بسم
الله الرحمن الرحيم
محمد ناصر الدين الألباني
محدث
الشام ومحدث العصر
(1333هـ/1914م-1420هـ/
1999م)
العلامة
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أحد أبرز العلماء المسلمين في العصر الحديث، ويعتبر
الشيخ الألباني من علماء الحديث البارزين المتفردين في علم الجرح والتعديل،
والشيخ الألباني حجة في مصطلح الحديث وقال عنه العلماء المحدثون إنه أعاد عصر ابن حجر
العسقلاني والحافظ بن كثير وغيرهم من علماء الجرح والتعديل.
مولده ونشأته
هو
الشيَّخ المحدِّث محمد ناصر الدِّين بن نوح نجاتي بن آدم، والملقِّب بالألباني
نسبة إلى بلده ألبانيا، والمكنَّى بأبي عبد الرحمن أكبر أبنائه. وقد أضاف إلى اسمه اسم محمد لما في اسمه الذي سمي به من
تزكية، فكان أحق الناس أن يكون ناصر الدين هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولد
الشيخ الألباني عام (1333هـ) الموافق (1914م) في مدينة «أشقودرة» عاصمة دولة
ألبانيا -حينئذ-، وقد نشأ العلَّامة الألباني في بيت فقير ولكنه بيت دين وعلم، فقد
تخرَّج والده في معاهد إسطنبول الشَّرعية، وعاد إلى بلاده لخدمة الدِّين وتعليم
النَّاس حتى غدا مرجعاً يتوافد عليه طلَّاب العلم للأخذ عنه حتى هاجر فراراً بدينه
من حكم الطَّاغية (أحمد زاغو) ملك ألبانيا، الذي اقتفى أثر الماسوني (أتاتورك) في
تغريب البلاد، ومحاربة الإسلام والتبعية للغرب، وإلغاء الحجاب الإسلامي، وغير ذلك،
ولجأ إلى دمشق التي كان قد زارها في أثناء رحلته للحجِّ في ذهابه وإيابه.
لما
وصل الشَّيخ الألباني مع والده إلى دمشق، كان على مشارف التَّاسعة من العمر،
فأدخله والده في مدرسة (جمعيَّة الإسعاف الخيري) حتى أتمَّ المرحلة الابتدائيَّة
فيها بتفوُّق.
ونظراً
لرأي والده الخاص في المدارس النظامية من الناحية الدينية، فقد قرر عدم
إكمال الدراسة النظامية ووضع له منهجاً علمياً مركزاً قام من خلاله بتعليمه القرآن
الكريم، والتجويد، والنحو والصرف، وفقه المذهب الحنفي، وقد ختم الألباني
على يد والده حفظ القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، كما درس على الشيخ سعيد
البرهاني مراقي الفلاح في الفقه الحنفي وبعض كتب اللغة والبلاغة، هذا في الوقت
الذي حرص فيه على حضور دروس وندوات العلامه بهجة البيطار.
أخذ
عن أبيه
مهنة إصلاح الساعات فأجادها حتى صار من أصحاب الشهره فيها، وأخذ يتكسب رزقه منها،
وقد وفرت له هذه المهنه وقتاً جيداً للمطالعة والدراسة، وهيأت له هجرته للشام
معرفة باللغة العربية والاطلاع على العلوم الشرعية من مصادرها الأصلية.
توجهه
إلى علم الحديث
على
الرغم من توجيه والد الألباني المنهجي له بتقليد المذهب الحنفي وتحذيره الشديد من الاشتغال
بعلم الحديث، فقد أخذ الألباني بالتوجه نحو علم الحديث وعلومه، فتعلم الحديث في نحو
العشرين من عمره متأثراً بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا
-رحمه الله- وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب «المغني عن حمل الأسفار في
تخريج ما في الإحياء من الأخبار» للحافظ العراقي -رحمه الله- مع التعليق عليه.
وفي
ذلك يقول الشيخ الألباني: (أول ما ولعت بمطالعته من الكتب القصص العربية كالظاهر
وعنترة والملك سيف وما إليها ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها،
وذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءا من مجلة المنار فاطلعت
عليه ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب الإحياء للغزالي، ويشير
إلى محاسنة ومآخذه .. ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي فاجتذبني ذلك إلى
مطالعة الجزء كله ثم أمضي لأتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ورأيتني
أسعى لاستئجاره لأني لا أملك ثمنه، ومن ثم أقبلت على قراءة الكتب، فاستهواني ذلك
التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه).
كان
ذلك العمل فاتحة خير كبير على الشيخ الألباني حيث أصبح الاهتمام
بالحديث وعلومه شغله الشاغل، فأصبح معروفاً بذلك في الأوساط العلمية بدمشق، حتى إن
إدارة المكتبة الظاهرية بدمشق خصصت غرفة خاصة له ليقوم فيها بأبحاثه العلمية المفيدة،
بالإضافة إلى منحه نسخة من مفتاح المكتبة ليدخلها وقت ما شاء.
وقد
حدَّث هو عن ذلك قائلاً: «إن نعم الله علي كثيرة لا أحصي لها عدداً، ولعلَّ من
أهمها اثنتين: هجرة والدي إلى الشَّام، ثم تعليمه إياي مهنة تصليح السَّاعات.
أما
الأولى: فقد يسرت لي تعلُّم العربية، ولو ظللت في ألبانيا لما تعلَّمت منها حرفاً،
ولا سبيل إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا عن طريق
العربية.
وأما
الثانية: فقد قيضت لي فراغاً من الوقت، أملؤه بطلب العلم، وأتاحت لي فرصة التردُّد
على المكتبة الظاهريَّة وغيرها ساعات من كل يوم».
جهده في طلب العلم
ونذكر في ذلك حادثتين:
«الأولى»: أنه أصيب في عينه أيامه الأولى في الشام، وطلب
منه الطبيب أن يمكث شهراً لا يعمل بمهنة الساعات، ولا يقرأ شيئاً! فمكث أياماً، ثم
أصابه الملل، فطلب من بعض إخوانه أن ينسخ له من المكتبة الظاهرية في دمشق كتاب «ذم
الملاهي » لابن أبي الدنيا.
فنسخ الناسخ حتى وصل إلى مكان فيه ورقة ضائعة، قطعت
اتصال الكلام، فلما أخبر الشيخ بذلك طلب إليه الشيخ أن يستمر بالنسخ، فلما فرغ
الناسخ وانتهت مدة العلاج؛ ذهب الشيخ يبحث عن تلك الورقة الضائعة في المكتبة
الظاهرية، فظل الشيخ ينقب عن تلك الورقة، فلم يجدها، وفي تلك الأثناء كان يدون
الأحاديث التي يقف عليها في المخطوطات، حتى دوَّن أكثر من أربعين مجلداً من
الأحاديث بخط يده!! وكان عدد المخطوطات آنذلك حوالي عشرة آلاف مخطوطة!!
«الثانية»: وقد بلغت الهمة والجلَد عند الشيخ - رحمه الله
- أنه كان ينسى معهما الطعام والشراب، فكان يأتي إلى مكتبة الظاهرية قبل موظفيها،
ويخرج بعدهم!!
ويأتيه أهله بطعام الإفطار، فيظل على ما هو عليه إلى
موعد الغداء، فيؤخذ طعام الإفطار ويوضع طعام الغداء! وهكذا مع العَشاء.
وقد ظل الشيخ الإمام - رحمه الله - على هذه الهمة إلى أن
توفاه الله، فإذا كان يعجز عن البحث قرأ، فإذا عجز عن القراءة قُرِأ عليه.
ومن رأى همة الشيخ ونشاطه قبل مرضه الأخير لم يفرق بين
أول حياته وبين هذه الأيام.
وإذا قيل للشيخ في رحلاته أن يرتاح، قال: إن راحتي في
الكلام والبيان!! لا في السكوت.
دعوته
إلى السُنَّة وأثرها في العالم الإسلامي
كان
لاشتغال الشيخ الألباني بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثره البالغ في
التوجه السلفي للشيخ في التزام الكتاب والسنَّة، وقد زاد تشبثه وثباته على
هذا المنهج مطالعته لكتب شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم وغيرهما من أعلام
المدرسة السلفية.
وحن
ظهر له بالحجَّة والبرهان أن كثيراً من الأشياء التي كان يعدُّها من الدِّين وكان
عليها مشايخه، تخالف الكتاب والسنة، أقلع عنها ولزم السنَّة وناقش فيها مشايخه
مبتدئاً بأقرب الناس إليه، والده، ومما قاله هو عن هذه المرحلة: «فلم أزل على خطِّ
والدي في هذا الاتِّجاه حتى هداني الله إلى السنَّة فأقلعتُ عن الكثير مما كنت
تلقَّيته عنه، مما كان يحسبه قربةً وعبادة».
ثم
انتقل إلى دعوة مشايخه، وكانت مسألة التَّوحيد هي المسألة الكبيرة التي تفاصل فيها
الشيخُ مع مشايخه، ومعظم مشايخ بلده، وقد أولى الشيخ - رحمه الله تعالى- مسألة
التَّوحيد اهتماماً كبيراً وأعطاها من وقته كثيراً، وبذل في تبيينها جهداً عظيماً،
دعوة وشرحاً، وتعليقاً وتأليفاً، وتحقيقاً ومناقشة.
وقد
كتب الرحالةُ عبد الله الخميس في كتابه (شهر في دمشق):
«وهكذا
وجدتُ السَّلفيةَ في دمشق بين صفوف الجامعة وفي حلقات العلماء، يحملها شباب مثقف
مستنير يدرس الطبَّ والحقوق والآداب .. قال لي شابٌّ منهم: ألا تحضر درسنا اليوم؟
فقلت: يشرِّفني ذلك! فذهبت مع الشابِّ لأجد فضيلة الشيخ الألباني وحوله ما يزيد
على الأربعين طالباً، من شباب دمشق المثقَّف، وإذا الدَّرس جارٍ في باب: (حمايةُ
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- جنابَ التوحيد وسدُّه طرقَ الشرك) من كتاب
(التَّوحيد) وشرحه (فتح المجيد) للمجدِّد الإمام محمد بن عبد الوهَّاب وحفيده -
رحمهما الله - فعجبت أشدَّ العجب لهذه المصادفة الغريبة، وأنصتُّ لكلام الشيخ،
وإذا بي أسمع التحقيقَ والتدقيق والإفاضة في علم التوحيد، وقوَّة التضلُّع فيه،
وإذا بي أسمع مناقشةَ الطلاب الهادئة الرزينة، واستشكالاتهم العميقة.
وبدؤوا
في درس الحديث من كتاب (الروضة النَّدية) وهنا سمعت علماً جمّاً وفقهاً وأصولاً
وتحقيقاً .. ولم أزل طيلة مقامي بدمشق محافظاً على درس الشَّيخ .. وقد لمستُ بنفسي
لهم تأثيراً كبيراً على كثير من الأوساط ذات التأثير بالرَّأي العام، مما يبشِّر
بمستقبل جدُّ كبير لهذه الدَّعوة المباركة».
كما
كان الشيخ الألباني راية الدعوة إلى التوحيد والسنة في سوريا حيث زار الكثير من
مشايخ دمشق وجرت بينه وبينهم مناقشات حول مسائل التوحيد والإتباع والتعصب المذهبي
والبدع، فلقي الشيخ لذلك المعارضة الشديدة من كثير من متعصبي المذاهب ومشايخ
الصوفية والخرافيين والمبتدعة، فكانوا يثيرون عليه العامة والغوغاء ويشيعون عنه بأنه
«وهابي ضال» ويحذرون الناس منه، هذا في الوقت الذي وافقه على دعوته أفاضل
العلماء المعروفين بالعلم والدين في دمشق، والذين حضوه على الاستمرار قدماً في
دعوته ومنهم، العلامة بهجت البيطار، الشيخ عبد الفتاح الإمام رئيس جمعية الشبان
المسلمين في سوريا، الشيخ توفيق البزرة، وغيرهم من أهل الفضل و الصلاح -رحمهم الله-
النشاط
الدعوي
نشط
الشيخ في دعوته من خلال:
- دروسه العلمية
التي كان يعقدها مرتين كل أسبوع حيث يحضرها طلبة العلم وبعض أساتذة الجامعات،
وكانت مجالس الشيخ عامرةً بالفوائد، غزيرةَ النفع في سائر العلوم، وقد قُرئ على
الشيخ كتبٌ كثيرة في دمشق، إذ كان يعقد درسين كلَّ أسبوع يحضرهما طلبة العلم، من
تلك الكتب: (زاد المعاد) لابن القيِّم، و(نخبة الفكر) لابن حجر، و(فتح المجيد)
لعبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن عبد الوهَّاب، و(الروضة النَّدية شرح الدرر البهيَّة)
لصدِّيق حسن خان، و(أصول الفقه) لعبد الوهَّاب خلاف، و(الباعث الحثيث شرح اختصار
علوم الحديث) لأحمد شاكر، و(منهج الإسلام في الحكم) لمحمد أسد، و(فقه السُّنة)
لسيِّد سابق، و(رياض الصالحين) للنَّووي، و(الإلمام في أحاديث الأحكام) لابن دقيق
العيد.
وقد كان يلقي
الدروس والمحاضرات في داره، ودور تلاميذه وأصدقائه من مثل الأستاذ الشيخ عبد
الرحمن الباني، والطبيب الألمعي أحمد حمدي الخياط.
-
رحلاته الشهريه المنتظمة التي بدأت أسبوعاً من كلِّ شهر ثم استقرَّت على نحو ثلاثة
أيام، كان يجوب بها المحافظات السُّورية، وكان لها الأثر الطَّيب في الدَّعوة إلى
الله وإلى التَّوحيد ونبذ الشرك والخرافة، مع ما صاحبها من معارضة من أهل الأهواء.
يقول
الألباني - رحمه الله -: «من آثار هذا الإقبال الطَّيب الذي لقيته هذه الدَّعوة أن
رتَّبنا برنامجاً لزيارة بعض مناطق البلاد مابين حلب واللَّاذقية إلى دمشق، وعلى
الرغم من قصر الأوقات التي خُصِّصت لكل من المدن، فقد صادفت هذه الرحلات نجاحاً
ملموساً، إذ جمعت العديدَ من الراغبين في علوم الحديث على ندوات شبه دورية، يقرأ
فيها من كتب السُّنة، وتتوارد الأسئلة، ويثور النقاش المفيد، إلا أن هذا التجوال قد
ضاعف من نقمة الآخرين، فضاعفوا من سعيهم لدى المسؤولين، فإذا نحن تلقاء مشكلات
يتصلُ بعضها برقاب بعض».
وكان
من نتائج هذه الجهود المضادَّة إبعاد الشَّيخ إلى الحسكة - مدينة في الشَّمال
الشَّرقي من سوريا-، ثم سجنه في سجن القلعة بدمشق، بالإضافة إلى تحذير طلاب العلم
وعوامِّ النَّاس من الاستماع إليه ومجالسته والدعوة إلى هجرته ومقاطعته وكان -
رحمه الله - يعقِّب على هذه الأحداث بقوله: «لقد كان لهذا كله آثارٌ عكسيَّة لما
أرادوا، إذ ضاعفتُ من تصميمي على العمل في خدمة الدَّعوة حتى يقضيَ الله بأمره».
ثم
كان من فضل الله عليه وعلى الناس أن ذاع صيتُه في أرجاء المعمورة، وانتشرت كتبه في
الأقطار، يقتنيها العلماء وطلاب العلم.
صبره
على الأذى وهجرته
في
أوائل (1960م) كان الشيخ يقع تحت مرصد الحكومة السوريه، مع العلم
أنه كان بعيداً عن السياسة، وقد سبب ذلك نوعاً من الإعاقة له فقد تعرض للإعتقال
مرتين، الأولى كانت قبل (1967م) حيث اعتقل لمدة شهر في قلعة دمشق وهي نفس القلعة
التي اعتقل فيها شيخ الاسلام ابن تيمية، وعندما قامت حرب 67 رأت الحكومة أن
تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين.
لكن
بعدما اشتدت الحرب عاد الشيخ إلى المعتقل مرة ثانية، ولكن هذه المرة ليس
في سجن القلعة، بل في سجن الحسكة شمال شرق دمشق، وقد قضى فيه الشيخ ثمانية أشهر،
وخلال هذه الفترة حقق مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري واجتمع مع شخصيات كبيرة في
المعتقل.
هاجر
الشيخ من دمشق إلى عمان في رمضان عام (1400هـ)، ثم اضطر للخروج منها عائدا إلى
دمشق ومن هناك إلى بيروت، ثم هاجر إلى الإمارات حيث استقبله محبيه من أهل السنة
والجماعة وحل ضيفا على جمعية دار البر، فكانت أيامهم معه أيام علم ونصح وإرشاد
وإنهاك في العلم، وإبان إقامة الشيخ في الإمارات تمكن من السفر إلى الدول الخليجية
المجاورة والتقى في قطر الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، ثم عاد إلى
دمشق، وكانت آخر زيارة له لدولة الإمارات في عام (1989م)، وحين نزل ضيفا على جمعية
دار البر ألقى الدروس في مزرعة رئيس الجمعية، وسمي المسجد التابع للمزرعة مسجد
الإمام الألباني، تخليدا لذكرى زيارته، وفي رمضان عام (1419هـ) فرح المسلمون
بإعطاء شيخ الإسلام جائزة الملك فيصل وهذا تقدير وعرفان من المملكة العربية
السعودية لما قام به الشيخ من خدمة للإسلام والمسلمين.
أعماله
وانجازاته
·
عمل الشيخ مدة
طويلة في المكتب الإسلامي للشيخ زهير الشاويش، مع كل من العلماء المشايخ: شعيب
الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، ومحمد بن لطفي الصباغ، وعبد القادر الحتاوي .. وغيرهم،
وقد أفاد من هذا العمل أيما فائدة، إذ كان كثيرٌ من نتاجه العلميِّ في التحقيق
والتأليف والتخريج والتعليق من ثمار هذا المكتب الذي نفع الله به المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها.
·
اختارته كلية
الشريعة في جامعة دمشق ليقوم بتخريج أحاديث البيوع
الخاصة بموسوعة الفقه الإسلامي، التي عزمت الجامعة على إصدارها عام (1955م).
·
اختير عضواً
في لجنة الحديث، التي شكلت في عهد الوحدة بين مصر وسوريا، للإشراف
على نشر كتب السنة وتحقيقها.
·
طلبت إليه
الجامعة السلفية في «بنارس» بالهند أن يتولى مشيخة الحديث، فاعتذر عن ذلك لصعوبة
اصطحاب الأهل والأولاد بسبب الحرب بين الهند وباكستان آنذاك.
·
طلب إليه
معالي وزير المعارف في المملكة العربية السعودية الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ
عام (1388هـ)، أن يتولى الإشراف على قسم الدراسات الإسلامية العليا في جامعة مكة،
وقد حالت الظروف دون تحقيق ذلك.
·
درَّس الشيخ
بالجامعة الإسلامية في المدينة المنوَّرة عند تأسيسها عام (1381هـ) مدة عامين، ثم
عاد إلى مكانه المخصَّص له في المكتبة الظاهرية، وأكبَّ على الدِّراسة والتَّأليف.
ومن آثار الشيخ الألباني - رحمه الله - على الجامعة أنه وضع
القاعدة لمادة الإسناد، وسبق كل الجامعات الموجودة بذلك، لكن لإخلاصه أثارت عليه
الحاقدين من بعض أساتذة الجامعة فكادوا له ووشوا به عند المسؤولين ولفقوا عليه
الدسائس والافتراءات حتى أجبرت الجامعة على الاستغناء عنه.
·
اختير عضواً
للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من عام
(1395- 1398هـ.).
·
لبى دعوة من اتحاد
الطلبة المسلمين في أسبانيا، وألقى محاضرة مهمة طبعت فيما بعد بعنوان: «الحديث حجة
بنفسه في العقائد والأحكام».
·
زار قطر وألقى
فيها محاضرة بعنوان: «منزلة السنة في الإسلام».
·
انتدب من
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رئيس إدارة البحوث
العلمية والإفتاء للدعوة في مصر والمغرب وبريطانيا للدعوة إلى التوحيد والاعتصام
بالكتاب والسنة والمنهج الإسلامي الحق.
·
دعي إلى عدة
مؤتمرات، حضر بعضها و اعتذر عن كثير بسبب انشغالاته العلمية الكثيرة.
·
زار الكويت
والإمارات وألقى فيهما محاضرات عديدة، وزار أيضا عدداً من دول أوروبا، والتقى
فيها بالجاليات الإسلامية والطلبة المسلمين، وألقى دروساً علمية مفيدة.
·
كما ذكرنا
آنفا .. قررت لجنة الإختيار لجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية من منح
الجائزة عام (1419هـ /1999م)، وموضوعها «الجهود
العلمية التي عنيت بالحديث النبوي تحقيقاً وتخريجاً ودراسة» لفضيلة الشيخ محمد
ناصر الدين الألباني السوري الجنسية، تقديراً لجهوده القيمة في خدمة الحديث النبوي
تخريجاً وتحقيقاً ودراسة وذلك في كتبه التي تربو على المئة.
الثمرات
أما
عن التأليف والتصنيف، فقد ابتدأهما في العقد الثاني من عمره، وكان أول مؤلفاته الفقهية
المبنية على معرفة الدليل والفقه المقارن كتاب «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» وهو مطبوع مراراً، ومن أوائل
تخاريجه الحديثية المنهجية أيضاً كتاب «الروض
النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير» ولا يزال مخطوطاً.
ترك
الشيخ - رحمه الله - كثيراً من المؤلَّفات والكتب المحقَّقة أربت على المئتين، وقد
تميَّزت كتبُه بالتَّحقيق العلمي، والإحاطة بالأسانيد والشَّواهد، وتتبُّع أقوال
المحدِّثين، وكان جُلُّ اعتماده على المخطوطات بالمكتبة الظاهرية.
كما
خلَّف عدداً كبيراً من الأشرطة المسجَّلة، من كلامه ودروسه، يُعمَل على نشرها على
شكل فتاوى موضوعية.
ومن
أهم كتبه:
1 - آداب
الزفاف في السُّنَّة المطهَّرة.
2 - إرواء
الغليل في تخريج أحاديث منار السَّبيل.
3 - أحكام
الجنائز.
4 - تحذير
السَّاجد من اتِّخاذ القبور مساجد.
5 - التوسُّل
أحكامه وأنواعه.
6 - حِجَّة
النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كما رواها عنه جابر - رضي الله عنه -.
7 - جلباب
المرأة المسلمة.
8 - الذبُّ
الأحمد عن مسند الإمام أحمد.
9 - سلسلة
الأحاديث الصحيحة وشيء من فقها وفوائدها.
10 - سلسلة
الأحاديث الضَّعيفة والموضوعة وأثرها السيِّئ في الأمة.
11 - صحيح
الترغيب والترهيب.
12 - ضعيف
الترغيب والترهيب.
13 - صحيح
الجامع الصغير وزياداته.
14 - ضعيف
الجامع الصغير وزياداته.
15 - صحيح
السُّنن الأربعة وضعيفها.
16 - صفة صلاة
النَّبي -صلى الله عليه وسلم-.
17 - غاية
المرام في تخريج الحلال والحرام.
18 - فهرس
مخطوطات الظاهرية في علم الحديث.
19 - قيام
رمضان.
20 - مختصر
صحيح البخاري.
وترك غير قليل
من الكتب والرسائل مخطوطة.
رجوعه إلى الحق
والشيخ - رحمه الله - عرف عنه رجوعه إلى الحق، حتى أصبح
متميزاً به، فكم من حديث صححه وانتشر في الآفاق بسببه، ولما تبين له ضعفه من بعد
الطلبة تراجع عنه بقوة وإنصاف، ومثال ذلك حديث دخول المنزل «اللهم إني أسألك خير
المولج وخير المخرج» فهو حديث صححه الشيخ ثم تراجع عنه.
وقل الأمر نفسه في المسائل الفقهية العملية، كما هو
الحال في مسألة جماع الزوجة بعد طهرها من الحيض، حيث كان الشيخ يرى أنه يكتفى
بانقطاع الدم دون الغسل، ثم تراجع عنه إلى قول الجمهور، وهو عدم جواز الجماع إلا
بعد الغسل وهذا الأمر أعني تراجعه إذا تبين له الحق استغله بعض الجهلة والحساد
لبيان أن ذلك من تناقضه ولم يدر هؤلاء أن هذا من أعظم أخلاق الدين، وقد قل أهله في
هذا الزمان، فكم من إنسان جادل بالباطل من بعد ما تبين له الحق فأصر مستكبراً كأن
لم يسمع الحق؟!!
والشيخ برأه الله من ذلك وكتبه طافحة برجوعه عن أقواله
التي تبين فيها خطؤه ملياً، ولم ينقصه ذلك بل رفعه الله به، ولكن عند المنصفين
العقلاء، وهذا هو المهم، والأهم أنه كان يراقب ربه ولا يهمه ما يقال بعد ذلك.
نماذج من أخلاق الشيخ -رحمه الله -
كراهيته للمدح
لم يكن الشيخ - رحمه الله - يحب أن يمدحه أحد، وخاصة في
وجهه، وكتبه كلها ليس فيها لفظ (الشيخ) قبل اسمه!! وقد مدحه مرة الشيخ محمد
إبراهيم شقرة في وجهه فبكى، ومدحه آخر فبكى وأنكر على من مدحه.
خوفه من الرياء
وجاءه مرة بعض إخواننا من بنغلادش من أهل الحديث وقالوا للشيخ:
إن عددهم حوالي أربعة ملايين وأنهم يودون زيارة الشيخ لهم هناك، وقد جهزوا ملعباً
يتسع لأعداد كبيرة للقائه والاستماع إليه، فرفض الشيخ الدعوة. فقال الداعي: إنها
أسبوع يا شيخ!! فرفض الشيخ: فأنزل المدة إلى ثلاثة أيام!! فرفض الشيخ فأنزلها إلى
يوم واحد!! فرفض الشيخ وبشدة، فقال الداعي في النهاية: نريد محاضرة وتغادر على نفس
الطائرة!! فرفض الشيخ وبشدة أيضاً، فتعجب الرجل من رفض الشيخ وكذلك الذين معه،
وانصرف الرجل حزيناً، فسأل الأخُ أبو ليلى - وهو الذي حدثني بهذه القصة الشيخَ: لم
رفضت يا شيخ؟ فرد عليه - رحمه الله -: ألم تسمع ماذا قال؟ فقال أبو ليلى: وماذا
قال يا شيخ؟ فقال: ألم تسمع قوله إنهم أربعة ملايين!! فتصور أني أحاضر بمثل هذا
العدد، فهل آمن على نفسي من الرياء؟!! وكان درساً عظيماً من الشيخ لتلاميذه وللناس
جميعاً بالبعد عن المواضع المهلكة للداعية.
تفقده لإخوانه
كنا مرة في رحلة معه، فانتهينا منها في الواحدة ليلاً
وكنا في خمس سيارات، وأنا أقود واحدة منها، فسبقنا الشيخ، ففوجئت بأن إطار سيارتي
قد ذهب هواؤه، فأصلحته وقد ذهبتْ السيارات جميعاً، فما هي إلا لحظات حتى رجع إلينا
الشيخ مع السيارات، وسأل عن سبب التأخر، فلما رأى السبب علم بالحال، وكان - رحمه
الله - قد افتقدنا في الطريق ورأى أن سيارة قد نقصت، فسأل عنها، فلما لم يُعطَ
جواباً فرجع من طريقه فرآنا على تلك الحال، فطلبنا من الشيخ أن يذهب إلى أهله
وبيته ونحن نصلح الإطار، ونلحق بهم، فأبى - رحمه الله - إلا أن ينتظرنا لننتهي مما
نحن فيه، وكان ذلك وغادرنا سوياً.
وحدثني بعض تلامذته أنه كان يتصل بالشيخ كل يوم، وفي
يومٍ من الأيام لم يفعل ذلك، فما هو إلا أن يدق جرس الهاتف، ويتبين للأخ أنه الشيخ
الإمام الألباني!! وأنه افتقد هذا الأخ لعدم اتصاله، فسارع للسؤال عنه.
ودخل هذا الأخ نفسه المستشفى لحادث وقع له، وإذ بالشيخ
الإمام يأتي لزيارته في المستشفى!! قال: فأثرت هذه الزيارة فيَّ وفي أهلي الشيء
الكثير.
مقابلته الإحسان بالإحسان
وكان بعض تجار عمان على علاقة بالشيخ - رحمه الله -،
قال: ففاجئني الشيخ يوماً بزيارة إلى محلي!! وجاء معه بمجموعة قيمة من الكتب
وقدَّمها هدية لي!!
بكاؤه
والشيخ - رحمه الله - على خلاف ما يظن الكثيرون رقيق
القلب، غزير الدمع، فهو لا يُحدَّث بشيء فيه ما يبكي إلا وأجهش في البكاء، ومن
ذلك:
أ. حدثته امرأة جزائرية أنها رأته يسأل عن الطريق الذي
سلكه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدُلَّ عليه فسار على خطواته لا يخطئها، فلم
يحتمل كلامها، وأجهش بالبكاء.
ب. وقد حدثه أحد الإخوة عن رؤيا رآها بعض إخواننا، وهي
أنه رأى هذا الأخ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فسأله: إذا أشكل عليَّ شيء في
الحديث مَن أسأل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: سل محمد ناصر الدين الألباني. فما
أن انتهيت من حديثي حتى بكى بكاءً عظيماً، وهو يردد «اللهم اجعلني خيراً مما
يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون».
ج. وحدثه بعض إخواننا عن سب والده للرب والدين والعياذ
بالله فبكى الشيخ لما سمع من جرأة من ينتسب للدين على بعض هذه القبائح والعظائم في
حق الله، وحكم على والده بأنه مرتد كافر.
د. وأخبره بعض إخواننا عن مشكلة حصلت معه، وأنه في ورطة،
فقال الأخ: فما هو إلا أن رأيت الشيخ وقد دمعت عيناه ودعا لي بأن يفرج الله كربي،
فكان ذلك.
تلاميذه:
تخرَّج
على يديه وعلى كتبه، وتأثَّر بمنهجه جمٌّ غفيرٌ من طلبة العلم، منهم على سبيل
المثال: الشيخ محمد نسيب الرِّفاعي - رحمه الله تعالى -، والشيخ محمد زهير
الشَّاويش (الذي آزر الشيخ وكان له الفضل الكبير في نشر علمه)، والشيخ عبد الرحمن
الباني، والشيخ د. محمد بن لطفي الصباغ، ود. محمد هيثم الخياط، والشيخ عبد الرحمن
النحلاوي - رحمه الله -، والشيخ محمد إبراهيم شقرة، والشيخ محمد عيد العبَّاسي،
والشيخ علي الخشَّان، والشيخ عدنان عرعور، والشيخ علي حسن الحلبي، والشيخ سليم
الهلالي، والشيخ مقبل الوادعي - رحمه الله -، والأستاذ محمد مهدي الإستانبولي -
رحمه الله -، والشيخ أبو إسحاق الحويني، والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، والدكتور
عمر سليمان الأشقر، وآخرون.
ملامح
دعوته
يمكن
إجمال ملامح دعوة الشيخ فيما يلي:
1- الرجوع إلى
الكتاب والسنة الصحيحة وفهمهما على النهج الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله
عليهم.
2- تعريف المسلمين
بدينهم الحق، ودعوتهم إلى العمل بتعاليمه وأحكامه، والتحلِّي بفضائله وآدابه التي
تكفل لهم رضوان الله وتحقق لهم السعادة والمجد.
3- الدَّعوة
إلى توحيد الله - عز وجل -، وبيان عقيدة السَّلف، وتحذير المسلمين من الشِّرك ومن
البدع ومن الأحاديث المنكرة والموضوعة.
4- تقريب
السنَّة بين يدي الأمة في صحيح ليُعمل به، وضعيف وموضوع ليُجتنب، مع العمل على
إحياء بعض السنن المهجورة في كثير من البلاد، ودعوته إلى بيان مكانة السنَّة في
الإسلام، وعموم الاحتجاج بالحديث النبوي في العقائد والأحكام.
5- إحياء
التفكير الإسلامي الحر في حدود قواعد الإسلام، وإزالة الجمود الفكري الذي ران على
عقول الكثير من المسلمين، وتحذيره من العصبيات للجماعات، والتحزب على ضوئها
والولاء والبراء فيها.
6- السعي إلى
استئناف حياة إسلامية، وإنشاء مجتمع إسلامي، وتطبيق حكم الله في الأرض.
وكان
في كل دراساته وإصداراته حريصاً على المشروع العلمي الذي نذر حياته من أجله وهو
تقريب السنة بين يدي الأمة، وقد قطع فيه مراحل واسعة وأثمر ثماراً طيبة، وأصبح
كثير من الدعاة والعاملين في الحقل الإسلامي يهتمون بهذا الأمر ويلتزمون به، وهذا
من بركات جهوده وعمله في السنة.
ولقد
وفق الله الشيخ الألباني لإحياء كثير من السنن التي هجرها الناس ومنها: صلاة
العيدين في المصلى، وليس في المساجد بالتعاون مع الإخوان المسلمين في منطقة
الميدان بدمشق، ثم في بيروت، وبعد ذلك شاعت في البلاد سنة العقيقة للمولود وسنة
قيام الليل في رمضان، بإحدى عشرة ركعة فقط، وسنة خطبة الحاجة واستهلال خطبة
الجمعة، وسنة جلباب المرأة، والتحذير من بناء المساجد على القبور، والصلاة فيها،
كما كان للشيخ الألباني الباع الطويل في توجيه كثير من الشباب للعناية ببحوث السنة
وتطويع الأجهزة الحديثة والمبتكرات العلمية الجديدة لخدمة السنة النبوية الشريفة
وتيسيرها للناس.
ثناء
العلماء عليه
·
قال العلَّامة
الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشَّيخ - رحمه الله تعالى- في حقِّ الألباني: «وهو صاحب
سنَّة، ونصرة للحقِّ، ومصادمة لأهل الباطل».
·
قال سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: «ما رأيت تحت أديم السماء عالما بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة
محمد ناصر الدين الألباني».
وقال
أيضا: «الشَّيخ الألباني معروفٌ أنه من أهل السنَّة والجماعة، ومن أنصار السنَّة،
ومن دعاة السنَّة، ومن المجاهدين في سبيل حفظ السنَّة».
وقال:
«لا أعلم تحت قُبة الفلك في هذا العصر أعلمَ من الشَّيخ ناصر الدين الألباني في
علم الحديث».
وسئل سماحته
عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يبعث لهذه الأمه على رأس
كل مائة سنة من يجدد لها دينها) فسئل من مجدد هذا القرن، فقال -رحمه الله-: «الشيخ
محمد ناصر الدين الألباني هو مجدد هذا العصر في ظني والله أعلم».
·
وقال الفقيه
العلامة الإمام محمد صالح العثيمين: فالذي عرفته عن الشيخ من خلال اجتماعي به وهو قليل، أنه حريص جداً
على العمل بالسنة، ومحاربة البدعة، سواء كان في العقيدة أم في العمل، أما من خلال
قراءتي لمؤلفاته فقد عرفت عنه ذلك، وأنه ذو علم جم في الحديث، رواية ودراية، وأن
الله تعالى قد نفع فيما كتبه كثيراً من الناس، من حيث العلم ومن حيث المنهاج
والاتجاه إلى علم الحديث، وهذه ثمرة كبيرة للمسلمين ولله الحمد، أما من حيث
التحقيقات العلمية الحديثية فناهيك به.
·
العلامة
المفسر محمد الأمين الشنقيطي: قول الشيخ عبد العزيز الهده: إن العلامه الشنقيطي
يجل الشيخ الألباني إجلالاً غريباً، حتى إذا رآه ماراً وهو في
درسه في الحرم المدني يقطع درسه قائماً ومسلماً عليه إجلالاً له.
·
وقال الشيخ
مقبل الوادعي: والذي أعتقده وأدين الله به أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
-حفظه الله- من المجددين الذين يصدق عليهم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إن
الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» .
·
قال الشيخ عبد
الرحمن عبد الخالق: (عالم من علماء المسلمين، وعلم من أعلام الدعوة إلى الله، وشيخ
المحدثين وإمامهم في العصر الراهن، ألا وهو أستاذي محمد ناصر الدين الألباني -
حفظه الله - وبارك فيه)
·
قال الشيخ
محمد إبراهيم شقرة رئيس المسجد الأقصى: «وأجاء الله قدره إلى الروح القوية التي
ظلت زهاء ستة عقود تحتضن لواء السنة في عزيمة لا تعرف التردد، وصبر لا يعرف الضجر،
وإقدام لا يعرف النكوص، ودأب موصول لا يعرف الوهن، وسهر عميت الطرائق على الاجتهاد
إليه، ودقة صبور تقاصر عنها الهمم، وأمانة واعية أذكرت أهل العلم بما يجب عليهم من
حقوقها، واستقصاء أحاط علماً بكل ما ند من قواعدها وخفي من أصولها، وشغف ظل
مشبوباً به قلبه حتى سقط القلم من بين أصابعه، واستحضار للنصوص والآثار والسنن
والبلاغات بأحكامها وعزوها إلى مظانها والتآليف بينها والناسخ والمنسوخ منها
والاستنباطات الفقهية الحسنة .. إلى غير ذلك من علوم السنة التي وضع لها خده
وعشقها قلبه وأناخ على صدره منه همها واستوى عليها سوقها وأصاب كل طالب علم محب
للسنة ما قدر عليه من ثمرها».
ويقول
أيضا: «لو أن شهادات أهل العصر من شيوخ السنة وأعلام الحديث والأثر اجتمعت، فصيغ
منها شهادة واحدة، ثم وضعت على منضدة تاريخ العلماء فإني أحب أن تكون شهادة صادقة
في عالم الحديث الأوحد، أستاذ العلماء، وشيخ الفقهاء، ورأس المجتهدين في هذا
الزمان، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أكرمه الله في الدارين».
·
وقال الشَّيخ
زيد بن عبد العزيز الفيَّاض - رحمه الله تعالى -: «الشَّيخ محمد ناصر الدين
الألباني من الأعلام البارزين في هذا العصر».
·
وصفه الشَّيخ
العلَّامة المحدِّث حمَّاد بن محمَّد الأنصاري - رحمه الله تعالى -بأنه: «ذو
اطِّلاع واسع في علم الحديث».
·
قال العلَّامة
حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله تعالى -: «الألباني الآن عَلَمٌ على
السنَّة، والطَّعن فيه إعانة على الطَّعن في السنَّة».
·
قال فضيلة
الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد البدر المدرِّس في المسجد النَّبوي: «والألباني عالم
جليل خدم السنَّة، وعقيدته طيِّبة، والطَّعن فيه لا يجوز».
وقال
أيضاً: «فإنه بحقٍّ من العلماء الأفذاذ الذين كانوا في هذا العصر والذين لهم جهود
في خدمة سنَّة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-».
·
قال فيه الشيخ
المحقِّق محبُّ الدِّين الخطيب - رحمه الله تعالى -: «من دعاة السنَّة، الذين
وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها».
·
قال فيه
الشَّيخ العلَّامة الأديب علي الطَّنطاوي - رحمه الله تعالى -: «الشيخ ناصر أعلم
مني بعلوم الحديث، وأنا أحترمه لجدِّه ونشاطه وكثرة تصانيفه، وأنا أرجع إلى الشيخ
ناصر في مسائل الحديث ولا أستنكف أن أسأله عنها، معترفاً بفضله، وأنكر عليه إذا
تفقَّه فخالف ما عليه الجمهور؛ لأنه ليس بفقيه».
·
قال فيه الشيخ
الدكتور محمد بن لطفي الصبَّاغ - حفظه الله -: «أعظم محدِّث في هذا العصر..وقف
حياته على خدمة السنَّة المطهرة تعليماً وتأليفا وتخريجاً و تحقيقاً..».
ويقول
أيضا: « ثم ظهر في كل قطر من يسير على طريقة الألباني، وكان بعضهم أهلاً لهذا
وكثير منهم لم يكن كذلك، بل تسرع وتعجل قبل أن يستكمل الآلة»
·
قال فيه الشيخ
محمد الغزالي - رحمه الله تعالى -: «الأستاذ المحدث العلامة الشيخ محمد ناصر الدين
الألباني..وللرجل من رسوخ قدمه في السنة ما يعطيه هذا الحق..».
·
ووصفه كلٌّ من
العلامة الشيخ د.يوسف القرضاوي، والشيخ الفقيه د.عبد الكريم زيدان: «بمحدث الشام
ومحدث العصر».
·
يقول عنه
الشيخ محمد صالح المنجد: «إذا أردنا أن نلخص حياة الألباني بكلمة أو أن نصفه بكلمة
فإنك تعرف مع الألباني الجلد، فالجلَد هو خلاصة حياته، وللشيخ الألباني شيء من
الحدة، وبعض الشباب مع الأسف يقرؤون للألباني ويأخذون شيئاً من حدته وليس لديهم
علم الشيخ».
·
ويقول المؤرخ
الرحالة السعودي والنسابة الشهير حمد الجاسر: «ولقد عرفت في دمشق عدداً من أجلة
المعنيين بتحقيق التراث كما عرفت الشيخ ناصر الدين الألباني بكثرة ترددي على (دار
الكتب الظاهرية) إذ كان يعد من أحلاسها، وقد كتب كثيراً من فهارسها ونقب عن نوادر
مخطوطاتها وفي الوقت نفسه كان يعمل في إصلاح الساعات».
·
وقال عنه
الشيخ إبراهيم محمد العلي: «يؤخذ على الشيخ الحدة الشديدة التي كان يواجه بها
المخالفين له من العلماء القدامى والمحدثين، مما زاد من خصومه، ولذلك يحتاج القارئ
في أخذ المسائل التي رد فيها على أهل العلم وردوا عليه إلى الوعي والبصيرة والحذر
لأن الشيخ يخطئ ويصيب كسائر أهل العلم، كما أن تعامله مع التيار الحركي الإسلامي (الجماعات
الإسلامية) كان فيه الكثير من الجفاء والغلظة والأحكام القاسية بحقها».
ما
هي الدروس التي نستفيدها من سيرة حياته؟!:
1 - بعض الشيوخ شهرتـهم الحكومات عندما أسندت إليهم وظائف دينية
قيادية، وبحكم ذلك أصبحت المؤسسات الإسلامية وخطباء وأئمة المساجد مجبرين على
التعامل معهم والتردد على مكاتبهم، وبعضهم الآخر شهرته الجمعية أو الجماعة التي
ينتسب إليها، وقليل منهم من شهره علمه، وليست لهذه أو تلك فضل عليه.
والشيخ
ناصر من هذا الصنف القليل، فقد كان - رحمه الله - عصامياً، اعتمد بعد الله تعالى
على نفسه، وكان يواصل الليل مع النهار، رغم فقره وحاجته إلى العمل، وهذا مما يتحدث
عنه فيما ذكره عن سيرة حياته، والصعوبات التي واجهته في مرحلة طلب العلم حتى أنه
ما كان يجد ثمن الورق الذي يكتب عليه، ولم تكن هناك مدرسة شرعية أو دار نشر تتبناه
وتقدم له التسهيلات اللازمة.
2
- نأى بنفسه عن مجالس الحكام وملأهم، وابتعد عن الوظائف الدينية العامة فلم ينافس
أحداً عليها، وما كان يتكسب من علمه. وهذه المواقف كانت سبباً مهماً في متاعب لحقت
به، وهو - رحمه الله - بـهذه الصفات النبيلة يعيد لنا سيرة علماء السلف الذين
كانوا يرفضون الوظائف العامة كما كانوا يرفضون التكسب من العلم:
ولو
أن أهل العلم صانوه صانـهم ولو
عظّموه في الصدور لعظما
ولكن
أهــانوه فهان وشـوهوا
محياه بالأطــماع حتى تجهما
ولم
أقض حق العلم إن كان كلما
بدا طـمع صيرته لي ســلما
وكان
- رحمه الله - صاحب مواقف لا يبالي في الصدع بـها، ولهذا فقد سجن في سورية بسبب
حقد الخرافيين عليه، ولما لهم من حظوة عند النظام، وأُخرج من السعودية عندما كان
مدرساً بالجامعة الإسلامية رغم حرص نائب رئيس الجامعة - حينذاك - الشيخ عبد العزيز
بن باز عليه وعلى بقائه في عمله، وتعاقدت معه جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة
- جامعة أم القرى الآن -، ولكن الجهات العليا رفضت الموافقة على هذا العقد، ومن
جهة أخرى فقد اضطر إلى مغادرة أهله وذويه في دمشق، والتجأ إلى الأردن، وهذه الهجرة
الثانية في حياته، أما الهجرة الأولى فقد كانت من بلده - ألبانيا - إلى دمشق وهو
طفل مع أبيه وعائلته، وفي الأردن كان يجد صعوبات من رجال الأمن أجبرته على مغادرة
عمان ثم عاد إليها بعد وساطة أحد طلابه .. وهذه الابتلاءات كانت ثمناً للمواقف
التي يقفها، وكل أمر عزيز لابد وأن يكون بثمن.
3
- كان الشيخ ظاهرة فريدة من نوعها - في هذا العصر - في واسع اطلاعه على الحديث
النبوي ومعرفة صحيحه من ضعيفه، وفي الاستفادة منه في حواراته الدائمة مع العلماء
والدعاة. زارني عندما كنت مدرساً في المعهد العلمي بالأحساء، وكان معه الأستاذ
زهير الشاويش في طريقهما من قطر إلى الرياض، وفي مساء ذلك اليوم رتبت لهم لقاءً مع
مجموعة من شيوخ المدينة، وكان أكثرهم من قضاة المحكمة، وكان السؤال الأول والأخير
الذي وجهوه إلى الشيخ عما ذهب إليه بجواز كشف المرأة لوجهها في كتابه «حجاب المرأة
المسلمة»، وتحدث الشيخ حوالي ساعة عرض فيها أدلته، وبيّن تـهافت أقوال الذين ردوا
عليه، وكنت أشعر وهو يتحدث وكأن الأحاديث النبوية قد بسطت أمامه، فكان يأخذ منها
ما يريد، ويبين صحته، ثم يستعرض الأحاديث التي استدل بـها مخالفوه ويبين ضعفها.
وبعد
أن انتهى من حديثه سكت القوم، ولم يحر أحد منهم جواباً، وكنت من قبل أسمع منهم في
معظم لقاءاتنا استنكارهم لما ذهب إليه الشيخ في هذه المسألة، ثم انتهت الجلسة وعدت
مع الضيفين إلى منـزلي، وفي الطريق قال لي الشيخ ناصر لماذا سكتوا؟ فضحكت، وكان من
عادة الشيخ إذا دخل في نقاش ألا يكون الحديث له وحده حتى لو وافقه المخالف، بل
لابد أن يسخن الحوار، ويكون فيه أخذ ورد.
4
- رفض الشيخ تأسيس حزب أو جماعة وكان بعض تلامذته يلحون عليه في هذا الطلب، وكانت
له أقوال مشهورة في رده عليهم، منها قوله: «كل ميسر لما خلق له»، وقوله: «من
السياسة ترك السياسة»، ومن جهة أخرى فقد كان إيجابياً في تعاونه مع الجماعات
الإسلامية بدمشق. وعندما لاحظت أن بعض المشبوهين راحوا يروّجون كلمات مؤسفة ضد
الجماعات الإسلامية زاعمين أنـهم سمعوها من الشيخ، سعيت إليه وأجريت معه مقابلة
أكد فيها كل ما كنا نعرفه عنه في دمشق، وسجلت هذه المقابلة في ثلاثة أشرطة ثم وزعت
بشكل واسع في عدد من البلدان، وقد أزعجت هذه المقابلة الخفافيش التي تحاول أن تكون
لسان حال الشيخ، والشيخ لا يقر لهم بذاك، وفيما يلي سؤال ورد الشيخ عليه يؤكد هذا
الذي قلته:
سؤال:
يقال فضيلة الشيخ: إن الشيخ ناصر الدين الألباني يرفض أن يتعاون مع الجماعات
الإسلامية كلها إلا إذا انصاعت لمعتقداته الكلامية والفقهية. فما مدى صحة هذا
القول؟.
أبدأ
فأقول: إنَّ هذا الكلام زور وبـهتان، فقد سبق أن سجلنا ثلاثة أشرطة في عمان، على
ثلاث ساعات، وضحت فيها هذا الأمر بصراحة .. وكان مما قلته: إنني أؤيد قيام
الجماعات الإسلامية، وأؤيد تخصص كل جماعة منها بدور اختصاصي سواء أكان سياسياً أم
اقتصادياً أم اجتماعياً .. أو نحو ذلك، ولكني اشترطت أن تكون دائرة الإسلام هي
التي تجمع هذه الجماعات كلها.
وذكرت
أننا - معشر السلفيين - لا نعمل إلا في سبيل أهم ما نزل به كتاب الله - عز وجل -،
وبعث من أجله رسله، ألا وهو التوحيد، وتوضيحه للناس بما يجعله خالصاً من كل شرك،
ومنيعاً أمام كل وثنية، ودعوت إلى أن تحل الجماعات الإسلامية خصوماتـها وخلافاتـها
بالعودة إلى كتاب الله، وإلى حديث رسول الله تحقيقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
فنحن
لا ندعو الجماعات إلى اتباعنا في آرائنا واجتهاداتنا التي قد يكون فيها أكثر من
قول، ولكننا ندعوهم إلى أمر التوحيد وهو أمر لا يختلف فيه مسلمان .. فكيف يكون فيه
خلاف بين جماعتين أو أكثر؟!! هذا هو المرفوض.
أعود
ثانية فأدعو المسلمين جميعاً إلى أن يرجعوا إلى دينهم الصحيح وإلى الاعتماد في ذلك
على الكتاب أولاً وعلى السنة الصحيحة ثانياً، وأصر على هذه الدعوة، ولن نتراجع
عنها مهما كانت الادعاءات والافتراءات.
أقول
هذا وأنا أتذكر السنوات الطوال التي عشتها في سورية، كان يحضر دروسي خلالها أعضاء
من الإخوان، ومن حزب التحرير، ومن جماعة التبليغ، ومن المذهبيين .. وفي هؤلاء من يصرح
بتتلمذه علي، ويقر بالفضل، فكيف نُتَّهم بعد ذلك بمحاربة الجماعات الإسلامية؟!».
هذا
الذي يعرفه تلامذة الشيخ ومحبوه عنه طوال نشاطه العلمي والدعوي في دمشق، فالدكتور
الشيخ مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية وعميد كلية الشريعة بجامعة
دمشق كان على صلة جيدة مع الشيخ الألباني، وكان ينشر مقالاته في مجلة «المسلمون» -
حضارة الإسلام فيما بعد -، ويستعين به في بعض أنشطة كلية الشريعة العلمية، وذكرنا
فيما مضى دور « المكتب الإسلامي» وصاحبه الأستاذ زهير الشاويش في تبني مشروع الشيخ
ومؤلفاته، والشاويش كان من أهل الحل والعقد في جماعة الإخوان المسلمين، وكان
الألباني من الذين يصلون الجمعة مع الأستاذ عصام العطار في مسجد جامعة دمشق،
والأستاذ العطار كان مراقباً عاماً للإخوان المسلمين في سورية أثناء مرض الأستاذ
السباعي - رحمه الله -، وبعد وفاته، والأخ الشيخ علي خشان وآخرون مثله كانوا من
خاصة طلاب الشيخ الألباني مع أنـهم من جماعة الإخوان المسلمين .. هذه هي الأجواء
التي كنا نعيشها في مدينة دمشق… وهذه هي الطريقة التي كان الألباني يتعامل فيها مع
الإخوان المسلمين، وبمثلها كان الإخوان يتعاملون معه.
غير
أننا صرنا نسمع أقوالاً أخرى منسوبة إليه خلال السنوات الأخيرة من إقامته، وكان
الذين يروجون هذه الأقوال أفراد عصابة مشبوهة أحاطت بالشيخ، وحاولت الاستفادة منه،
وإبراز أنفسهم من خلاله، ومما يجدر ذكره أن هؤلاء الناس من الحاقدين على الجماعات
الإسلامية، ومن الداعين إلى الإذعان لمن يسمونـهم ولاة أمورهم، وفضلاً عن ذلك فهم
من المتهمين بسرقة مقالات غيرهم ومؤلفاتـهم ثم طبعها بعد تغيير طفيف فيها ونسبتها
إلى أنفسهم، ولهم في ذلك قصص مزعجة ليس هذا وقت الحديث عنها.
ومن
المؤسف أن أمور هؤلاء المشبوهين قد انطلت على الشيخ، فأحسن الظن بـهم، وصدّق بعض
أقوالهم، ومنهم من احتكر تسجيل أشرطته، وهم الذين يوجهون الأسئلة إلى الشيخ، أو
يتدخلون بين الشيخ وزواره بطرق ملتوية لا ينتبه الشيخ إليها، وأخيراً إذا لم
يعجبهم الشريط يمارسون عليه الرقابة ويمنعون نشره، وهذا مما أعلمه من محبي الشيخ
الذين كانوا يترددون عليه في عمان.
إنني
في هذا الموضع أناشد أبناء الشيخ، وأخص منهم عبد اللطيف الذي كان قريباً من أبيه
طيلة فترة مرضه، كما أدعو طلاب الشيخ أن يمنعوا هذه العصابة من استغلال اسم الشيخ
بعد وفاته - رحمه الله -، وأن يوقفوا كتب بعضهم التي هي في الأصل من أشرطة الشيخ،
لكنهم أدخلوا عليها أفكارهم الشاذة التي لا علاقة للشيخ بـها.
كما
أطالبهم بعدم تفريغ وطباعة الأشرطة التي تخالف نـهج الشيخ طوال سني عمره، وإن كان
قد قالها في ظروف معينة قبل وفاته بسنوات قليلة.
هذه
العصابة كانت تأتيه بكتاب، ثم يقرأون عليه مقاطع منه مبتورة عما قبلها وبعدها، ثم
يحكم الشيخ على هذا الكتاب ومؤلفه والمسجل جاهز لتسجيل أقوال الشيخ ثم نشرها على
الملأ، مع أن الشيخ - رحمه الله - في شريط سابق شاء الله أن يفلت من رقابتهم كان
قد أثنى على المؤلف نفسه وامتدح نـهجه، وهم يعلمون أن وضع الشيخ الصحي لا يساعده
على قراءة الكتاب وبيان زيف ما أخفوه عنه، وكان الشيخ من قبل أن تشتد عليه وطأة
المرض يتبيّن مما يقال له أحياناً، ويوبخهم لكنهم ما كانوا يبالون، لأن مقدار ما
يحصلون عليه أضعاف ما يخسرونه.
وأنا
في ذلك لا أعفي الشيخ من المسؤولية، ولكنني أسأل الله أن يغفر له ذلك، كما أسأله -
تعالى - أن يفغر له شدته على المخالفين.
وخلاصة
القول: لا يستطيع منصف يكتب عن النهضة الإسلامية في العقود الثلاثة الماضية أن
يتجاهل دور الشيخ الريادي في هذه النهضة، كما أن أي مؤرخ للسلفية لا ينبغي أن
يتجاهل جهد الشيخ في خدمة أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعظم الذين
يعملون بتحقيق الأحاديث النبوية لابد وأن يكونوا قد استفادوا من الشيخ، وقد سبقه
محققون في هذا العصر، ولكن لم يبلغ أحد منهم - فيما أعلم - مبلغه.
وزيادة
على ذلك فقد كان أواباً إلى الحق عندما كان يتبين له، وفي مؤلفاته أدلة كثيرة على
ذلك، كما كان صاحب عبادة، وهذا مما اعترف لي به طالب من طلاب الجامعة الإسلامية
يوم أن كان الشيخ مدرساً فيها، وكان هذا الطالب - الذي رافق الشيخ في سفر امتد
أياماً - صوفياً عاقلاً. رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وإنا لله وإنا إليه راجعون...
من روائع الشيخ الألباني
التصفية والتربية وحاجة المسلمين إليهما
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد؛
فنحن اليوم في زمن وصل فيه المسلمون إلى
حد ـ لا يمكن أن يصل إلى أسوأ منه مسلم يؤمن بالله ورسوله ـ من الذل والاستعباد من
الآخرين؛ ولذلك ولشعور كل منا بما نزل بنا من هذا الذل المخيم على جميع البلاد
الإسلامية نتساءل دائمًا وأبدًا عن السبب الذي أدى بالمسلمين إلى هذه الحالة
المزرية السيئة، والوضع المهين المخزي، والسر في وصولهم إلى هذا الدرك المنحط من
الذل، كما نتساءل عن العلاج والدواء؛ لنتمكن من النجاة من هذا الذل والشقاء..ثم
تتنوع الآراء وتتعدد الملاحظات، وكل يأتي بمنهج أو سبيل يرتئيه لحل هذه المشكلة،
ومعالجة هذه المعضلة.
وأنا أرى أن هذه المشكلة قد ذكرها
الرسول - عليه الصلاة والسلام - ووصفها في بعض أحاديثه الثابتة عنه، وبيّن علاجها،
ومن هذه الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام -: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ
بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ
وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى
تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» . فنجد
في هذا الحدث ذكر المرض الذي شاع حتى أحاط بالمسلمين، فذكر رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- نوعين من المرض على سبيل التمثيل لا التحديد.
من أمراض المسلمين:
النوع الأول: هو وقوع المسلمين في بعض
المحرمات بالاحتيال عليها وهم على علم بها: وهذا كامن في قوله - عليه الصلاة
والسلام -: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ» فالعينة: نوع من البيع يشير هذا
الحديث إلى تحريمه، ولكن بعض الناس رأوا إباحة ذلك؛ لأنها وضعت في باب البيع
والشراء، واستدلوا على ذلك بالعمومات التي تدل على جواز البيع؛ كمثل الآية
المشهورة: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فقالوا:
هذا بيع وشراء، فلا بأس أن يزيد أو ينقص!
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو
أولاً: مبين للناس؛ كما قال ربنا - تبارك وتعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44]
وهو ثانيًا: كما وصفه ربنا - تبارك وتعالى -
بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128] فمن رأفته ورحمته بنا -
عليه الصلاة والسلام -؛ أن نبهنا على مكامن احتيال الشيطان على بني الإنسان،
وحذرنا أن نقع في أحابيله في أحاديث كثيرة جدًا، منها ما نحن الآن في صدده، فقال -
عليه الصلاة والسلام -: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ» أي: إذا استحللتم ما
حرم الله ورسوله بأدنى الحيل باسم أن هذا بيع، والحقيقة أنه ستار، وأنه استدانة
مقابل زيادة، وهذا ربًا مكشوف، فحذرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث
من أن نقع في مثل هذا الاحتيال لاستحلال ما حرم الله، فذلك أخطر من أن يقع المسلم
في الحرام وهو يعلم أنه حرام؛ لأنه يرجى له يومًا ما أن يعود إلى ربه ويتوب؛ لأنه
على علم بأن ما يفعله حرام.
أما إذا كان قد زُيَّنَ له سوء عمله
لسبب من الأسباب؛ إما بالتأويل الخطأ أو بالجهل البالغ، فظن أن عمله لا شيء فيه،
فبديهي أن لا يخطر في باله يومًا ما أن يتوب إلى الله، فكان خطر المُحَرَّم
المُسْتَحَلِّ فكريًا واعتقاديًا أشدّ بكثير من المُحَرَّم المكشوف، فالذي يأكل
الربا، ويعلم أنه ربا، ويعتقد أنه ربا؛ هذا ـ مع أنه يحارب الله رسوله كما في نص
الآية ـ خطره في النتيجة أيسر من ذلك الذي يأكل الربا وهو يعتقد أنه إنما يأكل
حلالاً، هذا كمثل الذي يشرب المسكر ويعتقد أنه حرام، فيرجى أن يتوب إلى الله، أما
الذي يشرب المسكر، وهو يعتقد لسبب ما أنه شراب حلال؛ فهذا أخطر من ذاك؛ لأنه لا
يتصور أن يتوب عنه أبدًا ما دام يسيء فهم حكم هذا الأمر.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا
الحديث ذكر بيع العينة ـ كما ذكرنا في مطلع الكلام ـ على سبيل التمثيل لا على سبيل
التحديد، فيشير إلى أن كل حرام يرتكبه المسلم مستحلاً له بطريقة ما من طرق
التأويل؛ فهذا من نتائجه أن يذله الله - عز وجل - ويذل بسببه المسلمين إذا فشا
فيهم وشاع.
النوع الثاني: ثم ذكر النوع الثاني من
الأشياء التي يشترك الناس كلهم في معرفة مخالفتها للشريعة، فقال: «إِذَا
تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ
بِالزَّرْعِ» أي: انشغلتم بالسعي وراء حطام الدنيا، تحصيل الرزق باسم أن الله
أمرنا بالسعي وراء الرزق، فيبالغ المسلمون في ذلك، وينسون ما فرض الله عليهم من
الفرائض، ويلتهون بالسعي وراء الزرع والضرع، وما شابه ذلك من المكاسب، فينسيهم ذلك
ما فرض الله عليهم من الواجبات، وذكر على سبيل المثال الجهاد في سبيل الله؛ فقال -
عليه الصلاة والسلام -: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ
الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
هذا الحديث من أعلام النبوة، فقد تحقق
فينا هذا الذل؛ فيجب علينا أن نأخذ العلاج من هذا الحديث بعد أن وصف المرض، وما
سيثمر هذا المرض من ذلك، فقد تمسكنا بالأدواء، وأدت بنا إلى المرض، ألا وهو الذل،
فعلينا إذن أن نعود إلى تطبيق الدواء الذي وصفه الرسول - عليه الصلاة والسلام -
وصرح بأنه إذا رجعنا إليه رفع الله عنا هذا الذل.
والناس يقرءون هذا الحديث، ويسمعون
كثيرًا قوله -صلى الله عليه وسلم- «حَتَّى
تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» فيظنون أن الرجوع إلى الدين أمر سهل، أما أنا فأرى أن
الرجوع إلى الدين يحتاج ـ كما يقال عندنا ـ إلى «هز أكتاف»، وذلك لأننا جميعًا
نعلم أن هذا الدين قد أصيب بمحاولات كثيرة لتغيير حقائق كثيرة منه، وقد استطاع
بعضهم أن يصل إلى مثل ذلك التغيير أو التحريف، فبعض هذا التغيير معروف لدى كثير من
الناس، وبعضه ليس كذلك؛ بل على العكس من ذلك عند جماهير الناس فهناك مسائل ـ بعضها
اعتقادية وبعضها فرعية فقهية ـ يظنون أنها من الدين، وهي ليست من الدين في شيء.
كيف يرجع المسلمون إلى دينهم؟
وهو العلاج الذي نص الرسول - عليه
الصلاة والسلام - على أنهم إن أخذوه؛ رفع الذل عنهم؛ وإلا فلا: «إِذَا
تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ
بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا
يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» إذاً: العلاج الوحيد هو الرجوع إلى
الدين؛ لذلك فأنا أرى أن أي إصلاح ـ يجب أن يقوم به الدعاة إلى الإسلام، والناشدون
لإقامة دولة الإسلام بإخلاص - هو أن يعودوا إلى أن يفهموا أولاً أنفسهم، ويفهموا
الأمة.
ثانيًا: الدين الذي جاء به الرسول -
عليه الصلاة والسلام - وذلك لا سبيل إليه ـ فيما أعتقد اتفاقًا بين جميع الفقهاء
بأنه لا سبيل إلى الرجوع إلى فهم الدين على الحقيقة التي أنزلها الله - عز وجل - ـ
إلا بدراسة الكتاب والسنة، ولا جرم أن الأئمة رحمهم الله حذروا أتباعهم الأولين
الذين كانوا على علم من أن يتبعوهم، وأن يقلدوهم، ويجعلوهم الأصل في الرجوع،
وينسوا بذلك أصل الشريعة: الكتاب والسنة.
ولستم بحاجة جميعًا إلى أن نسوق لكم
أقوال الأئمة التي تدندن كلها حول الكلمة التي صحت عنهم جميعًا: (إذا صح الحديث
فهو مذهبي) فحسبنا هذا القول منهم الآن، فهذا دليل على أن كل إمام من أولئك الأئمة
نصح نفسه، ونصح أمته وأتباعه حينما أمرهم بأن يرجعوا إلى الحديث إذا كان مخالفًا
لاجتهاده ورأيه..فهذا إذاً يفتح الطريق ـ حتى باسم تقليد الأئمة ـ للرجوع إلى الكتاب
والسنة.
مسائل تخالف السنة الصحيحة
فنذكر بعض الأمثلة ـ وهي لا تزال
موجودة في كتبنا تدرس في كل المدارس الشرعية والكليات وما شابه ذلك ـ: في أحد
المذاهب الإسلامية أنّ المصلي إذا دخل في الصلاة يسدل يديه ولا يقبض. لماذا؟! هكذا
المذهب! بينما جهد كل علماء الحديث بأن يأتوا بحديث واحد ولو ضعيف ـ بل ولو موضوع
ـ على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبض بيده اليمنى على اليسرى إذا وقف
يصلي، هذا لا وجود له، فهل هذا هو الإسلام؟ أنا أعرف أن البعض سيقول: إن هذا من
المسائل الفرعية، وقد يتساهل بعضهم في التعبير فيقول: هذا من التوافه. وأنا أعتقد
أن كل شيء جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما له علاقة بالدين والعبادة؛
فليس من توافه الأمور.
نحن نعتقد أن كل ما جاء به الرسول -
عليه الصلاة والسلام - يجب أن نتبناه دينًا أولاً؛ مع وزنه بأدلة الشريعة؛ إن كان
فرضًا ففرض؛ وإن كان سنة فسنة، أما أن نسميه أمرًا تافهًا أو قشورًا؛ لأنه مستحب!
فهذا ليس من الأدب الإسلامي في شيء إطلاقًا؛ لاسيما وأن اللب لا يمكن أن نحافظ
عليه إلا بالمحافظة على القشر، أقول هذا لو أردت أن أجادلهم باللفظ.
هذا المثال البسيط ـ وهو السدل في
الصلاة ـ؛ لماذا يستمر المسلمون على العمل به، والأحاديث تترى في كل كتب السنة على
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقبض؟! ليس هناك إلا التقليد والجمود على
مخالفة الأئمة في قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).
قد لا يرضى هذا المثال البسيط بعض
الناس، فنذكر مثالاً آخر، وهو: أن بعض كتب فقه المذاهب ما زالت تذكر بأن الخمر
قسمان: قسم مستنبط من العنب؛ فهذا قليله وكثيره حرام، وقسم آخر مستنبط من غير
العنب: من الشعير، أو من الذرة، أو من التمر، أو غير ذلك مما تفنن اليوم الكفار في
استنباط الخمر منه، فهذا النوع من الخمر ليس كله حرامًا؛ وإنما الذي يسكر منه فقط
فهو حرام! لماذا لا يزال هذا القول مسطورًا؟! وقد يدافع عنه بعض الناس بألوان من
الدفاع! لا لشيء؛ إلا أن إمامًا من أئمة المسلمين اجتهد فقال هذا القول! مع أننا
جميعًا ـ على اختلاف مذاهبنا ومشاربنا ـ نقرأ في كتب السنة وبالأسانيد الصحيحة
قوله - عليه الصلاة والسلام -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» رواه
الترمذي وابن ماجه وأبو داود وأحمد. وقوله: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ
حَرَامٌ» رواه مسلم.
لماذا يظل مثل هذا القول الخطير الذي
يشجع الناس ـ الذين هم على شفا حفرة من الفسق، أو قد وقعوا فيها فعلاً ـ ويزين لهم
شرب القليل من خمر غير العنب؛ بحجة أن الإمام الفلاني ـ وهو عالم فاضل ـ قال هذا؟
يا للحجة! نحن نعتقد أنه عالم فاضل، ولكن الفرق أننا لا ننسى أنه غير معصوم عن
الخطأ، وهم يتناسون هذه الحقيقة، فيظلون يدافعون عن هذه الكلمة، فبعضهم يستغل هذا
القول ينشر المادة المسكرة بين المسلمين، وبعضهم يدافع عن الإمام لا عن القول.
لماذا يبقى مثل هذا القول في كتب الفقه
مع مصادمته الأحاديث القاطعة الدلالة والثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في
إبطال مثل هذا القول؟!! لماذا نجبن أن نقول: إن إمامًا من أئمة المسلمين أخطأ في
مسألة، أو في اجتهاد، أو في رأي له، فيؤجر أجرًا واحدًا بدل أن يؤجر أجرين؟! لماذا
لا نقول هذا أولاً كمبدأ، وثانيًا كتطبيق لبعض الفروع، ومنها هذا الفرع الذي نحن
في صدده؟!
الجواب: لأنه قد ران علينا، وفي قلوبنا
تقديس الأئمة واحترامهم أكثر مما أوجب الله علينا.
ونحن نؤمن بقول الرسول - عليه الصلاة
والسلام - لنا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمَ
صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفَ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» صحيح الجامع (5443). هذا مما حض
عليه الرسول - عليه الصلاة والسلام - المسلمين أن يعرفوا حق العالم، ولكن هل من حق
العالم أن نرفعه إلى مستوى النبوة والرسالة، حتى نعطيه العصمة بلسان حالنا؟! فلسان
الحال أنطق من لسان المقال.
إذا كان علينا أن نحترم العالم ونقدره
حق قدره، وأن نقلده حينما يبرز لنا الدليل؛ فليس لنا أن نرفع من قوله، ونضع من قول
الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولا أن نؤثر قوله على قول الرسول - عليه الصلاة
والسلام -!
مثال آخر: مثلاً في النكاح لا يزال هذا
الحكم باقيًا على أنه رأي إسلامي محترم؛ فلا يزال يُقضي بأن البنت المسلمة البالعة
الراشدة لها أن تزوج نفسها بنفسها دون إذن وليها؛ مع تصريح الرسول -صلى الله عليه
وسلم- بقوله: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» رواه الترمذي
وأبو داود وابن ماجه والدارمي وأحمد. فهذا الحديث غير معمول به، وذاك القول معمول
به ومقضي به. وقد يقول بعض الناس: ألم يفهم الحديث أحدٌ إلا أنت؟!
وأقول: هذا الحديث قد أخذ به أفهم
الأئمة باللغة العربية وأساليبها؛ ألا وهو الإمام الشافعي، فليس هو رأيًا لإنسان
يُعرف أصله أنه من ألبانيا؛ ولكن هذا الألباني وجد حديثًا، ووجد فهمًا لإمام وهو
إمام قرشي مطلبي. ثم لماذا تُرك هذا الرأي الصحيح المقرون بهذا الحديث الصحيح لرأي
إمام آخر من أئمة المسلمين؟! إن اجتهاد الإمام على رءوسنا، ولكن الاجتهاد له قيمة
حينما لا يتعارض مع النص المعصوم من الكتاب والسنة.
فكلنا يقرأ في كتب الأصول قولهم: «إذا
ورد الأثر بطل النظر»، «لا اجتهاد في مورد النص»، كل هذه القواعد المعروفة علميًا،
فلماذا لا نهتم بتطبيق هذه القواعد عمليًا، ونظل نتمسك ببعض الفروع المخالفة
للسنة؟!
فإذا أردنا أن نأخذ بالعلاج الذي وصفه
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وصف المرض: «حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى
دِينِكُمْ» فهل الرجوع إلى الدين هو فقط باللسان؛ أم هو بالاعتقاد والعمل؟!
إن كثيرًا من المسلمين يشهدون أن لا
إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهم لا يلتزمون لوازم هاتين الشهادتين، وهذا
بحث طويل؛ فكثير من المسلمين اليوم لا يعطون «لا إله إلا الله» حقها من التفسير.
ولقد انتبه لهذا كثير من الشباب المسلم
والكُتّاب المسلمين؛ وهو أن من حق هذه الشهادة أن الحكم لله، نعم، أريد أن أقولها
صريحة: لقد انتبه الشباب المسلم والكتاب المسلمين اليوم إلى هذه الحقيقة؛ وهي أن
الحكم لله - عز وجل - وحده، وأن تسليط القوانين الأرضية، واعتمادها لحل المشاكل
القائمة اليوم؛ ينافي كون الحكم لله - عز وجل -، ولكنني أرى كثيرًا من هؤلاء
الكتاب لا ينسجمون مع هذا الانتباه الخطير الذي انتبهوا له؛ وهو كون الحكم لله -
عز وجل -، وحكم الله هو حكم الكتاب والسنة.
تُرى هل إذا جاء حكم مخالفٌ من فلان
الكافر فهو مخالف لحكم الله؛ وإذا جاء من اجتهاد مجتهد مخطئ لا يكون مخالفًا لحكم
الله؟!
أنا أعتقد أنه لا فرق؛ إذ إنه يجب على
المسلم أن لا يأخذ بأي قول مهما كان مصدره، ما دام أنه يخالف الكتاب والسنة، لكن
هناك فرقًا بين ذاك الذي قال ذلك الكفر؛ فهو كافر مخلد في النار؛ وبين من قال ذلك
خطأ من المسلمين؛ فهو مأجور على خطئه.
إذاً: يجب الرجوع إلى الدين بعد محاولة
وسلوك طريق فهم هذا الدين، وذلك يكون بتطبيق الفقه الذي يسمى اليوم بالفقه
المقارن، وهذا الفقه يجب أن يُدرّس، وأن يدرسه أهل الاختصاص من حملة الشهادات
الشرعية الفقهية والحديثية.
الرجوع إلى الدين هو الرجوع إلى الكتاب
والسنة؛ لأن ذلك هو الدين باتفاق الأئمة، وهو العصمة من الانحراف والوقوع في
الضلال، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيئَينِ لَنْ
تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا كِتَابَ الله وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى
يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ» صحيح الجامع (2937).
وضربنا بعض الأمثلة التي توجب على أهل
العلم اليوم أن يرجعوا إلى فهم الدين من أصليه المذكورين: الكتاب والسنة؛ لكيلا
يقع المسلمون في استحلال ما حرم الله؛ متوهمين أنه مما أباحه الله.
كلمة أخيرة حول الرجوع إلى الدين:
إذا أردنا العزة من الله - تبارك
وتعالى - وأن يرفع عنا الذل، وينصرنا على العدو؛ فلا يكفي لذلك ما أشرنا إليه من
وجوب تصحيح المفاهيم، ورفع الآراء التي أولت الأدلة الشرعية عند أهل العلم وعند
أهل الفقه الاختصاصي..وإنما هناك شيء آخر مهم جدًا ـ وهو بيت القصيد ـ لتصحيح
المفاهيم؛ ألا وهو العمل؛ لأن العلم وسيلة للعمل، فإذا تعلم الإنسان، وكان عمله
صافيًا مصفّى، ثم لم يعمل به؛ كان بديهيا جدًا أن هذا العلم لا يثمر، فلابد من أن
يقترن مع هذا العلم العمل.
ويجب على أهل العلم أن يتولوا تربية
النشء المسلم الجديد على ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة، فلا يجوز أن ندع الناس على
ما توارثوه من مفاهيم وأخطاء؛ بعضها باطل قطعًا باتفاق الأئمة، وبعضها مختلف فيه،
ولو وجه من النظر والاجتهاد والرأي، وبعض هذا الاجتهاد والرأي مخالف للسنة.
فبعد تصفية هذه الأمور، وإيضاح ما يجب
الانطلاق والسير فيه؛ لابد من تربية النشء الجديد على هذا العلم الصحيح.
وهذه التربية هي التي ستثمر لنا
المجتمع الإسلامي الصافي، وبالتالي تقيم لنا دولة الإسلام.
وبدون هاتين المقدّمتين: «العلم
الصحيح»، و «التربية الصحيحة على هذا العلم الصحيح» يستحيل ـ في اعتقادي ـ أن تقوم
قائمة الإسلام، أو حكم الإسلام، أو دولة الإسلام.
وأضرب مثلاً لضرورة هذه التربية
الصحيحة على العلم الصحيح:
تجد من هؤلاء الشباب الطيب من يستحلون
الاستماع للأغاني وآلات الطرب! وذلك لأنهم يجدون الإذاعات تملأ الأسماع، ولا يوجد
هناك توجيه عام لهذا النشء المسلم الجديد بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نهى
عن آلات المعازف، وحذر من الاستماع إليها، وهدد الذين يمسون في لهو ولعب، ويستمعون
إلى المعازف أن يمسخوا قردة وخنازير.
لم يُرَبَّ هذا النشء الجديد على معرفة
ما يجوز وما لا يجوز، وذلك لأنه يجد أقوالاً كثيرة؛ يجد مثلاً ابن حزم الإمام له
رسالة في إباحة الملاهي، وسرعان ما تطبع هذا الرسالة وتنتشر بين الناس، فتوافق
منهم هوى. وربما قال بعض الموجهين وبعض من يدعي الإصلاح: ما دام هذا إمامًا وله
مثل هذا الرأي؛ إذاً نحن نتبعه أو نقلده في سماعنا للطرب؛ لاسيما وقد أصبحت بلوى
عامة.
فأين السنة حينئذٍ؟! إن السنة أصبحت
نسيًا منسيًا!
وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام
- جعل العلاج في رفع الذل المخيم علينا إنما هو بالرجوع إلى الدين؛ فيجب علينا
إذاً أن نفهم الدين بواسطة أهل العلم فهمًا صحيحًا، موافقًا للكتاب والسنة، وأن
نربي النشء الصالح الطيب على ذلك، وهذا هو الطريق لمعالجة المشكلة التي يشكو منها
كل مسلم.
وقد أعجبتني كلمة ـ هي في الواقع كأنها
خلاصة لما قلته أو بينته آنفًا ـ لبعض المصلحين في العصر الحاضر، وهي في رأيي
كأنها من وحي السماء؛ يقول: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم».
ولابد من أن نصلح نفوسنا على أساس من
إسلامنا وديننا، وهذا ـ كما ذكرنا ـ لا يكون بالجهل؛ وإنما بالعلم؛ حتى تقوم دولة
الإسلام على أرضنا هذه.
وفي الختام؛ أوصى كل من يستطيع أن
يشارك في تحقيق هذا الأمر العظيم أن يتعاون هو وغيره ـ من ذوي الاختصاصات ـ على
بيان الإٍسلام الذي جاء في الكتاب والسنة، وتربية النشء على ذلك، وهذه ذكرى،
والذكرى تنفع المؤمنين.
عندما سئل العلامة الألباني
عن واقعنا الأليم
السؤال:
نعلم
يا شيخنا في هذه الأيام أن الإسلام محارب في جميع الأرض، وبعدم اهتمام من الحكومات
فماذا علينا نحن في هذا الأمر؟، وهل نأثم بجلوسنا بعدم عمل أي شيء؟
المفتي:
محمد ناصر الدين الألباني
الإجابة:
إن الحمد لله نحمده
ونستعينه ونستغفره، ونعوذ
بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: ١٠٢]
{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ
الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:
١]
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً
عَظِيماً} [الأحزاب: ٧٠ – ٧١]
أما
بعد ...فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-،
وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالةٍ، وكل
ضلالةٍ في النار.
السؤال
كأنه من حيث ظاهره وألفاظه، أقل مما يقصد لافظه؛ حيث يقول: نقعد، ولا نعمل أي شيء!
فهو يعني في أي شيء ـ ليس أي شيء مطلقاً ـ وإنما يعني شيئاً معيناً لأنه لا أحدٌ
إطلاقاً يقول: بأن المسلم عليه أن يعيش كما تعيش الأنعام لا يعمل أي شيء ـ لأنه
خُلق لشيء عظيم جداً؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك فلا يتبادر إلى ذهن
أحد من مثل هذا السؤال أنه يقصد ألا يعمل أي شيء، وإنما يقصد ألا يعمل شيئاً يناسب
هذا الواقع الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب، هذا هو الظاهر من مقصود السائل و ليس
بملفوظ السائل.
وعلى
ذلك نجيب: لا يختلف وضع الدعوة الإسلامية اليوم لا في قليل ولا في كثير عمّا كانت
عليه الدعوة الإسلامية في عهدها الأول، ألا وهو العهد المكي، وكلنا يعلم أن القائم
على الدعوة يومئذ، هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أعني بهذه الكلمة أن الدعوة
كانت محاربة؛ من القوم الذين بعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنفسهم،
كما في القرآن الكريم، ثم لما بدأت الدعوة تنتشر، وتتسع دائرتها بين القبائل
العربية حتى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة من مكة إلى المدينة - طبعاً
نحن الآن نأتي برؤوس أقلام لأن التاريخ الإسلامي الأول والسيرة النبوية الأولى
معروفة عند كثير من الحاضرين -لأنني أقصد بهذا الإيجاز والاختصار، الوصول إلى
المقصود من الإجابة على ذلك السؤال.
ولذلك
فإنني أقول: بعد أن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبعه بعض أصحابه إلى
المدينة، وبدأ - عليه الصلاة والسلام - يضع النواة لإقامة الدولة المسلمة هناك في
المدينة المنورة - بدأت أيضاً عداوةُ جديدة بين هذه الدعوة الجديدة أيضاً في
المدينة - حيث اقتربت الدعوة من عقر دار النصارى وهي سورية يومئذِ؛ - التي كان
فيها هرقل ملك الروم -، فصار هناك عداء جديد للدعوة ليس فقط من العرب في الجزيرة
العربية؛ بل ومن النصارى أيضاً في شمال الجزيرة العربية أي في سورية ثم أيضاً ظهر
عدوُ آخر ألا وهو فارس، فصارت الدعوة الإسلامية محاربة من كل الجهات؛ من المشركين
في الجزيرة العربية، ومن النصارى واليهود في بعض أطرافها، ثم من قبل فارس؛ التي
كان العداء بينها وبين النصارى شديداً كما هو معلوم من قولة تبارك وتعالى: {الم
غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:1-4].
الشاهد
هنا: لا نستغربنَّ وضع الدعوة الإسلامية الآن، من حيث إنها تُحارب من كل جانب. فمن
هذه الحيثية كانت الدعوة الإسلامية في منطلقها الأول أيضاً كذاك محاربة من كل
الجهات، وحينئذٍ يأتي السؤال والجواب.
ما
هو العمل؟ ماذا عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الذين كان عددهم يومئذٍ
قليلاََ بالنسبة لعدد المسلمين اليوم حيث صار عدداَ كثيراَ وكثيراَ جداَ؟
هنا
يبدأ الجواب: هل حارب المسلمون العرب المعادين لهم أي قومهم في أول الدعوة؟ هل
حارب المسلمون النصارى في أول الأمر؟ هل حاربوا فارس في أول الأمر؟
الجواب:
لا، لا كل ذلك الجواب لا.
إذاَ
ماذا فعل المسلمون؟
نحن
الآن يجب أن نفعل ما فعل المسلمون الأولون تماماَ. لأن ما يصيبنا هو الذي أصابهم،
وما عالجوا به مصيبتهم هو الذي يجب علينا أن نعالج به مصيبتنا، وأظن أن هذه
المقدمة توحي للحاضرين جميعاً بالجواب إشارةً وستتأيد هذه الإشارة بصريح العبارة.
فأقول:
يبدو من هذا التسلسل التاريخي والمنطقي في آنِ واحدِ أن الله - عز وجل - إنما نصر
المؤمنين الأولين؛ الذين كان عددهم قليلاً جداً بالنسبة للكافرين والمشركين جميعاً
من كل مذاهبهم ومللهم، إنما نصرهم الله - تبارك وتعالى - بإيمانهم.
إذاً
ما كان العلاج أو الدواء يومئذٍ لذلك العداء الشديد الذي كان يحيط بالدعوة هو نفس
الدواء ونفس العلاج الذي ينبغي على المسلمين اليوم أن يتعاطوه؛ لتحقيق ثمرة هذه
المعالجة كما تحققت ثمرة تلك المعالجة الأولى، والأمر كما يقال: التاريخ يعيد
نفسه؛ بل خير من هذا القول أن نقول إن الله - عز وجل - في عباده وفي كونه الذي
خلقه ونظّمه وأحسن تنظيمه له في ذلك كله- سنن لا تتغير ولا تتبدل، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد
لسنة الله تحويلاً.
هذه
السنن لابد للمسلم أن يلاحظها، وأن يرعاها حق رعايتها، وبخاصةٍ ما كان فيها من
السنن الشرعية، هنالك سنن شرعية وهنالك سنن كونية. وقد يقال اليوم- في العصر
الحاضر- سنن طبيعية، هذه السنن الكونية الطبيعية يشترك في معرفتها المسلم والكافر،
والصالح والطالح بمعنى؛ ما الذي يقوّم حياة الإنسان البدنية؟ الطعام والشراب
والهواء النقي ونحو ذلك. فإذا الإنسان لم يأكل، لم يشرب، لم يتنفس الهواء النقي،
فمعنى ذلك أنه عرَّض نفسه للموت موتاً مادياً. هل يمكن أن يعيش إذا ما خرج عن
اتخاذه هذه السنن الكونية؟
الجواب:
لا، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، هذا -كما قلت آنفاً -يعرفه معرفة تجريبية
كل إنسان؛ لا فرق بين المسلم والكافر والصالح والطالح لكن الذي يهمنا الآن أن نعرف
أن هناك سنناً شرعية يجب أن نعلم أن هناك سنناً شرعية، من اتخذها وصل إلى أهدافها
وجنى منها ثمراتها، ومن لم يتخذها فسوف لن يصل إلى الغايات التي وُضعت تلك السنن
الشرعية لها؛ تماماً - كما قلنا - بالنسبة للسنن الكونية إذا تبنَّاها الإنسان
وطبقها، وصل إلى أهدافها.
كذلك
السنن الشرعية إذا أخذها المسلم؛ تحققت الغاية التي وضع الله تلك السنن من أجلها
من أجل تحقيقها وإلا فلا.
أظن
هذا الكلام مفهوم ولكن يحتاج إلى شيء من التوضيح، وهنا بيت القصيد وهنا يبدأ
الجواب عن ذاك السؤال الهام.
كلنا
يقرأ آية من آيات الله - عز وجل - بل إن هذه الآية قد يُزيّن بها صدور بعض المجالس
أو جدر بعض البيوت وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] لافتات -
توضح وتكتب بخط ذهبي جميل رُقعي أو فارسي ...إلى آخره، وتوضع على الجدار، مع الأسف
الشديد هذه الآية أصبحت الجدر مزينة بها، أما قلوب المسلمين فهي خاوية على عروشها،
لا نكاد نشعر ما هو الهدف الذي ترمي إليه هذه الآية {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ولذلك أصبح وضع العالم الإسلامي اليوم في بلبلة وقلقلة لا يكاد
يجد لها مخرجاً، مع أن المخرج مذكور في كثير من الآيات، وهذه الآية من تلك الآيات،
إذا ما ذكّرنا المسلمين بهذه الآية فأظن أن الأمر لا يحتاج إلى كبير شرح وبيان
وإنما هو فقط التذكير {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الذاريات:55].
كلنا
يعلم إن شاء الله أن قوله - تبارك وتعالى - {إن تنصروا الله} شرطٌ، جوابه
{ينصرْكم} إن تأكل إن تشرب إن .. إن الجواب تحيا، إن لم تأكل إن لم تشرب، ماذا؟
تموت؟ كذلك تماماً المعنى في الآية ﮋإن
تنصروا الله ينصركمﮊ المفهوم - وكما
يقول الأصوليون -: مفهوم المخالفة، إن لم تنصروا الله لم ينصركم؛ هذا هو واقع
المسلمين اليوم.
توضيح
هذه الآية جاءت في السنة في عديد من النصوص الشرعية، وبخاصةٍ منها الأحاديث
النبوية. {إن تنصروا الله} معلوم بداهة أن الله لا يعني أن ننصره على عدوه بجيوشنا
وأساطيلنا وقواتنا المادية؛ لا! إن الله - عز وجل - غالب على أمره، فهو ليس بحاجة
إلى أن ينصره أحد نصراً مادياً هذا أمر معروف بديهياً لذلك كان معنى {إن تنصروا
الله} أي إن تتبعوا أحكام الله، فذلك نصركم لله تبارك وتعالى.
والآن
هل المسلمون قد قاموا بهذا الشرط؟ قد قاموا بهذا الواجب أولاً؟ ثم هو شرط لتحقيق
نصر الله للمسلمين ثانياً ؟
الجواب:
عند كل واحدٍ منكم، ما قام المسلمون بنصر الله - عز وجل - وأريد أن أذكر هنا
كلمةً؛ أيضاً من باب التذكير وليس من باب التعليم، على الأقل بالنسبة لبعض الحاضرين.
إن
عامة المسلمين اليوم قد انصرفوا عن معرفتهم، أو عن تعرفهم على دينهم، - عن تعلمهم
لأحكام دينهم -، فأكثرهم لا يعلمون الإسلام، وكثيرٌ أو الأكثرون منهم، إذا ما
عرفوا من الإسلام شيئاً، عرفوه ليس إسلاماً حقيقياً؛ عرفوه إسلاماً منحرفاً عمّا
كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
لذلك
فنصر الله الموعود به من نصر الله يقوم على معرفة الإسلام أولاً معرفةً صحيحة، كما
جاء في القرآن والسنة، ثم على العمل به ثانياً -، وإلا كانت المعرفة وبالاً على
صاحبها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}
[الصف:2-3]. إذاً نحن بحاجة إلى تعلم الإسلام، وإلى العمل بالإسلام.
فالذي
أريد أن أذكّر به - كما قلت آنفاً - هو أن عادة جماهير المسلمين اليوم أن يصبّوا
اللوم كل اللوم بسبب ما ران على المسلمين قاطبةً من ذلٍ وهوان على الحكام، أن
يصبوا اللوم كل اللوم على حكامهم الذين لا ينتصرون لدينهم، وهم - مع الأسف - كذلك؛
لا ينتصرون لدينهم، لا ينتصرون للمسلمين الُمَذلّين من كبار الكفار من اليهود
والنصارى وغيرهم، هكذا العُرف القائم اليوم بين المسلمين! صب اللوم كل اللوم على
الحكام، ومع ذلك! أن المحكومين كأنهم لا يشملهم اللوم الذي يوجهونه إلى الحاكمين!
والحقيقة أن هذا اللوم ينصب على جميع الأمة حكّامًا، ومحكومين.
وليس
هذا فقط بل هناك طائفة من أولئك اللائمين للحكام المسلمين بسبب عدم قيامهم بتطبيق
أحكام دينهم، وهم محقون في هذا اللوم، ولكن! قد خالفوا قوله تعالى: {إن تنصروا
الله} أعني نفس المسلمين اللائمين للحاكمين حينما يخصونهم باللوم قد خالفوا أحكام
الإسلام؛ حينما يسلكون سبيل تغيير هذا الوضع المحزن المحيط بالمسلمين بالطريقة
التي تخالف طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث إنهم يعلنون تكفير حكام
المسلمين- هذا أولاً -! ثم يعلنون وجوب الخروج عليهم - ثانياً -! فتقع هنا فتنة
عمياء صماء بكماء بيد المسلمين أنفسهم؛ حيث ينشق المسلمون بعضهم على بعض، فمنهم
هؤلاء الذين أشرت إليهم الذين يظنون أن تغيير هذا الوضع الذليل المصيب للمسلمين
إنما تغييره بالخروج على الحاكمين، ثم لا يقف الأمر عند هذه المشكلة، وإنما تتسع
وتتسع حتى يصبح الخلاف بين هؤلاء المسلمين أنفسهم! ويصبح الحاكم في معزلٍ عن هذا الخلاف.
بدأ
الخلاف من غلوّ بعض الإسلاميين في معالجة هذا الواقع الأليم أنه لابد من محاربة
الحكام المسلمين لإصلاح الوضع!، وإذا بالأمر ينقلب إلى أن هؤلاء المسلمين يتخاصمون
مع المسلمين الآخرين الذين يرون أن معالجة الواقع الأليم ليس هو بالخروج على
الحاكمين، وإن كان كثيرون منهم يستحقون الخروج عليهم! بسبب أنهم لا يحكمون بما
أنزل الله؛ ولكن هل يكون العلاج كما يزعم هؤلاء الناس، هل يكون إزالة الذي أصاب
المسلمين من الكفار أن نبدأ بمحاكمة الحاكمين في بلاد الإسلام من المسلمين؟ ولو أن
بعضهم نعتبرهم مسلمين جغرافيين كما يقال في العصر الحاضر هنا نحن نقول:
أوردها
سعدٌ وسعدٌ مشتملْ ما هكذا يا سعدُ
تُورَد ُالإبلْ.
مما
لا شك فيه أن موقف أعداء الإسلام أصالةً وهم اليهود والنصارى والملاحدة من خارج
بلاد الإسلام؛ هم أشد بلا شك ضرراً من بعض هؤلاء الحكام الذين لا يتجاوبون مع رغبات
المسلمين أن يحكموهم بما أنزل الله فماذا يستطيع هؤلاء المسلمون؟ وأعني طرفاً أو
جانباً منهم وهم الذين يعلنون وجوب محاربة الحاكمين من المسلمين، ماذا يستطيع أن
يفعل هؤلاء لو كان الخروج على الحكام واجباً قبل البدء بإصلاح نفوسنا نحن؟!.
كما
هو العلاج الذي بدأ به الرسول - عليه السلام -، إن هؤلاء لا يستطيعون أن يفعلوا
شيئاً إطلاقاً؛ والواقع أكبر دليل على ذلك، مع أن العلاج الذي يتبعونه وهو أن
يبدؤوا بمحاربة الحكام المسلمين! لا يثمر الثمرة المرجوة لأن العلة - كما قلت آنفاً
- ليست في الحاكمين فقط؛ بل وفي المحكومين أيضاً، فعليهم جميعاً أن يصلحوا أنفسهم،
والإصلاح هذا له بحث آخر قد تكلمنا عليه مراراً وتكراراً وقد نتكلم قريباً إن شاء
الله عنه.
المهم
الآن المسلمون كلهم متفقون على أن وضعهم أمر لا يحسدون عليه ولا يغبطون عليه؛ بل
هو من الذل والهوان بحيث لا يعرفه الإسلام، فمن أين نبدأ؟ هل يكون البدء بمحاربة
الحاكمين المسلمين؟! أو يكون البدء بمحاربة الكفار أجمعين من كل البلاد؟! أم يكون
البدء بمحاربة النفس الأمارة بالسوء؟ من هنا يجب البدء، ذلك لأن النبي -صلى الله
عليه وسلم- إنما بدأ بإصلاح نفوس أفراد المسلمين المدعوّين في أول دعوة الإسلام
كما ذكرنا في أول هذا الكلام- بدأت الدعوة في مكة ثم انتقلت إلى المدينة ثم بدأت
المناوشة بين الكفار والمسلمين، ثم بين المسلمين والروم، ثم بين المسلمين وفارس ..
وهكذا - كما قلنا آنفاً - التاريخ يعيد نفسه.
فالآن
المسلمون عليهم أن ينصروا الله لمعالجة هذا الواقع الأليم، وليس بأن يُعالجوا
جانباً لا يثمر الثمرة المرجوة فيها، لو استطاعوا القيام بها! ما هو هذا الجانب؟
محاربة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله! هذا أولاً كما قلت آنفاً -لابد من
وقفة قصيرة- غير مستطاع اليوم، أن يُحارب الحكام؛ وذلك لأن هؤلاء الحكام لو كانوا
كفاراً كاليهود والنصارى؛ فهل المسلمون اليوم يستطيعون محاربة اليهود والنصارى؟
الجواب:
لا، الأمر تماماً كما كان المسلمون الأولون في العهد المكي، كانوا مستضعفين،
أذلاء، محاربين، معذبين، مُقَتَّلِين لماذا؟! لأنهم كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا
قوة، إلا إيمانهم الذي حلّ في صدورهم، بسبب إتباعهم لدعوة نبيهم صلى الله عليه
وعلى آله وسلم؛ هذا الإتباع مع الصبر على الأذى هو الذي أثمر الثمرة المرجوة؛ التي
نحن ننشدها اليوم، فما هو السبيل للوصول إلى هذه الثمرة؟ نفس السبيل الذي سلكه
الرسول - عليه الصلاة والسلام - مع أصحابه الكرام، إذاً اليوم لا يستطيع المسلمون
محاربة الكفار على اختلاف ضلالاتهم، فماذا عليهم؟ عليهم أن يُؤمنوا بالله ورسوله
حقاً، ولكن المسلمين اليوم كما قال رب العالمين: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ
آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37].
المسلمون
اليوم اسماً وليسوا مسلمين حقاً! أظنكم تشعرون معي بالمقصود من هذا النفي.
ولكني
أذكركم بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:1-7] أي
الباغون الظالمون، فإذا أخذنا هذه الخصال فقط، ولم نتعد هذه الآيات المتضمنة لهذه
الخصال إلى آيات أخرى؛ التي فيها ذكر لبعض الصفات والخصال التي لم تُذكر في هذه
الآيات، وهي كلها تدور حول العمل بالإسلام. فمن تحققت فيه هذه الصفات المذكورة في
هذه الآيات المتلوه آنفاً وفي آيات أخرى؛ أولئك هم الذين قال الله - عز وجل - في
حقهم «أولئك هم المؤمنون حقا».
فهل
نحن مؤمنون حقاً؟!
الجواب:
لا، إذاً يا إخواننا لا تضطربوا!
فنحن
المصلين اليوم؛ - هذه الخصلة – {قد
أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون}
هل نحن خاشعون في صلاتنا؟ أنا ما أتكلم عن فرد، اثنين، خمسة، عشرة، مائة، مائتين،
ألف، ألفين.
لا
أتكلم عن المسلمين على الأقل الذين يتساءلون، ما هو الحل لما أصاب المسلمين؟ لا
أعني أولئك المسلمين اللاهين الفاسقين الذين لا تهمهم آخرتهم، وإنما تهمهم شهواتهم
وبطونهم لا. أنا أتكلم عن المسلمين المصلين.
فهل
هؤلاء المصلون قد اتصفوا بهذه الصفات المذكورة في أول سورة المؤمنين؟
الجواب:
كجماعة، كأمة: لا.
إذاً:
ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالِكَها .. إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ.
فلابد
من اتخاذ الأسباب؛ التي هي من تمام السنن الشرعية بعد السنن الكونية؛ حتى يرفع
ربنا - عز وجل - هذا الذل الذي ران علينا جميعاً. أنا ذكرت هذه الأوصاف من صفات
المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، لكن هناك في الأحاديث النبوية التي نذكّر
بها إخواننا دائماً، ما يُذكّر بحـال المسلمين اليوم؛ وأنهم لو تذكروا هذا الحديث
كان من العار عليهم أن يتساءلوا لماذا أصابنا هذا الذل؟! لأنهم قد غفلوا عن
مخالفتهم لشريعة الله.
من تلك الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام -:
«إذا تبايعيتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل
الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» . هذا
الحديث تكلمت عليه كثيراً وكثيراً جداً وبمناسبات عديدة. وإنما أنا أقف فقط عند
قوله «إذا تباييعتم بالعينة».
العينة:
نوع من الأعمال الربوية؛ - ولا أريد أيضاً أن أدخل فيها بالذات - فهل منكم من يجهل
تعامل المسلمين بأنواع من الربا، وهذه البنوك الربوية قائمة على ساق وقدم في كل
بلاد الإسلام ومعترف فيها بكل الأنظمة القائمة في بلاد الإسلام.
وأعود
لأقول ليس فقط من الحكام؛ بل ومن المحكومين لأن هؤلاء المحكومين هم الذين يتعاملون
مع هذه البنوك وهم الذين إذا نُوقشوا، وقيل لهم: أنتم تعلمون أن الربا حرام وأن
الأمر كما قال - عليه السلام -: «درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله - عز وجل - من
ستٍ وثلاثين زنية»
لماذا يا أخي تتعامل بالربا؟! «بيقلك شو بدّنا نساوي بدنا نعيش»!! إذاً العلاقة ما
لها علاقة بالحكام لها علاقة بالحكام والمحكومين. المحكومون هم في حقيقة أمرهم
يليق بهم مثل هؤلاء الحكام، وكما يقولون «دود الخل منّه وفيه». هؤلاء الحكام ما
نزلوا علينا من المريخ!! وإنما نبعوا منّا وفينا فإذا أردنا صلاح أوضاعنا فلا يكون
ذلك بأن نعلن الحرب الشعواء على حكّامنا وأن ننسى أنفسنا؛ والمشكلة منّا وفينا؛
حيث المشكلة القائمة في العالم الإسلامي.
لذلك نحن ننصح المسلمين أن يعودوا إلى
دينهم. وأن يطبقوا ما عرفوه من دينهم {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4-5] كل
المشاكل القائمة اليوم والتي يتحمس بعض الشباب ويقول ما العمل؟! سواءٌ قلنا ما هو
بجانبنا من المصيبة التي حلت بالعالم الإسلامي والعالم العربي! وهي احتلال اليهود
لفلسطين، أو قلنا محاربة الصليبين للمسلمين بإرتيريا وفي الصومال، في البوسنة
والهرسك في .. إلى آخر البلاد المعروفة اليوم. هذه المشاكل كلها لا يمكن أن تعالج
بالعاطفة وإنما تعالج بالعلم والعمل. { وَقُلِ
اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].
{وقل اعملوا} الآن نقف عند هذه النقطة. العمل
للإسلام اليوم في الساحة الإسلامية، له صور كثيرة وكثيرة جداً، وفي جماعات وأحزاب
متعددة، والحقيقة أن هذه الأحزاب من مشكلة العالم الإسلامي التي تكّبر المشكلة
أكثر مما يراها بعضهم. بعضهم يرى أن المشكلة احتلال اليهود لفلسطين، أن المشكلة ما
ذكرناه آنفاً، محاربة الكفار لكثير من البلاد الإسلامية وأهلها، لا!
نحن
نقول: المشكلة أكبر وهي تفرق المسلمين. المسلمون أنفسهم متفرقون شيعاً وأحزاباً
خلاف قول الله تبارك وتعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32].
الآن
الجماعات الإسلامية مختلفون في طريقة معالجة المشكلة التي يشكو منها كل الجماعات
الإسلامية، وهي الذل الذي ران على المسلمين، وكيف السبيل إلى الخلاص منه؟
هناك
طرق:
«الطريقة
الأولى»: هي الطريقة المثلى التي لا ثاني لها، وهي التي ندعو إليها دائماً وأبداً وهي
فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقهُ وتربية المسلمين على هذا الإسلام المصفّى، تلك
هي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كما ذكرنا ونذكر أبداً. فرسول الله
بدأ بأصحابه أن هداهم إلى الإيمان بالله ورسوله- أن علمهم بأحكام الإسلام-، وكانوا
يشكون إليه ما يصيبهم من ظلم المشركين وتعذيبهم إياهم، كان يأمرهم بالصبر، يأمرهم
بالصبر! وأن هذه سنة الله في خلقه أن يُحارب الحق بالباطل وأن يُحارب المؤمنون
بالمشركين وهكذا، فالطريقة الأولى لمعالجة هذا الأمر الواقع هي العلم النافع
والعمل الصالح.
هناك
حركات ودعوات أخرى، كلها تلتقي على خلاف الطريقة الأولى والمثلى والتي لا ثاني لها
وهي اتركوا الإسلام الآن جانباً! من حيث وجوب فهمه! ومن حيث وجوب العمل به! الأمر
الآن أهم من هذا الأمر! وهو أن نجتمع وأن نتوحد على محاربة الكفار!!
سبحان
الله، كيف يمكن محاربة الكفار بدون سلاح؟! كل إنسان عنده ذرّة عقل أنه إذا لم يكن
لديه سلاح مادي فهو لا يستطيع أن يحارب عدوه المسلّح، ليس بسلاح مادي بل بأسلحةِ
مادية! فإذا أراد أن يحارب عدوه هذا المسلح وهو غير مسلح ماذا يقال له؟ حاربه دون
أن تتسلح؟! أم تسلح ثم حاربه؟
لا
خلاف في هذه المسألة أن الجواب: تسلح ثم حارب، هذا من الناحية المادية، لكن من
الناحية المعنوية الأمر أهم بكثير من هذا، إذا أردنا أن نحارب الكفار؛ فسوف لا
يمكننا أن نحارب الكفار بأن ندع الإسلام جانباً؛ لأن هذا خلاف ما أمر الله - عز
وجل - ورسوله المؤمنين في مثل آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ
لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
{إن
الإنسان لفي خسر} نحن بلا شك الآن في خسر، لماذا؟! لأننا لم نأخذ بما ذكر الله -
عز وجل - من الاستثناء حين قال: {إن
الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} نحن الآن نقول آمنا بالله ورسوله، ولكن!
حينما ندعو المسلمين المتحزبين المتجمعين المتكتلين على خلاف دعوة الحق الرجوع إلى
الكتاب والسنة يقولون هذا ندعه الآن جانباً! الأمر أهم!. هو محاربة الكفار!،
فنقول: بسلاح أم بدون سلاح؟! لابد من سلاح حين، السلاح الأول: السلاح المعنوي، وهم
يقولون الآن دعوا هذا السلاح المعنوي جانباً! وخذوا بالسلاح المادي! ثمّ، لا سلاح
مادي!! لأن هذا غير مستطاع بالنسبة للأوضاع التي نُحكم بها الآن؛ ليس فقط من
الكفار المحيطين بنا من كل جانب؛ بل ومن بعض الحكام الذين يحكموننا! فنحن لا
نستطيع اليوم رغم أنوفنا أن نأخذ بالاستعداد بالسلاح المادي هذا لا نستطيعه.
فنقول:
نريد نحارب بالسلاح المادي! وهذا لا سبيل إليه، والسلاح المعنوي الذي هو بأيدينا {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19] العلم ثم العمل في حدود ما نستطيع، هذا نقول بكل
بساطة متناهية دعوا هذا جانباً! هذا مستطاع ونؤمر بتركه جانباً! وذلك غير مستطاع. فنقول:
يجب أن نحارب!! وبماذا نحارب؟! خسرنا السلاحين معاً؛ السلاح المعنوي العلمي نقول
نؤجله! لأنه ليس هذا وقته وزمانه!! السلاح المادي لا نستطيعه فبقينا خراباً يباباً
ضعفاء في السلاحين المعنوي والمادي.
إذا
رجعنا إلى العهد الأول الأنور؛ وهو عهد الرسول - عليه السلام - الأول، هل كان عنده
سلاح مادي؟ الجواب، لا. بماذا إذاً كان مفتاح النصر؟ السلاح المادي أم السلاح
المعنوي؟ لاشك أنه السلاح المعنوي، وبه بدأت الدعوة في مثل تلك الآية {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}
إذاً العلم- قبل كل شيء إذاً بالإسلام قبل كل شيء ثم تطبيق هذا الإسلام في حدود ما
نستطيع.
نستطيع
أن نعرف العقيدة الإسلامية -الصحيحة طبعاً- نستطيع أن نعرف العبادات الإسلامية،
نستطيع أن نعرف الأحكام الإسلامية، نستطيع أن نعرف السلوك الإسلامي، هذه الأشياء
كلها مع أنها مستطاعة فجماهير المسلمين بأحزابهم وتكتلاتهم هم معرضون عنها؛ ثم
نرفع أصواتنا عاليةً نريد الجهاد! أين الجهاد؟! مادام السلاح الأول مفقود والسلاح
الثاني غير موجود بأيدينا؟!!
نحن
لو وجدنا اليوم جماعة من المسلمين متكتلين حقاً على الإسلام الصحيح وطبقوه تطبيقاً
صحيحاً، لكن لا سلاح مادي عندهم؛ هؤلاء يأتيهم أمره تعالى في الآية المعروفة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن
دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] لو كان
عندنا السلاح الأول المعنوي؛ فنحن مخاطبون بهذا الإعداد المادي. فهل نحارب إذا لم
يكن عندنا إعداد مادي؟! الجواب: لا. لأننا لم نحقق هذه الآية التي تأمرنا بالإعداد
المادي؛ فما بالنا، كيف نستطيع أن نحارب ونحن مفلسون من السلاحين المعنوي والمادي؟!
المادي الآن لا نستطيعه، المعنوي نستطيعه؛ إذاً {لاَ
يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]
فالذي نستطيعه الآن هو العلم النافع والعمل الصالح.
لعلي
أطلت في هذا الجواب أكثر من اللازم، لكني أنا ألخص الآن فأقول:
ليست
مشكلة المسلمين في فلسطين فقط - يا إخواننا-، لأنه مع الأسف الشديد من جملة
الانحراف التي تصيب المسلمين اليوم؛ أنهم يخالفون علمهم عملاً! حينما نتكلم عن
الإسلام وعن الوطن الإسلامي، نقول: كل البلاد الإسلامية هي وطن لكل مسلم؛ ما في
فرق بين عربي وعجمي، ما في فرق بين حجازي وأردني ومصري ... وإلى آخره، لكن هذه
الفروق العملية موجودة، هذه الفروق عمليه موجودة! ليس فقط سياسياً؛ هذا غير مستغرب
أبداً، لكن موجودة حتى عند الإسلاميين! مثلاً تجد بعض الدعاة الإسلاميين يهتمون
بفلسطين؛ ثم لا يهمهم ما يصيب المسلمين الآخرين في البلاد الأخرى. مثلاً: حينما
كانت الحرب قائمة بين المسلمين الأفغان وبين السوفييت وأذنابهم من الشيوعيين،
لماذا؟! لأن هؤلاء مثلاً ليسوا سوريين! مصرين! أو ما شابه ذلك. إذاً المشكلة الآن
ليست محصورة في فلسطين فقط؛ بل تعدت إلى بلاد إسلامية كثيرة فكيف نعالج هذه
المشكلة العامة؟ بالقوتين المعنوية والمادية، بماذا نبدأ؟
نبدأ
قبل كل شيء بالأهم فالأهم وبخاصة إذا كان الأهم ميسوراً؛ وهو السلاح المعنوي فهم
الإسلام فهماً صحيحاً وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً ثم السلاح المادي إذا كان ميسوراً. اليوم
- مع الأسف الشديد؛ الذي وقع في أفغانستان .. الأسلحة التي حارب المسلمون الأسلحة
المادية التي حارب المسلمون بها الشيوعيين هل كانت أسلحة إسلامية؟ الجواب: لا.
كانت
أسلحة غربية، إذا نحن الآن من ناحية السلاح المادي مستعبدون؛ لو أردنا أن نحارب
وكنا أقوياء من حيث القوة المعنوية، إذا أردنا أن نحارب بالسلاح المادي فنحن بحاجة
إلى أن نستورد هذا السلاح؛ إما بالثمن وإما بالمنحة أو شيء مقابل شيء! كما تعلمون
السياسة الغربية اليوم على حدّ المثل العامّي: «حكّلّي لحكّلّك»! يعني أي دوله
الآن حتى بالثمن لا تبيعك السلاح إلا مقابل تنازلات. تتنازل أنت أيها الشعب المسلم
مقابل السلاح الذي تدفع ثمنه أيضاً فإذاً يا إخواننا الأمر ليس كما نتصور عبارة عن
حماسات وحرارات الشباب وثورات كرغوة الصابون تثور ثم تخور في أرضها لا أثر لها
إطلاقاً!.
أخيراً
أٌقول {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
إلى آخر الآية.
لكن
أكرر أن العمل لا ينفع إلا إذا كان مقروناً بالعلم النافع؛ والعلم النافع إنما هو
قال الله قال رسول الله كما قال ابن القيم - رحمه الله -:
العلم
قال الله قال رسولـــــهُ *** قال الصحابةُ ليس بالتمويــــهِ
ما
العلمُ نصبَكَ للخلاف سفاهــةً *** بين الرسولِ وبين قولِ سفيــــهِ
كلا
ولا جحد الصفات ونفيــها *** حذرا من التعطيل التشويـــــهِ
مصيبة
العالم الإسلامي مصيبة أخطر - وقد يستنكر بعضكم هذا الذي أقوله! - مصيبة العالم
الإسلامي اليوم أخطر من احتلال اليهود لفلسطين! مصيبة العالم الإسلامي اليوم أنهم
ضلـوا سواء السبيل. أنهم ما عرفوا الإسلام الذي به تتحقق سعادة الدنيا والآخرة
معاً. وإذا عاش المسلمون في بعض الظروف أذلاء مضطهدين من الكفار والمشركين وقتّلوا
وصلّبوا ثم ماتوا فلا شك أنهم ماتوا سعداء ولو عاشوا في الدنيا أذلاء مضطهدين. أما
من عاش عزيزاً في الدنيا وهو بعيد عن فهم الإسلام كما أراد الله - عز وجل - ورسوله
فهو سيموت شقياً وإن عاش سعيداً في الظاهر.
إذاً
بارك الله فيكم: العلاج هو فرّوا إلى الله! العلاج فرّوا إلى الله! فرّوا إلى الله
تعني أفهموا ما قال الله وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واعملوا بما قال
الله وما قال رسول الله. وبهذا أنهي هذا الجواب.
وصلى الله على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
التعصب للأحزاب و الطوائف كما يراها المحدث محمد ناصر الدين الألباني
التعصب
للأحزاب والطوائف لم يستخدم الشيخ الألباني لفظ التحزب وإنما استخدم لفظ (التكتل)
بديلاً عنه، حيث يعني بالتكتل خلاف ما يعنيه غيره، إلا أنه أوضح أن هذا اللفظ
(التكتل) يعني عند غيره لفظ (التحزب).
وقال الشيخ:
«إن الهدف الوحيد من هذا التكتل هو تجميع المسلمين كلهم على الكتاب والسنة. واستدل
بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وقول النبي -صلى
الله عليه وسلم-: «يد الله مع الجماعة » وكما
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية»
ويقصد الشيخ
بالتكتل قوله: نحن نريد بالتكتل أن يتعاون المسلمون على فهم الكتاب والسنة وعلى
تطبيقه في حدود استطاعتهم ونريد من هذه الكلمة ما يراد من كلمة الحزبية في العصر
الحاضر.
سلبيات التعصب للأحزاب و الطوائف:
يذكر الشيخ الألباني العديد من سلبيات التحزب ويحث
المسلمين على تجنب هذه السلبيات قائلاً: «إن الإسلام يحارب هذا التفرق الذي ينافي
التكتل، ولكن التكتل ينافي التحزب أيضاً، لأن التحزب يعني التعصب لطائفة من
الطوائف الإسلامية ضد الطوائف الأخرى، ولو كانوا على الحق فيما هم سائرون فيه»
ونذكر جملة من هذه السلبيات:
1- معاداة من لا ينتمي للحزب: يبين الشيخ الألباني أن من
آثار سلبيات التعصب للطوائف والأحزاب أنهم يعادون من لم يكن في تكتلهم وفي منهجهم
ولو كان أخاً مسلماً صالحاً، فهم يعادونه لأنه لم ينضم لهذا التكتل الخاص أو
التحزب الخاص.
2- الهيمنة الفكرية و عدم إعطاء الحرية لأفراد الحزب: قال
الشيخ الألباني: قد وصل بهم أن حزباً منهم يفرض على كل فرد من أفراد الحزب أن
يتبنوا أي رأي يتبناه الحزب مهما كان هذا الرأي لا قيمة له من الناحية الإسلامية، وإذا
لم يقتنع ذلك الفرد برأي من آراء الحزب فُصل ولم يعتبر من هذا الحزب الذين يقولون
أنه حزب إسلامي، ومعناه أنهم يعودون إلى ما يشبه اليهود والنصارى في اتباعهم
لأحبارهم ورهبانهم في تحريمهم وتحليلهم. فقد قال الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً
مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ
إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
[التوبة:31].
سبب التعصب للأحزاب والطوائف
يرى الشيخ الألباني أن هناك سبباً رئيساً أدى إلى ظهور
التعصب للأحزاب والجماعات والطوائف يتمثل في عدم تبني الكتاب والسنة ونهج السلف
الصالح نظاماً ومنهاجاً عملياً.
وقد أوضح الشيخ هذا الأصل في حديثه عن الأحزاب الموجودة
اليوم أو الجماعات القائمة على الأرض الإسلامية فقد تعددت مناهجها واختلفت نظمها
اختلافاً كبيراً.
بين الشيخ - رحمه الله - أن «لفظة الأحزاب ليس على منهج
الإسلام الذي قال ربنا - عز وجل -: {مُنِيبِينَ
إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} [الروم:31- 32].
وقال في آية أخرى أن حزباً واحداً هو الذي يكون الحزب
الناجح والحزب الفالح وهو قوله - تبارك وتعالى -: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[الأنعام:153]، فالأحزاب كثيرة والسبل عديدة، والآيتان تلتقيان في ذم التعدد
الحزبي والتعدد الطرقي، ويبين ربنا - عز وجل - في كل منهما بصراحة أن الطريقة
الموصلة إلى الله - عز وجل - إنما هو طريق واحد.
ولقد زاد النبي -صلى الله عليه وسلم- كغالب عادته مع
كثير من آيات ربه، فزاد بياناً تلك الآيتان بمثل قوله -صلى الله عليه وسلم- وقد
كان جالساً بين أصحابه جلسته الدالة على تواضعه، كان جالساً على الأرض فخط عليها
خطاً مستقيماً وخط حول هذا الخط المستقيم خطوطاً قصيرة، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، ثم قال وهو يمر أصبعه
الشريفة على الخط المستقيم: «هذا صراط الله وهذه طرق على رأس كل طريق منها شيطان
يدعوا الناس إليه».
أما الحديث الآخر وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «تفرقت
اليهود على إحدى وسبعين وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة و ستفترق أمتي على
ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا من هي يا رسول الله؟ قال هي
الجماعة» وفي رواية أخرى «ما أنا عليه وأصحابي».
وهذا الحديث يؤكد أن النجاة لا تكون بالتفرق والتحزب إلى
أحزاب وشيع وطرق شتى وإنما بالانتماء إلى طريق واحدة وبسلوك طريق واحدة ألا وهو
طريق محمد -صلى الله عليه وسلم- .
لا يبقى بعد ذلك إلا حزب واحد أثنى عليه الله - عز وجل -
في القرآن: {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]
والذي يرغب أن يكون في هذا الحزب الذي كتب له الفلاح في الدنيا والآخرة، فلا يمكن
أن يحقق ذلك في نفسه إلا إذا عرف علامة هذه الحزب ونظامه ومنهجه».
ويبين الشيخ سمات هذا الحزب فيقول: إذا كان الطريق
الموصل إلى تحقيق هذا الحزب واحداً فلا بد كذلك أن يكون المنهج واحداً. فإذا تعددت
المناهج لتلك الجماعات أو الطوائف والأحزاب، فلا شك أن التعدد لهذه المناهج فرع
لتعدد الأحزاب و الجماعات.
وبين الشيخ - رحمه الله - أن قوله النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (ما أنا عليه وأصحابي) في وصفه للفرقة الناجية في غاية الأهمية، وأن سبيل
هذه الفرقة الناجية ليس ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فحسب بل إضافة إلى
ذلك ما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم.
سبل علاج التعصب للأحزاب والطوائف والجماعات:
وجد الباحث مجموعة من آراء الشيخ حول علاج هذا التعصب
للأحزاب والجماعات والطوائف، وكانت هذه الآراء على النحو التالي:
1- أن يقوم على هذا التكتل مجموعة من العلماء:
يقول الشيخ ناصر الدين -رحمه الله- : مشكلة أي تكتل في العالم
الإسلامي هو فقدهم للعلماء الكثيرين، فلا يكفي واحد أو اثنان أو ثلاثة أو خمسة أو
عشرة، وإنما يجب أن يكون هناك العشرات من العلماء و ذوي الاختصاصات المختلفة.
فالتكتل الإسلامي يحتاج إلى أناس قد أوتوا حظاً من
العلوم الضرورية. فهو (التكتل) يحتاج إلى أفراد مختلفين من كافة الاختصاصات. ينبغي
أن لا نتصور أن من كان خطيباً مفوهاً أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، كما لا ينبغي
أن نتصور العكس تماماً، أن من كان عالماً بالكتاب والسنة أن يكون خطيباً مفوهاً،
أو أن يكون قد جمع العلوم كلها. أن يتوفر في شخص واحد كل المتطلبات التي تتطلبها
الدعوة فهناك أفراد قليلون جداً جداً يعدون على الأصابع، وعلى رأسهم شيخ الإسلام
ابن تيمية. فهذا النقص الموجود في مجموع الأفراد إنما يكون بتكتل هؤلاء الأفراد
وتطعيم كل علم بالآخر مما قام في مجموعة من الأفراد.
2- أن يكون هذا التكتل قائماً على الكتاب والسنة:
فيرى الشيخ الألباني أنه بعد تجمّع هؤلاء العلماء من
كافة الاختصاصات فإن أول أمر يجب عليهم أن يهتموا به عند إقامة أي تكتل هو «أن
يكون هذا التكتل قائماً على الكتاب والسنة». فقال - رحمه الله -: علينا أن نسعى
لإيجاد هؤلاء الأشخاص ثم أن يتكتلوا على عقيدة وعلى كلمة سواء وأن يسعوا في تطبيق
هذا المنهج».
3- أن يعطي هذا التكتل الحرية العلمية للأفراد:
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -:
«ينبغي على أي تكتل إسلامي صحيح أن يعطي للأفراد حريتهم العلمية. فلا مانع أن يكون
في ذلك التكتل الإسلامي شخصان أحدهما يخالف الآخر. لأننا نعتقد (أن كل خير في
اتباع من سلف، و كل شر في ابتداع من خلف), فقد كان في السلف الأول نوع من الاختلاف
في بعض المسائل الشرعية. فما كان ذلك بالذي يلزم الحاكم المسلم بأن يفرض رأيه على
كل مسلم يتبناه ولو كان مخالفاً لرأي الفرد».
4- أن يفهم أفراد هذا التكتل الإسلام فهماً صحيحاً
ويربوا عليه:
بين الشيخ الألباني أهمية أن يولي هذا التكتل اهتماماً
كبيراً بأن يعمل على تكتيل جماعة من المسلمين يفهمون الإسلام فهماً صحيحاً في كل
فروعه وأصوله ويربون أنفسهم على ذلك كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول
بعثته.
5- الاهتمام الأكبر بالنوع لا بالعدد:
أكد الشيخ الألباني على أن يهتم هذا التكتل بالأفراد وقد
عاب الشيخ - رحمه الله - على بعض الأحزاب و التكتلات التي تجمع بين السني والبدعي،
وبين السلفي والخلفي. بل قد يكون في بعضهم من هو ليس من أهل السنة والجماعة.
لذا فعلى القائمين على التكتلات الإسلامية أن يهتموا بأن
يكون أفراد هذا التكتل من أهل السنة والجماعة أصحاب المنهج السلفي حيث قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان الفرقة الناجية: «إن بني إسرائيل تفرقت على
ثنتين وسبعين ملة, وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة
قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي».
فتوى الألباني رحمه الله في المقاطعة
قال فضيلة الشيخ: مشهور بن حسن آل سلمان
وجدت كلمة أو سؤالاً- لشيخنا الألباني - رحمه الله -،
فهو من ضمن سلسلة الهدى والنور في شريط رقم (190)، يُسئل الشيخ - رحمه الله - في
وقت اعتداء بلغاريا على المسلمين، دولة بلغاريا لمّا اعتدت على المسلمين الذين هم
فيها، فسئل الشيخ في الشريط عن حكم أكل اللحم البلغاري، أذكر لكم جوابه بالنصّ،
يقول الشيخ ما نصّه:
«أنا حقيقة أتعجب من الناس، اللحم البلغاري بلينا به منذ
سنين طويلة كل هذه السنين أما آن للمسلمين أن يفهموا شو حكم هذا اللحم البلغاري؟
أمر عجيب! فأنا أقول لابد أنكم سمعتم إذا كنتم في شك وفي ريب من أنّ هذه الذبائح
تذبح على الطريقة الإسلامية، أو لا تذبح على الطريقة الإسلامية، فلستم في شك بأنهم
يذبحون إخواننا المسلمين، هناك الأتراك المقيمين منذ زمن طويل يذبحونهم ذبح
النعاج، فلو كان البلغاريون يذبحون هذه الذبائح التي نستوردها منهم ذبحاً شرعيّاً
حقيقةً أنا أقول: لا يجوز لنا أن تستورده بل يجب علينا أن نقاطعهم حتى يتراجعوا عن
سفك دماء إخواننا المسلمين هناك، فسبحان الله مات شعور الأخوة التي وصفها الرسول -صلى
الله عليه وسلم- بأنها كالجسد الواحد: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم كمثل
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» لم
يعد المسلمون يحسون بآلام إخوانهم فانقطعت الصلات الإسلامية بينهم، ولذلك همهم
السؤال أيجوز أكل اللحم البلغاري؟!
لك يا أخي أنت عرفت إن البلغار يذبحون المسلمين هناك،
ولا فرق بين مسلم عربي ومسلم تركي ومسلم أفغاني إلى آخره، والأمر كما قال الله
تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فإذا كنا
إخوانا فيجب أن يغار بعضنا على بعض، ويحزن بعضنا لبعض، ولا نهتم بالمأكل والمشرب
فقط»
وأتمّم كلامه يقول: «فلو فرضنا أن إنساناً ما اقتنع بأن
اللحم البلغاري فطيسة..حكمها فطيسة؛ لأنها تقتل ولا تذبح، لا نستطيع أن نقنع الناس
بكل رأي؛ لأن الناس لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك -كما جاء في القرآن الكريم-،
فإذا كنّا لا نستطيع أن نقنع الناس بأنّ هذه اللحوم التي تأتينا من بلغاريا هي
حكمها كالميتة، لكن ألا يعلمون أن هؤلاء البلغار يذبحون إخواننا المسلمين هناك،
أمّا يكفي هذا الطغيان وهذا الاعتداء الأليم على إخواننا من المسلمين هناك أن
يصرفنا عن اللحم البلغاري ولو كان حلالاً، هذا يكفي، وهذه ذكرى والذكرى تنفع
المؤمنين» انتهى كلام الشيخ - رحمه الله - تعالى- بحروفه.
من نفائس أقوال
شيخنا الألباني رحمه الله
·
«لو لم يكن
للشيخ حسن البنا - رحمه الله - من الفضل على الشباب المسلم سوى أنه أخرجهم من دور
الملاهي والسينما والمقاهي وجمعهم على دعوة الإخوان المسلمين لكفاه فضلاً وشرفاً».
·
«أنا أعلّم
ولا أربّي».
·
واعلم أن ورود
مثل هذه الأقوال المخالفة للسنة والقياس الصحيح معاً في بعض المذاهب ممَّا يوجب
على المسلم البصير في دينه، الرحيم بنفْسه، أن لا يُسلِم قيادة عقله! وتفكيره!!
وعقيدته!! لغير معصوم، مهما كان شأنه في العلم والتقوى والصلاح، بل عليه أن يأخذ
من حيث أخذوا: من الكتاب والسنَّة إن كان أهلاً لذلك، وإلا سأل المتأهلين لذلك،
والله تعالى يقول:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
[النحل:43]
·
وأما ما أثاره
في هذه الأيام أحد إخواننا الدعاة من التفريق بين (الطائفة المنصورة) و(الفرقة
الناجية)، فهو رأي له، ولا أراه بعيداً عن الصواب، فقد تقدَّم هناك النقل عن أئمة
الحديث في تفسير الطائفة المنصورة أنهم أهل العلم وأصحاب الآثار، وبالضرورة تعلم
أنه ليس كل من كان من الفرقة الناجية هو من أهل العلم بعامَّة، بلْه من أهل العلم
بالحديث بخاصَّة، ألا ترى أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الذين يمثلون
الفرقة الناجية، ولذلك أُمرنا بأن نتمسك بكما كانوا عليه، ومع ذلك فلم يكونوا
جميعاً علماء، بل كان جمهورهم تابعاً لعلمائهم؟ فبيْن (الطائفة) و (الفِرقة) عمومٌ
وخصوص ظاهران، ولكنِّي مع ذلك لا أرى كبير فائدة من الأخذ والرد في هذه القضية
حرصاً على الدعوة ووحدة الكلمة.
·
فساد مقولة
«ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك!»
قال الشيخ
الألباني:
ومما
ينكر في هذا الحديث قوله: ما أبكي شوقاً إلى جنتك ولا خوفاً من النار! فإنها فلسفة
صوفية اشتهرت بها «رابعة العدوية» إن صحَّ ذلك عنها، فقد ذكروا أنها كانت تقول في
مناجاتها «ربِّ ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك»، وهذا كلام لا يصدر إلا
ممن لم يعرف الله- تبارك وتعالى -حقَّ معرفته، ولا شعر بعظمته وجلاله، ولا بجوده
وكرمه، وإلا لتعبَّده طمعاً فيما عنده من نعيم مقيم، ومن ذلك رؤيته- تبارك وتعالى
-، وخوفاً مما أعدَّه للعصاة والكفار من الجحيم والعذاب الأليم، ومن ذلك حرمانهم
النظر إليه كما قال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، ولذلك كان الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام وهم العارفون بالله حقّاً لا يناجونه بمثل هذه الكلمات الخيالية،
بل يعبدونه طمعاً في جنَّته، وكيف لا وفيها أعلى ما تسمو إليه النفس المؤمنة، وهو
النظر إليه - سبحانه -، ورهبةً من ناره، ولِمَ لا وذلك يستلزم حرمانهم من ذلك،
ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر نخبةً من الأنبياء: {إِنَّهُمْ
كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا
لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، ولذلك كان نبيُّنا محمَّد -صلى الله عليه
وسلم- أخشى الناس لله، كما ثبت في غير ما حديث صحيح عنه.
هذه
كلمة سريعة حول تلك الجملة العدوية، التي افتتن بها كثير من الخاصة فضلاً عن
العامة، وهي في الواقع {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء} [النور:39]، وكنتُ قرأتُ حولها
بحثاً فيَّاضاً ممتعاً في «تفسير العلاَّمة ابن باديس» فليراجعه من شاء زيادة بيان.
·
(هل يجبر
الزوج زوجته على ما يراه في مسائل الخلاف؟ )
سئل شيخنا
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -:
إذا
اختلفت المرأة مع زوجها في رأي فقهي مثل السفر بدون محرم فهو يرى أن مكة ليست سفر،
وهي ترى أنها سفر، فهل له أن يجبرها على رأي فقهي عموما؟
فأجاب:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء}
[النساء:34]، ففي مثل هذه المسألة لابد أن ينفذ رأي أحد الزوجين، لا بد من أن ينفذ
أو أن يطبق رأي أحد الزوجين، إما الزوج، وإما الزوجة، ولا شك ولا ريب أن الرجل
مادام أن الله - عز وجل - فرض على المرأة أن تطيعه فلا عبرة برأيها- والحالة هذه-
وعليها أن تطيعه، ولكن قبل ذلك عليهما أن يتطاوعا وأن يتفاهما، فإذا وصل الأمر إلى
النقطة التي جاء السؤال عنها، فالجواب أنها يجب أن تطيعه وألا تخالفه.
الحياة
الاجتماعية للشيخ
الشيخ
الألباني تزوج أربع نساء، ماتت الأولى منهن، وطلق الثانية، وخالعته الثالثة، وبقيت
عنده واحدة والتي مات عنها وكنيتها «أم الفضل»، وليس له منها ولد.
قال الشيخ متحدثا عن نفسه فى السلسلة
الضعيفة ( 1/629/طبعة المعارف): وإنّ من توفيق الله عز وجل إياي، أن ألهمني أن
أُعَبِّدَ له أولادي كلهم، وهم عبد الرحمن، وعبد اللّطيف، وعبد الرزاق من زوجتي
الأولى رحمها الله تعالى. وعبد المصور، وعبد الأعلى، وعبد المهيمن من زوجتي
الأخرى، والاسم الرابع «عبد المصور» ما أظن أنّ احداً سبقني إليه على كثرة ما وقفت
عليه من الأسماء في كتب الرجال والرواة، أسأل الله تعالى أن يزيدني توفيقاً، وأن
يبارك في أهلي.
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا
مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً} [الفرقان:74].
ثمّ رزقت سنة (1383هـ) وأنا في المدينة
المنورة غلاماً، فسميته (محمّداً) ذكرى مدينته -صلى الله عليه وسلم-، عملاً بقوله:
«تسموا باسمي، ولا تُكنوا بكنيتي»
آخر وصية للعلامة المحدث
أوصي
زوجتي وأولادي وأصدقائي وكل محب لي إذا بلغه وفاتي أن يدعو لي بالمغفرة والرحمة
-أولاً- وألا يبكون علي نياحة أو بصوت مرتفع.
وثانياً:
أن يعجلوا بدفني، ولا يخبروا من أقاربي وإخواني إلا بقدر ما يحصل بهم
واجب تجهيزي، وأن يتولى غسلي (عزت خضر أبو عبد الله) جاري وصديقي المخلص، ومن
يختاره -هو- لإعانته على ذلك.
وثالثاً:
أختار الدفن في أقرب مكان، لكي لا يضطر من يحمل جنازتي إلى وضعها في السيارة،
وبالتالي يركب المشيعون سياراتهم، وأن يكون القبر في مقبره قديمة يغلب على الظن
أنها سوف لا تنبش.
وعلى
من كان في البلد الذي أموت فيه ألا يخبروا من كان خارجها من أولادي - فضلاً عن غيرهم-
إلا بعد تشييعي، حتى لا تتغلب العواطف، وتعمل عملها، فيكون ذلك سبباً لتأخير جنازتي.
سائلاً
المولى أن ألقاه وقد غفر لي ذنوبي ما قدمت وما أخرت.
وأوصي
بمكتبتي -كلها- سواء ما كان منها مطبوعاً، أو تصويراً، أو مخطوطاً -بخطي أو بخط
غيري- لمكتبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، لأن لي فيها ذكريات حسنة في
الدعوة للكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح -يوم كنت مدرساً فيها-.
راجياً
من الله تعالى أن ينفع بها روادها، كما نفع بصاحبها -يومئذ- طلابها، وأن
ينفعني بهم وبإخلاصهم ودعواتهم.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ
صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي
مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]
وفاته
رحمه الله
أصابت الشيخ أواخر حياته أمراض مؤلمة، نزل وزنه بسببها
إلى أن وصل يوم وفاته إلى أقل من 30 كيلو جرام.
وقد أكرمه الله بصفاء ذهنه وعدم تخليط عقله، وكان يعرف
زواره؛ بعضهم بأسمائهم، وبعضهم بصورهم وأشكالهم.
وقد كان يبذل جهداً كبيراً في الكلام وكان أغلب وقته في
الفراش.
وكان - رحمه الله - لا يهدأ في أوقات القدرة عن البحث
والمطالعة وإذا لم يستطع ذلك أمر بعض أبنائه أو من عنده بأن يحضر له كتاباً معيناً
ويقرأ منه.
وهكذا قضى - رحمه الله - أكثر من ستين سنة بين كتب أهل
العلم دراسة وتدريساً، علماً وتعليماً، إلى آخر أيام حياته.
فما أحلاها من حياة وما أكرمها من أيام، وما أجملها من
سنوات، وما أغلاها من لحظات تلك التي قضاها إمامنا وشيخنا غفر الله له، وألحقنا به
على خير.
توفي
العلامة الألباني قبيل غروب يوم السبت الثاني والعشرين من جُمادى الآخرة (1420هـ)،
الموافق الثاني من تشرين أول (1999م)، عن عمر يناهز الثمانين عاماً، في مدينة
عمَّان، العاصمة الأردنية، وصُلِّي عليه بعد صلاة العشاء ودُفن في مقبرة قديمة في
حيِّ هملان. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد
عجل بدفن الشيخ لأمرين أثنين :
«الأول»:
تنفيذ وصيته كما أمر.
«الثاني»:
الأيام التي مر بها موت الشيخ رحمه الله والتي تلت هذه الأيام كانت شديدة الحرارة،
فخشي أنه لو تأخر بدفنه أن يقع بعض الأضرار أو المفاسد على الناس الذين
يأتون لتشييع جنازته -رحمه الله- فلذلك أوثر أن يكون دفنه سريعاً.
بالرغم
من عدم إعلام أحد عن وفاة الشيخ إلا المقربين منهم حتى يعينوا على تجهيزه ودفنه،
بالإضافه إلى قصر الفترة ما بين وفاة الشيخ ودفنه، إلا أن الآف المصلين قد حضروا
صلاة جنازته حيث تداعى الناس بأن يعلم كل منهم أخاه.
- الألباني محدث العصر وناصر السنة أحمد بن محمود الداهن
- كتاب (محمد ناصر
الدِّين الألباني، محدِّث العصر وناصر السُّنَّة)، تأليف:إبراهيم محمَّد العلي،
وهو الكتاب رقم (13) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف
بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الثانية، 1424هـ - 2003م
- من أعلام الدعوة
والحركة الإسلامية المعاصرة ( 19) محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر..وناصر
السنة المستشار عبد الله
- وقفات في حياة
العلامة محمد ناصر الدين الألبانى
شيرين راشد
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com