في بلادنا العربية تجد العديد
من العادات التي تسربت إلينا رغما عنا أو على غفلة منا، وما استفقنا إلا ووجدنا أنفسنا
-نحن العرب- نرددها دون أن نشعر .. فما إن تشتري غرضا أو تبتاع منتجا إلا والبائع
يحلف لك: «والله مستورد» وهذا القسم كفبل بأن يرضي قناعتك بأنه جيد أو ممتاز، في
حين أن الدعايات الصاخبة تملأ الآذان صباح مساء بالدعوة للمنتج المحلي، لكن واقع
الحال أننا لا نرضى إلا بما هو مستورد.
قد يدعي البعض أنها «عقدة
الخواجة» لكنها دعوى ساقطة لا تساوي المداد الذي كتبت به، فالمنتج المستورد غالبا
ما يفوق المنتج المحلي الذي يبدو أمامه بدائيا لأبعد غاية.
وبعيدا عن ضجيج شعارات العروبة
والقومية والوطنية .. وفي لحظات من الشفافية والتفكير المتريث لأحوالنا لا يسع
المنصف إلا أن يعترف بأننا صرنا مستهلكون لا منتجون، والركب العالمي تقدم كثيرا
كثيرا كثيرا حتى بات لا يدركه النظر العربي.
فالعرب يا سادة لا يملكون سيارة
ولا طيارة ولا عبارة ولا قاطرة .. كل شيء من حولي صناعة مستوردة، الاب توب الذي
أكتب عليه، والنظارة التي أرى بها، والملابس التي أرتديها، والحذاء الذي أنتعله،
حتى كوب الشاي الذي أحتسيه الآن، والمنظر
الطبيعي المعلق على جدار الغرفة.
من
الصعب أن تعيش على هامش الحياة، ومن الأسى أن تجد أمتي عالة على العالم ولا تشكل
رقما في المعادلة الدولية .. حقا إنها كارثة أن يكثر المستهلين ويتلاشى المنتجين
في بلاد العروبة، ويملك القوت العدو ويبيع السلاح الحاقد ويصنع الدواء من لا يرقب
في مريضنا إلا ولا ذمة.
إنها
«ثقافة الاستهلاك»
التي بدأت تتفشى في كثير من مجتمعاتنا التي ابتاعتها من غيرها المنتجة نظير حريتها
وكرامتها وسيادتها .. ثقافة الدون من الحياة، وإيثار الاسترخاء على الجد وعلو
الهمة، وإحلال مظهر الأجساد المترهلة عوضا عن الرشاقة والفتوة.
قال
الإمام أبو العباس ابن تيمية في (الحموية)، وقبله بنحوِهِ أبو حامدٍ الغزالي في
(ميزان العمل) رحمهما الله: "إنما يفسد الناسَ نصفُ متكلمٍ ونصف فقيهٍ ونصف
نحويٍ ونصف طبيبٍ. هذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأديان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد
الأبدان". لئن قيل ذلك عن الأنصافِ وإفسادهِم فماذا عن الأصفار؟
إن
«ثقافة الاستهلاك»
ثقافة إتكالية انهزامية تبتلع الثروة وتفقد الحس بقيمة الأشياء وتجعل المرء ينشغل
بالمظهر عن الجوهر عندما يصير الإنفاق على الكماليات هدفا ورسالة ومظهرا اجتماعيا
يبذل فيه الغالي والنفيس. بل ربما تصل هذه الثقافة إلى حد الهوس أو المرض أو تدفع
صاحبها لأن يمد يده إلى الحرام ليشبع نهمته ويرضي غريزته. وكما يقول (هارتلى
جراتان): "المستهلك مخلوق معَقَّد يعيش في عالم معَقَّد".
كما
يرى المحللون أن استهلاك الأشياء بات أسهل وأقرب، وأن الاستهلاك المفرط يخمد العقل
ويفقده القدرة على التفاعل والتفكير والتحليل، حيث يتعامل الذهن مع صنوف المنتجات
باستسلام، بخلاف الإنتاج الذي يتطلب اتخاذ القرارات والمفاضلة بين الاختيارات
والتجريب والمحاولة بما يقتضيها النجاح والفشل، وهذا من شأنه أن يفجر الطاقات
ويثري الإبداعات.
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق