تنبثق قوة الإعلام من تأثيره
على بلورة «الفكر»
الذي هو المحرك لكل سلوكياتنا وتصرفاتنا، فبإمكان الآلة الإعلامية التي تعمل صباح
مساء من تشكيل التصورات وتعديل القَناعات، بصرف النظر عن كونه تغييرا إيجابيا أو
سلبيا، مقبولا أو مرفوضا، نافعا أو ضارا، محبوبا أو مكروها.
ويعتبر التأثير المعرفي للإعلام
أعمق أثرا من التأثير السلوكي، لأن التأثير المعرفي بعيد الجذور يشمل الاعتقادات
والآراء والهويات .. تلك التي تتأصل بدواخلنا وتتحكم بسلوكياتنا، بعكس التأثير
السلوكي الذي يضمحل تدريجيا باضمحلال المؤثر، كما يحدث تماما في تخفيضات مواسم
الشراء بالأوكازيونات.
والتأثير الإعلامي خفي في
مضمونه، قوي في محصلته، الأمر الذي يصفه الخبراء بـ «قوة الضغط
الناعمة» التي ترجع سطوتها من قدرة الإعلام على
الاستمالة، والإقناع، والتنوع، والتكرار، والجاذبية، والإبهار، والانفتاح، وإشباع
حاجات المتلقي، وقدرته على التغلغل في حياتنا، ومواكبته للأحداث التي تمر بنا،
ومؤخرا قابليته لتفاعل المتلقي سواء على المواقع الالكترونية أو الاتصالات
الهاتفية المباشرة مع مقدمي البرامج الفضائية.
يقول د. سعيد صيني: "وقد
وجدت دراسة تحليلية غربية أن وسائل الإعلام تدفع الجمهور إلى تبني رأي معين من
خلال إيهام المتلقي بأن موقفها يمثل الرأي العام، فتصفه مثلاً بأنه يمثل «الموقف
الوطني»
أو «الإحساس
العام»
أو أن «معظم
الناس يؤيدون»،
أو من خلال اللجوء إلى التقاليد الاجتماعية، والادّعاء بأن الآراء الأخرى تخالف
تقاليد المجتمع، وأنها آراء شاذة، أو عبر تقديم تفسيرات قانونية اجتهادية لتصبح
أعمال أصحاب الآراء الأخرى وأنشطتهم خروجاً عن القانون، وإن كانت هذه التفسيرات
غير مسلمة وقابلة للنقاش".
ويقول د. محمد الشواف: "ولقد
أدركت الأمم المتقدمة سحر الإعلام وسلطته الضاغطة المؤثرة، فأنفقت الملايين لتحقيق
سياساتها من خلاله، وإقناع الجماهير بشرعية خططها وبرامجها من خلال عملية غسيل
الدماغ الجماعية، وصارت وسائل الإعلام تقوم بجزء من عمل الجيوش، وأصبحت الحروب
الإعلامية تكلف أحياناً أكثر من الحروب التقليدية. ورغم أن الصحافة تسمى السلطة
الرابعة إلا أنها باتت تنافس السلطات الثلاث، بل يتم من خلالها التلاعب بتلك
السلطات، وابتزازها أو الانقلاب عليها أحياناً؛ لأن أجهزة الاستخبارات في كثير من
البلدان صارت هي من يؤسس الصحافة ويوجهها، لتحقق أغراضها من خلالها!!"
أزمات إعلامية
التأثير الجبار والفعال للإعلام
يحتم علينا جميعا التنبه لهذه القدرة الفائقة لأنها قد تحمل في طياتها جنة ونار،
هداية وضلال، حق وباطل .. يتسرب كل هذا الزخم إلى المتلقي في خفاء -ودهاء أحيانا-
لا يتفطن له الكثير، وكما أن قضية التأثير الإعلامي باتت من الحقائق والمسلمات
العالمية التي لا يغفل عنها أحد، ينبغي أيضا أن يصير «الإعلام
المنضبط» شاغلنا
الشاغل، ذاك الإعلام الذي يمدنا بطاقة إيجابية ويحيد كل طاقة سلبية، إعلام يتجاوز
أزماته وخبثه ويقدم لنا ثمرته النافعة اليانعة التي تتناغم مع هويتنا الإسلامية
ومنظومتنا الأخلاقية، وتدفع مسيرتنا نحو الرقي المنشود، وتحبط كل مخططات الأعداء
في مسخ الأفراد وطمس الأمجاد وتأجيج الشهوات.
المصداقية
تأتي «المصداقية» كأحد
أهم الأزمات التي تواجه الإعلام المعاصر، وتكمن خطورتها في اضطرار المتلقي إلى
اللجوء إلى قنوات إعلامية خارجية بحثاً عن الحقيقة، وهذا يمثل بداية الانسلاخ
الثقافي وفقد الثقة في ثقافته المحلية والقائمين على تسيير شئونه، مع سهولة السقوط
تحت تأثير أي إعلام معاد لعقيدته ولوطنه وتراثه الثقافي والحضاري.
الحيادية
باتت «الحيادية» من
أزمات الإعلام، حيث أصبح (الانحياز) السمة الغالبة، وأصبح نقل وتناول الخبر يعتمد
على توجه وميول الوسيلة الإعلامية، وبعيدا عن الواقع والتوصيف الحقيقي .. فجولة
واحدة لتتبع حدث معين في بضعة وسائل إعلامية تجد العجب العجاب حيث يظهر المجرم هنا
بطلا في قناة أخرى، والخاسر رابحا، والأمر العادي عظيما، والشيء العظيم تافها،
وهذه تصف الهبة الشعبية بأنها ثورة وتلك تقول عنها أنه تمرد، وهنا يوصف استلام
الجيش للسلطة على أنه بناء على رغبة الشعب وهناك يوصف على أنه إنقلاب عسكري غاشم ..
كل يوصف حسب الانتماء ونوع التغطية وموقف الوسيلة والقائمين عليها من الحدث،
والغريب في الأمر أن الجميع يدعي المهنية
وإظهار الحقيقة ويتحدث الحيادية وعدم الانحياز، وكما قال الشاعر:
كل يدعي وصلا
بليلى .. وليلى لا تقر لهم بذلك
بل لقد تسربت آفة الانحياز إلى
جمهور المتلقين، وصار تتبع أي قناة أو اختيار مطالعة صحيفة أو تفضيل موقع إلكتروني
مبنيا على القناعات الشخصية، ومقياسا لتوجه الشخص الفكري والأيدلوجي
والسياسي.
بين التربح والرسالة
من أزمات الإعلام الراهنة «طغيان
التربح على الرسالة»
.. وهذا الأمر تسبب في الجري وراء رغبات المتلقي البسيط بتسليط الأضواء على
الغرائب وتأجيج الغرائز لتحقيق أعلى نسبة مشاهدة ومشاركة وبالتالي تدفق الإعلانات
التي تمثل مواردها شريان الحياة بالنسبة للرافد الإعلامي، كل هذا أثر على المحتوى
الإعلامي في ظاهرة يمكن أن يطلق عليها «الانفلات
الإعلامي»
حيث أصبح الدور الدعائي لوسائل الإعلام أكبر من دورها التثقيفي والتنويري، مع عجزها
عن الوفاء بالمعايير المهنية اللازمة، وإدارتها لمصالح نخبة ضيقة، وعدم خضوعها إلي
أي نمط من أنماط التنظيم الذاتي للإعلام أو الرقابة على الأداء وضمان الجودة وغياب
الرسالة الرصينة، وكانت المحصلة تسطيح المتلقين من خلال برامج سطحية تافهة، لا
تهيّج غرائز المتلقين فحسب، ولكن تمسح أدمغتهم، وتجعلهم عالة على مجتمعهم، وربما
معاول لهدم بنيانه.
يقول د. خالد القحص: "يأتي
التمويل للمؤسسات الإعلامية من عدة طرق، أشهرها هو الإعلان التجاري، أو من خلال
جهة رسمية (كحكومة مثلاً). وهناك القنوات المشفرة التي تعتمد على الاشتراكات،
بالإضافة إلى عائدات الرسائل الهاتفية، والتي أضحت مصدراً لا بأس به لتمويل
القنوات الفضائية، وإن كانت مورداً غير ثابت، ذلك أنه مرتبط بمشاركة الجمهور، ولذا
تلجأ بعض القنوات الفضائية إلى إثارة موضوعات حسّاسة اجتماعية أو طائفية أو سياسية
لكي تغري الجمهور بالمشاركة. وهناك طريقة التبرعات وهذه مطبقة في الولايات المتحدة
وبعض الدول الأوروبية حيث يساهم المشاهدون عبر تبرعاتهم لقناة معينة، والتي عادة
ما تكون قناة اجتماعية هادفة، من أمثلتها خدمة التلفاز العام (PBS )"
ويرى الخبراء أن فكرة «الملكية
التعاونية» هي أحد الأفكار المثالية لتحرر الإعلام من سيطرة رأس المال، حيث يقول
عنها الأستاذ محمد جاد: "يقوم هذا النمط على امتلاك عدد كبير جداً من
المساهمين في هذه الوسيلة أرصدة صغيرة، وينتخبون جمعية عمومية، ومجلس إدارة يعبر
عنهم. وهذا النمط من الملكية يحافظ على أداء الوسيلة الإعلامية بمعزل عن التأثر بإستراتيجية
مالك محدد أو عدد قليل من الملاك، كما أن زيادة عدد المالكين مع ازدياد دور
الجمعية العمومية يزيد من مناعة وسائل الإعلام تجاه الضغوط السلطوية.
وتوجد العديد من التطبيقات
الدولية الناجحة في مجال الملكية التعاونية لوسائل الإعلام مثل (وكالة
الاسيوشيتدبرس)، حيث أنها من أكثر وسائل الإعلام محافظة على القيم المهنية والجدوى
الاستثمارية وتعكس مصالح مالكين متنوعين، وترجع ملكية الوكالة إلي مساهمات عدد
كبير من الصحف وقنوات الراديو والتلفزيون، التي تبث أخبار الوكالة وتنشر مادتها
الإعلامية أيضاً من خلالها. وهناك اتجاهاً عالمياً للتوسع في الملكية التعاونية
لوسائل الإعلام، ويتوافق هذا مع إعلان الامم المتحدة عام 2012 العام الدولي
للتعاونيات، دعماً للدور البارز للملكية التعاونية في دعم التنمية".
لقد بات الإعلام صاحب دورا
محوريا لا دورا تجميليا أو هامشيا كما يظن البعض، وأضحى صناعة لها فنونها
ومهاراتها وميزانياتها، بل يعتبر دليلا على التحضر والعصرية ومواكبة التقدم،
والأمة التي لا تضعه في دائرة اهتمامها القصوى حتما سيفوتها القطار.
د/
خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق