يعتبر
دكتور (سيونج يوانج باركر) رئيس مجلس إدارة شركة «كيونو»، ومؤسس شركة طيران «أسيانا» واحدًا من أكثر الأشخاص الناجحين في كوريا، وقد بدأ
والده الطريق؛ كسائق لإحدى سيارات الأجرة، وقرَّر أن يتوسَّع فقام بشراء السيارة
التي يعمل عليها، ثم قام بشراء سيارة أخرى. وعندما بدأ في تنفيذ أحلامه لتوسّعات
أكبر، وبناء ثروة ضخمة، قامت الحكومة بمصادرة كل ما يملكه، وكان ذلك أثناء الحرب
الكورية، ثُمَّ توفّي الرجل بعد ذلك بفترة قصيرة، ورأى دكتور (باركر) ما حدث
لوالده فقرَّر أن يشتري سيَّارة، ويقوم هو بنفسه بالعمل عليها كسائق.
ثم
قام بشراء سيَّارة ثانية، وخصَّصها لأحد أفراد العائلة للعمل عليها، وظلَّ على هذا
المِنْوَال في استِثْمار أرباحه إلى أن كوَّن إمبراطورية اقتصادية، ثُمَّ قرَّر أن
يبدأ في مغامرة جديدة، فاشترى سيارة أتوبيس حتى يمكنه توصيل عدد أكبر من الناس
بطريقة أسرع، وازدهر عمله حتى قام ببناء إمبراطورية أخرى من خلال قافلة الأتوبيسات
التي يَمْلكها، وظلَّ ينتقل ويتقدَّمُ مِنْ نَجاح إلى نجاحٍ أكبر؛ حتى توسَّع
بِدُخوله إلى مجال الطيران، وكوَّن شركة «أسيانا
إير لينز»، وتكبَّد في البداية خسائِرَ ضَخْمةً،
ونصحه المقربون بأن يتركَ هذا المجال؛ خشية أن يَخْسَرَ كُلَّ شيء، ولكنَّهُ
تَجاهَلَ هذه النَّصائح واستمرَّ في مشروعه، وبعد عقباتٍ وَنكساتٍ كثيرةٍ، وخسارات
ماليَّة ضخْمة، حَوّل الوضع، وأصبحت شركة «أسيانا» من الشركات الرابحة التي تدر عائدًا يتعدَّى 20
مليون دولار سنويًّا.
في
مقابلة مع محطة الأخبار التليفزيونية الشهيرة «سي
إن إن» سُئِلَ باركر عن سِرّ نجاحه؟ فكان رده: «الأمانة والانضباط»،
فقد عودت نفسي على الانضباط لأحصل على ما أريد، وأن أخصّص وقتًا للعمل، ووقتًا
للعائِلة، ووقتًا لصِحَّتِي، وأنا أستمتع جدًّا بعملي، وأهدف في كل ما أفعله إلى
الامتياز.
إن المتأمل في هذا الكون الفسيح يرى جليًا كيف أن الخالق
سبحانه وتعالى أبدعه وسيره في نظام دقيق مذهل لا مكان فيه
لفوضى أو اضطراب، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً} [الفرقان: ٢]. ولقد أعطى الله -سبحانه وتعالى- للإنسان الحرية
في أن يتصرف في حياته كما يشاء، ابتلاءً واختبارًا له .. فمن الناس من يوفق لتنظيم
شأنه وتحقيق أهدافه، فيكون بذلك موافقًا لنظام هذا الكون، ومنهم -وهم الأكثر- من
يعيش في فوضى عارمة مخالفًا بذلك ناموس الكون .. فوضى مصيرها الفشل والضياع
والاضطراب وقلة الإنتاج وضآلة العطاء، وربما الغرق في بحور اليأس والإحباط والتوتر
والقلق حين يرى الفوضوي الناجحين من حوله وقد تقدموا نحو أهدافهم بينما ما زال هو لم
يراوح مكانه.
الفوضوية
اضطراب سلوكي مدمر .. فلا هدف محدد، ولا عمل متقن، بل أعمالا ارتجالية، يبدأ
الفوضوي في العمل ثم يتركه، ويشرع في غيره ولا يتمه ثم في آخر ولا يستسيغه ..
وهكذا، فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
ومن أشهر مظاهر الفوضوية في حياتنا: غياب المنهجية في
التصرفات، والاهتمام بالفروع دون الأصول، والانشغال بالمهم
عن الأهم، وإعطاء العمل البسيط فوق ما يستحق من الجهد والوقت .. تضيع الساعات
الطوال دون عمل نافع ومثمر .. قتل الوقت بأمور تافه .. تراكم أكثر من عمل في وقت
واحد .. الفوضوية حتى في الصحبة وسائر العلاقات الاجتماعية.
وجماع
هذا الأمر هو تشوش الذهن، واضطراب التفكير والتخطيط، مع غبش الرؤية المستقبلية،
فما نستحسنه اليوم قد لا يروق لنا الغد، وما نراه الآن صوابا ربما نراه بعد لحظات
خطأ .. إن الفوضوية الفكرية لا تعني ترك أمرا كنا استحسناه ثم اكتشفنا سلبياته
لاحقا، فهذا سلوك لا غبار عليه، لكن الفوضوية التي نعني هي: تغيير المواقف دون
وجود أسباب واضحة لذلك، وإنما هي المزاجية المتقلبة لا أكثر ولا أقل.
الفوضى أضرار وأخطار
· إضاعة
وتبديد الأوقات: والوقت يُسأل عنه الإنسان .. يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن
شبابه فيما أبلاه .. الفوضوي لا يشعر بمرور الزمن، فما إن يهم بأمر إلا وتراه
ينقلب إلى غيره، وهكذا حتى يذهب عمره وهو لم يحصل شيئا، فهو يعيش عقوقا لوقته، كما
قال أحد الحكماء: «من أمضى يوماً من عمره في غير
حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد
عق يومه وظلم نفسه».
· انعدام
أو قلة الإنجازات: الفوضوي قلما ينجز عملا .. يقرأ كتاباً ويقف، يحضِّر درساً
وينقطع، يشرع في الحفظ ويمل .. لا يعرف الإنجاز ولا الثمرة، وحتى إذا أثمرت أفعاله
أحياناً فإنها تكون ثمرات قليلة أو ضعيفة. لذلك فمن أسوأ الآثار وأخطر الأضرار
للفوضى غياب الإنجازات، وقديما قالوا: «العمل
المنظم يتطور ويرتقي، والعمل الفوضوي يتدهور وينهري».
· الإحباط
والفشل: الفوضوي لا يرى ثمارا تشجعه على مواصلة الطريق، ومن ثم تكون نهايته الفتور
والانقطاع، حيث ينظر إلى سنوات عمره التي قضاها في عشوائية، فيشعر أن العمر
قد ضاع، والمستقبل - كما يقولون -: «أصبح في خبر
كان» .. فينتابه الخوف والإحباط، والشعور
بالفشل، والاتهام للنفس، والنقد الشديد لذاته .. فهو مزعزع الثقة في نفسه، قد سُدت
في وجهه أبواب الأمل، وانقطع لديه الطموح إلى المستقبل.
· العجز
والكسل: نتيجة للإحباط يشعر الفوضوي أنه عاجز رغم توفر طاقاته وإمكانياته .. يميل
إلى الكسل ما دام قد مرت هذه السنوات ولم ينجز في عمله، لم ينجز في تربية أبناءه،
لم ينجز في تحقيق آماله، لم ينجز في سياسته الاقتصادية.
· فقدان
المواهب والملكات: لأن الذي يبدأ في شيء يحسنه ثم يتركه إلى غيره، يختلط عليه
الأمر، وشيئاً فشيئاً تضمر مواهبه، فالموهبة تتطور وتنمو بالممارسة وبتغذيتها
علميا وعمليا، أما الفوضوي فإنه تدريجيا – ودون أن يشعر - تتلاشى مواهبه، وتضيع
منه ملكاته، ويخسر هذه النعم التي ربما كانت فيه أمراً فطرياً وجبلياً.
· ضياع
الأهداف والغايات: الفوضوي ليس عنده هدف ولا غاية؛ لأنه: متردد، متحير،
متغير، متنقل، وبالتالي لا يكون عنده وضوح في الأهداف والغايات.
· ضعف
الثقة وسوء السمعة: ضعف ثقة الفوضوي بنفسه، تكسبه سمعة سيئة بين الناس، فإذا جاء أحد ليتعاون
معه قيل له: لا تتعاون معه؛ فإنه فوضوي .. لا تعتمد عليه؛ فإنه اتكالي .. لا تعوّل
عليه؛ فإنه ارتجالي .. إلى آخر هذه الأمور.
أما على مستوى تعاملات
الفوضوي مع الآخرين فقد يسبب لهم الكثير من المشاكل وربما أزمات والتي يمكن أن
تأخذ أحد الصور الآتية:
· القلق
والانزعاج: تجد الذين يتعاملون مع الفوضوي دائماً في قلق وانزعاج، لأنهم لا
يتوقعون ماذا سيصدر منه، حيث يتعامل مع الأمور بعشوائية، وحسبما يخطر في باله ..
يأتي ليزورك – مثلا - في وقت حرج، أو في وقت تحتاج إليه، أو يريدك أن تأتي معه في
مشوار دون اتفاق أو تجهيز مسبق، أو لا يلتزم الدقة في المواعيد.
· الإرباك
والاضطراب: قد تكون لك مع فوضوي حاجة أو طبيعة عمل تقتضي التشارك معه، فيسبب لك
إرباكاً واضطراباً لعشوائيته المفرطة.
· المعارضة
والمعاتبة: نتيجة كثرة احتجاج واعتراض المخالطين للفوضوي من جراء سلبياته، يحصل
معه نوع من الاختلاف، وربما يصل لملاحاة بالكلام، أو تلاحم بالأيدي؛ لأن الفوضوي
عموما شخصية مزعجة للآخرين، وبالتالي قد يخرجون عن طورهم في معارضته أو معاتبته،
ولا يخفى أثر تلك المشادات في تفرق الصفوف، واختلاف القلوب، وشحناء النفوس، ونحو
ذلك من الأمور التي تضطرب بها أحوال المجتمعات.
الانضباط الذاتي
يقول
د. إبراهيم الفقي: في إحدى محاضراتي عن سيادة الذات، قلت للمشتركين: إنهم كانوا
منضبطين طوال حياتهم، فسألني البعض باندهاش: وكيف
توصَّلت إلى ذلك؟!، فسألت أحدهم: هل أنت مدخن؟، قال: نعم، فسألته: منذ متى؟
وكم سيجارة تدخنها في اليوم؟، فقال: أدخن منذ عشر سنوات، وأستهلك علبة في اليوم،
فقلت: ألم أقل لك إنك منضبط، فإنك تدخن علبة سجائر يوميًّا بانتظام لمدة عشر
سنوات، ثم سألت شخصًا آخر: هل تشاهد التليفزيون بانتظام؟، فقال: نعم، كل يوم
تقريبًا، فسألته: منذ متى وأنت تداوم على ذلك؟، فقال: من حوالي 12سنة، نستخلص من
ذلك أنَّك شخص منضبط لمشاهدة التليفزيون.
هذانِ
المثالان يوضّحان مدى الالتزام، فالأوَّل ملتزم بأن يقضي على صحته، والثاني ملتزم
بأن يُضَيّع وقته!! فنَحْنُ دائمًا منْضَبِطُون؛ ولكنَّ الكثيرون يَستخدمون
الانضباط في العادات سلبيَّة مثل: التدخين؛ والأكل بشراهة؛ وإدمان المخدرات،
ومشاهدة التليفزيون بكثرة، وعدم ممارسة الرياضة؛ بينما نجدُ الأشخاص المتميزين
يستعملون قوة الانضباط الشخصي في تحسين مستوى حياتِهم، من أجل حياة أسعد؛ كتحسين
دخولهم، والارتفاع بمستوى صحتهم، والحياة بطريقة متكاملة، فبدونِ الانْضِبَاط لن
يكون لَدَيْنَا أيُّ طاقة لتحقيق أي هدف.
قال
(جورج برنارد شو): اهتمّ بأن تحصل على ما تحبه، وإلا ستكون مجبرًا على أن تحب ما
تحصل عليه.
وقال
الكاتب الأمريكي (جيم رون): إذا كان هناك عامل ضروريٌّ للسعي الناجح في سبيل
السعادة والرخاء، فهذا العامل هو الانضباط الذاتي، فهو الذي يحتوي على مفاتيح
أحلامك، وهو الجسر الذي يربِطُ بين أفكارك وإنجازاتك، وهو أساس كل نجاح، وعدم
وجوده يقودك إلى الفشل.
وقال
(هانيبال): إذا لم نجد طريق النجاح، فعلينا أن نبتكره.
لو
بحثْتَ في القاموس عن كلمة الانضباط الذاتي، فستجد أنها تعني التحكم في الذات،
فالانضباط الذاتي هو الذي سيجعلُك دائمًا متحمّسًا من بداية الطريق إلى نهايته، وهو الصفة الوحيدة التي تجعل الشخص
العادي يقوم بعمل أشياء فوق العادة،
وهو القوة التي تصل بك إلى حياة أفضل بإذن الله تعالى. قال دكتور (روبرت
شولر): لا تجعل أبدًا أي مشكلة تصبح عذرًا، كن منضبطًا لكي تحل المشكلة.
د/
خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق