله بن عمر
بابا من أبواب الخير إلا طرقه، فزان علمه بعمله، وفي ذلك يقول سعيد بن المسيب: مات
ابن عمر يوم مات، وما من الدنيا أحد أحب أن ألقى الله بمثل عمله منه.
الزهد
في الدنيا أساس كل خير
عاش عبد الله بن عمر -رضي
الله عنه- حتى جاوز الثمانين سنه، وعاصر
الأيام التي فتحت فيها الدنيا أبوابها على المسلمين، وفاضت الأموال، وانتشرت
الضياع، وغطى البذخ أكثر الدور، كما كثرت المناصب وانتشرت المطامع والرغبات، ولكنه
في كل هذا الخضم ما بدل ولا غير منهج الصالحين الزاهدين الذي تربى عليه، وما تخلى
يوما عن ورعه وزهده، لسان حاله يردد كلمات الرسول الحبيب: (اللهم لا عيش إلا عيش
الآخرة).
ويوضح منهجه فيقول: (اللهم إنك
تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا).
وكان إذا دعي لينهل من حظوظ
الدنيا قال: (لقد اجتمعت وأصحابي على أمر، وإني أخاف إن خالفتهم ألا ألحق بهم).
وكيف ينافس على الدنيا، وكلمات
الرسول مازالت حية في قلبه ووجدانه: (أبشروا وأملوا ما يسركم، فو الله ما الفقر
أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم،
فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)
فعن سفيان قال: أراد ابن عمر
مرة الصدر من مكة، فاتخذ له ابن صفوان سفرة من نقى وفالوذج وأخبصة، وبعث بها إليه،
فأتى بها فلما نظر إليها بكى، وقال: ما هكذا كنا، ما شبعت منذ أسلمت. وأمر بها
فقسمت على أهل الماء، ودعا بسفرته، وقال: لا خير إلا فيما يبقى نفعه غدا.
وعن عبد الله بن عدى - وكان
مولى لابن عمر - أنه قدم من العراق، فجاءه فسلم عليه، فقال: أهديت لك هدية. قال:
وما هي؟ قال: جوارش. قال: وما جوارش؟ قال: يهضم الطعام. قال: ما ملأت بطني طعاما
منذ أربعين سنة، فما أصنع به.
وكان رحمه الله لا يأكل طعاما
إلا وعلى خوانه يتيم أو مسكين، ولما اشتكى اشتهى حوتا فطبخ له، فلما وضع بين يديه
جاء سائل، فقال: أعطوه الحوت. فقالت امرأته: نعطيه درهما فهو أنفع له من هذا، واقض
أنت شهوتك منه. فقال: شهوتي ما أريد.
وروى عنه أنه كان لا يدمن اللحم
شهرا إلا مسافرا أو في رمضان، وكان يمكث الشهر لا يذوق فيه مزعه لحم.
وكان لا يعجبه شيء من ماله إلا
خرج منه لله عز وجل، ولما عرف رقيقه ذلك منه فربما شمر أحدهم فلزم المسجد، فإذا
رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنه أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن،
والله ما بهم إلا أن يخدعوك. فيقول ابن عمر: من خدعنا بالله انخدعنا له.
قال نافع: فلقد رأيتنا ذات عيشة،
وراح ابن عمر على نجيب له أخذه بمال، فلما أعجبه سيره أناخه مكانه ثم نزل عنه،
وقال: يا نافع، انزعوا زمامه ورحله وجللوه وأشعروه وأدخلوه في البدن.
وقرأ يوما قول الله تعالى: {لن
تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} فنظر في ماله، فما وجد شيئا أحب إليه من جاريته
(رميثة) فأعتقها، وزوجها نافع مولاه.
ويروى أيوب بن وائل الراسبى أن ابن عمر جاءه
يوما أربعة آلاف درهم وقطيفة، وفي اليوم التالي رآه في السوق يشترى لراحلته علفا
نسيئة – أي دينا - فذهب ابن وائل إلى أهل
بيته، وسألهم: أليس قد أتى لأبى عبد الرحمن – يعنى عبد الله بن عمر – بالأمس أربعة
آلاف وقطيفة؟ قالوا: بلى. قال: فإني رأيته اليوم بالسوق يشترى علفا لراحلته، ولا
يجد معه ثمنه. قالوا إنه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعا، ثم أخذ القطيفة وألقاها
على ظهره وخرج ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها، فقال: إنه وهبها لفقير. فخرج ابن
وائل يضرب كفا بكف، حتى أتى السوق وصاح في الناس: (يا معشر التجار، ما تصنعون
بالدنيا، وهذا ابن عمر تأتيه آلاف الدراهم فيوزعها ثم يصبح فيستدين علفا لراحلته).
وأتت له يوما عشرون ألف دينار في
مجلس، فلم يقم حتى فرقها. وأعطى بنافع عشرة آلاف دينار، فقال له بعض رفاقه: يا أبا
عبد الرحمن ما تنظر أن تبيع؟ قال: فهلا ما هو خير من ذلك، هو حر لوجه الله عز وجل.
وما مات -رضي الله عنه- حتى
أعتق ألف رقبة.
وصدق والله جابر بن عبد الله إذ
يقول: ما رأينا أحدا إلا قد مالت به الدنيا أو مال بها إلا عبد الله بن عمر.
التقى
ينأى بنفسه عن مواطن الفتن
أدرك عبد
الله بن عمر صدرا من خلافه بني أميه، حيث كانت الاضطرابات السياسية على أشدها،
وساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر، واحتدمت الخلافات بين المسلمين
وجعلتهم شيعا، تتنابذ بالحرب وتتنادى للسيف، كل هذا جعل ابن عمر ينأى بنفسه عن تلك
الفتن، مجتنبا قتال لا يدور بين مسلم ومشرك بل بين مسلم ومسلم، يحرص كل منهما على
إهلاك صاحبه.
ولقد أوضح
رأيه جليا حين سأله نافع، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عمر، وأنت صاحب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-
وأنت، وأنت .. ، فما يمنعك من هذا
الأمر؟ فأجابه قائلا: (يمنعني أن الله تعالى حرم دم المسلم، لقد قال عز وجل: {قاتلوهم
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} ولقد فعلنا، وقاتلنا المشركين حتى كان الدين
لله، أما اليوم ففيم نقاتل…؟ لقد قاتلت والأوثان تملأ الحرم من الركن إلى الباب
حتى نفاها الله من أرض العرب أفأقاتل اليوم من يقول لا إله إلا الله).
ويروى الحسن -رضي
الله عنه-: لما قتل عثمان بن عفان، قالوا
لعبد الله بن عمر: إنك سيد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس. فقال: إني
والله لئن استطعت لا يهراق بسببي محجمة من دم. قالوا: لتخرجن أو لنقتلنك على فراشك.
فأعاد عليهم قوله الأول. فأطمعوه وخوفوه فما استقبلوا منه شيئا.
وقال أبو العالية البراء: كنت
أمشى يوما خلف ابن عمر، وهو لا يشعر بي، فسمعته يقول لنفسه: واضعين سيوفهم على
عواتقهم، يقتل بعضهم بعضا، يقولون يا عبد الله بن عمر أعط يدك.
وحتى بعد ما
ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها، كان ابن عمر شيخ مسن كبير، فذهب
إليه مروان فقال له: هلم يدك نبايع لك، فإنك سيد العرب وابن سيدها. فقال له ابن
عمر: كيف نصنع بأهل المشرق، قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا. فقال ابن عمر: والله
ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما ويقتل بسببي رجل واحد. فانصرف عنه مروان وهو ينشد:
إني أرى
فتنة تغلي مراجلها
|
|
والملك
بعد أبى ليلى لمن غلبا
|
يعنى بأبي
ليلى معاوية بن يزيد.
ولم يقف به الأمر إلى أن ينأى
بنفسه عن تلك الفتن، بل إنه ما أدخر عن الناس النصيحة الصادقة والفتوى الراشدة التي
توضح خطورة المشاركة في تلك الأحداث، والتي لن يخرج منها المسلم إلا مقتولا أو
بإثم دم أخيه،
روى الإمام أحمد: لما خلع الناس
يزيد بن معاوية، جمع عبد الله ابن عمر بنيه وأهله، فتشهد ثم قال: أما بعد، فإنا
بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله -صلى
الله عليه وسلم- وإني
سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول:
(إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر –
إلا أن يكون الإشراك بالله – أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله -صلى
الله عليه وسلم- ثم
ينكث بيعته) فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون
الفيصل بيني وبينه.
ويروى ابن كثير أن مصعب بن
الزبير لما قتل المختار، طلب أهل القصر من أصحاب المختار من مصعب الأمان، فأمنهم،
لكن أصحاب مصعب ثاروا عليه، وقالوا: قتلوا أولادنا وعشائرنا وجرحوا منا خلقا،
اخترنا أو اخترهم، فأمر حينئذ بقتلهم وكانوا خمسة آلاف، فلما قدم مصعبا مكة، أتى
عبد الله بن عمر، فقال: أي عم، إني أسألك عن قوم خلعوا الطاعة، وقاتلوا حتى غلبوا
تحصنوا، وسألوا الأمام فأعطوه ثم قتلوا بعد ذلك؟ فقال ابن عمر: وكم هم؟ فقال مصعب:
خمسة آلاف. فسبح ابن عمر واسترجع وقال: لو أن رجلا أتى ماشية الزبير فذبح منها
خمسة آلاف في غداة واحدة، ألست تعده مسرفا؟ قال: نعم. قال: أفتراه إسرافا في
البهائم ولا تراه إسرافا في من ترجو توبته؟ يا ابن أخي أصب من الماء البارد ما
استطعت في دنياك.
إننا نوجه هذه اللمحات الغالية
لمن ألفوا الشعارات والصيحات الجوفاء، ولمن لا يفهمون من الدنيا إلا لغة المال والأعمال،
وأخيراً لمن استباحوا قتل الأبرياء تحت دعوى إزالة الظلم فأفسدوا أكثر مما أصلحوا.
نوجه هذه اللمحات قائلين لهم:
هذا هو الطريق الذي لا طريق غيره، فهل أنتم تائبون.
المصـــادر
صفة الصفوة ابن الجوزي
رجال حول الرسول خالد محمد خالد
البداية والنهاية ابن كثير
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق